بازگشت

انضمام زهير البجلي و ابن عمه


ثمة قافلة صغيرة، قادمة من مكة متخذة نفس اتجاه الركب الحسيني، تتابع الركب حثيثا، و تباريه عن بعد بشك مقصود متعمد و ليس عفويا.. و قد استهدف رجالها كما جاء علي لسان أحدهم، فيما بعد: حب الاطلاع علي ما سيجري للامام. أي لم تكن أدني نية لأحدهم في نصرة الحق، نظرا لميولهم العثمانية، أي تأييد للقول بأن عثمان قتل الامام علي، و هو رأي أموي معروف... أما رجال تلك القافلة فهم من سكنة الكوفة، عادوا اليها بعد تعجيلهم أداء الحج، ليروا ما يكون حبا بالتفرج و الاطلاع فحسب. و هم أفراد من قبيلة (بجيلة) و أفراد من قبيلة (فزارة) و علي رأس الجميع كبيرهم المقدم عليهم (زهير ابن القين البجلي)..

و كان زهير و جماعته يتجنبون أثناء سيرهم أي لقاء بالامام، بل تجنبوا الاقتراب من ركبه، و سايروه عن بعد، لأنهم - علي حد تعبير المؤرخين - يكرهون ذلك. «كان زهيرا كارها للحسين».. و ما زالوا علي حالتهم من السير حتي وصلوا الي مرحلة في الطريق الصحراوي هي منطقة للاستراحة، حتمت قربهم للركب دون ارادتهم، فاناخوا الابل، و حطوا الرحال في منطقة أشبه ما تكون بمضيق نسبة لسعة باقي الطريق، تعرف باسم «زرود» نزلها ركب


الثورة، و نزلوا هم الي الشمال منها. و لما علم الامام بنزول تلك القافلة علي مقربة من هناك، و عرف أن زهير بن القين البجلي، أحد رجالها و كبيرها، أرسل من يستدعيه للحضور. فلما وصل الرسول و أبلغه، دهش زهير عجبا «و كان يتغدي مع جماعته» فأسقط ما في أيديهم و وجموا كأن علي رؤوسهم الطير، اذ انهم علي كره منه، فكيف يدعوهم؟!! و سادت فترة صمت، بفعل الانبهار و البهتة، و جمد الدم بعروق زهير فلم ينبس ببنت شفة.. ثم انطلقت زوجته الصالحة لتمزق الصمت الرهيب، و تسحق هيبته الخرساء التي عقدت الألسنة كرها أو حباء، فقالت (دلهم بنت عمرو) [1] :

«سبحان الله! أيبعث اليك ابن بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟. لولا أتيته فسمعت كلامه». و لم تكن هذه المرأة الصالحة عثمانية النزوع و الميول، و لا متعاطفة مع الأموية، أو كارهة لآل بيت نبيها. فهي صالحة ناصحة، يتجلي ذلك بقولها هذا الذي ساعد زهيرا علي سرعة النهوض قبل التأخر و اساءة الأدب، فليسمع ما يقول الامام. و هكذا فقد ذهب علي مضض مع لهفة عارمة للسماع، ورافقه للمثول بين يدي الامام القائد، أحد الرجال (ابراهيم بن سعيد).

ثم ما لبث أن عاد من عند الامام الحسين... ولكن ما أسرع العودة، و أعجب مظهر العائد، فقد كان مسرعا متعجلا بالرجوع الي الركب الحسيني مرة أخري و أخيرة... أقبل بهمة و اهتمام قرير العين، ترتسم علي وجهه المتهلل خطوط السعادة، فتلحظ علي سحنته معالم البشر و الأنس... ها هو ذا يراه أصحابه من فزارة و بجيلة، فيبهتون.. فالقوة و الاعتداد و الاهتمام من مظاهر رجوعه، و لم تكن من مظاهر ذهابه، يرونه و قد لاحت عليه غبطة صميمية غير عادية صادرة من أعماقه، ورأوه يجسدها بالفعل و القول، اذ باشر بنقل رحله


و أمر بحمل ما يتعلق به الي حيث ركب ابن رسول الله و فدائيوه و حواريوه..

فلو حضر الموقف العجيب أحد من المشركين أو الفكرة أو الناصبين، لقالوا عن الامام الحسين: ان هو الا ساحر يريد أن يفتنكم بسحره هذا، كما قيل لجده المصطفي (ص) و الأنبياء من قبل، حال ممارساتهم للدعوة، و حين ينقلب اليهم بعض الأفراد، بفجأة و اعجاب بهم و بدعوتهم.. ولكن لا داعي للتعجب، و لا غرابة، فالحسين هو الهدي و دليل الحق لكل من أتيحت له الحظوة و سعادة الآخرة، بعد أن غطي عليه الجهل و الغفلة و الخلاف و أزمات الفتن، كزهير الذي اكتسحه التيار المعادي المغرض.. والحق، ان ذلك الموقف لقوي الدلالة علي حقيقة أن التذكير بالغ النفع للهداية «فذكر ان الذكري تنفع المؤمنين».

فيما ذا ذكره و هداه؟. ثم ما الذي دار في اللقاء من حوار؟. لا ندرك ذلك، غير أن ثمة معالم تنفيد المبصر المدرك أن الامام تحدث عن مقتله المقدس، و تنبأ به أمام زهير، و أنه ذكره بحديث لسلمان الفارسي قد نسيه زهير، و ليس أكثر من ذلك. ولكن ما أعظم مضمون ذلك و أسماء، و ان لم يتحفنا التاريخ بأكثر منه أو يزيدنا بقليل آخر!.

جاء عن (دلائل الامامة لمحمد بن جرير الطبري) برواية ابراهيم بن سعيد الذي رافق زهيرا للحضور - فقط -: ان الامام (ع) قال عن نفسه متنبئا: «انه يقتل في كربلاء، و أن رأسه الشريف يحمله زجر بن قيس الي يزيد يرجو نواله فلا يعطيه شيئا.» [2] .

و بعد ذلك.. جاءت الذكري: «لقد بشره بالشهادة و الفوز بالجنة، و ذكره بحديث طالت عليه الأيام فنساه» [3] .. و سمع زهير ذلك الحديث فاستبصر و ستفاق من غشيته و غفلته، و لكي يلبي نداء ابن رسول الله، نداء الله و رسوله.


عاد ليحمل متاعه و رحله، و ليحمل الحديث الي أصحابه، و يقف ليدعوهم به رغم تلهفه للرجوع حيث لا رجوع لأنه آخر العهد منه بهم، فقال: «من أحب منكم أن يتبعني، و الا فهو آخر عهد مني.» ثم قال: «سأحدثكم حديثا» و أصغي جماعته رجالا و نساء ليسمعوا ما سيقوله هذا الذي عاود الايمان الصادق طرق باب قلبه..

«... اني سأحدثكم حديثا أنا غزونا - بلنجر - من بلاد الخزر [4] ففتح الله علينا، و أصبنا غنائم ففرحنا، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أفرحتم بما فتح الله عليكم و أصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم، قال: اذا أدركتم سيد شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم.» [5] ..

فالمعروف أن جند الغزو، المنتصر الفاتح، يكون شديد الشوق لمغانم الحرب و تركات المعركة، فتذكر سلمان الفارسي [6] حقيقة الفتح، و المغنم الحقيقي المخلد بلا زوال، فصدع بدعوته مغتنما فرصة تلهف الجند و انكبابهم علي الغنائم في ساعة لهفة الفتح العارمة، و لذة النصر العالية، و نشوة الغلبة و الفوز. فعقب سلمان عليها بتوجيهه الأنظار الي ألذ و أعظم من ذلك الفتح و المغنم، بكثير جدا، بل الي المغنم الحقيقي، بحكم صدق الهدف و خلوص النية و سمو التأدية..

و لعمر الله فقد كان التوجيه صريحا، كبير الدلالة علي نزاهة الاندفاع و البواعث الذاتية، خاليا من كل ما يشين المسير، و قد جاء التوجيه بمحله و وقته، فبالغ بالأثر حتي احتقر ذلك الفتح و المغنم من احتقر.. و لا يغرب عن البال كون هذا التوجيه لا يستوعبه كاملا، الا مؤمن قوي و لا يستبصر بنوره


فيستفيد هداه الا مدرك قوي الارادة. فلا مكنة للضعيف أن يتأثر يذكراه لأنه لا ينبعث ذاتيا و بوحي منه، ليدخل نطاق المومنين و يقف علي خط النار.. لذا، لم يستجب من جماعته لحديثه الذي حدثهم به، سوي ابن عمه البطل (سلمان بن مضارب البجلي) [7] لأنهم رأوا في القضية موتا و قتلا و صورا لأبواب قبور مفتوحة.. فأبواب الحياة الدنيا بوجه هذه الثورة - بمفهوم ذوي الأطماع - مغلقة..

و يكاد يغادر زهير و ابن عمه فساطيط قومه الي القائد الفاتح، الي غنيمة الدنيا و الآخرة، فرنين الكلمات يصك الآذان: «.. فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه مما أصبتم من غنائم!.» فما الغنائم الا متاع الحياة الدنيا، و الآخرة خير لمن تقي..

«من أحب منكم أن يتبعني و الا فهو آخر عهدي مني». أو قال مختتما «فأما أنا فأستودعكم الله». [8] .

و قبل أن يغادر مع ابن عمه، التفت الي زوجته النجيبة صاحبة الكلمة النصوحة فأكد حب الخير لها حينما أكد توديعه لها الي الأبد بطلاقه لكل الدنيا و أنه لا يسهل عليه تركها أو طلاقها، فقال لها بلطف: «الحقي بأهلك فاني لا أحب أن يصيبك بسببي الا خير، لأني أفديه (ابن الرسول) و أقيه بنفسي». «و سلمها الي بني عمومتها».. ولكن هل ترتبك فتقهر؟. أتكره ذلك له؟. أتبكي علي حالها و حاله؟. أتلوذ بالصمت القاتل اذ لا تجد ما تقول فتعبس مولية؟. كلا لا هذا و لا ذاك، فقد أثبتت حقيقة أنها مؤمنة صالحة من زمرة ذوات التقي..

فآمنت بأن زهيرا علي خير، ذاهبا الي خير فلا قهر و لا ضير، و لا بد أن


كلامها له من كلام المؤمنات، اذ كان يتعهدها بالخير كما قال، فطلبت منه أن لا ينساها في أبديته و قالت كلمتها الأخري و سجلت النقطة الثانية لها في الموقف، حينما نطقت علي يقين بكلمة الوداع: كان الله عونا و معينا.. خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين عليه السلام [9] .. «

الركب الحسيني يواصل المسيرة الظافرة نحو الفتح المبين..» فقد تحرك باتجاهه الطبيعي نحو الشمال بينا اتخذ جماعة (فزارة و بجيلة) رجا زهيرة منحي آخر نحو مقصدهم..

و تجرد الاشارة الي أن كثيرين من الناس و الأعراب كانوا ينضمون في الطريق الي الركب كلما مر الركب بمنطقة أو فساطيط قوم و قبيلة... و كان منهم من بقي معهم و هم قليل و منهم من تقهقر هربا..

«و تابعت القافلة سيرها، كاسبة هذا النصير الجديد (أقصد زهيرا) و بقيت تنتظم رجالا آخرين كانوا ينضمون اليها خلال عبورها بقارهم و خيامهم عبر الطريق الطويل.» [10] «و مضي - الامام - في صحبة أهله و خاصته. والنصير الجديد و العظيم «زهير بن القين».» [11] .

و نذكر هنا أيضا أن الامام (ع) كتب رسالة لمخلصي الكوفة أثناء الطريق و بعثها بيد المجاهد المبدئي الشاب (قيس بن مسهر الصيداوي) من منطقة الحاجز من بطن ذي الرمة قبيل بلوغ منطقة (زرود) نبه فيها الي كونه قد اتجه نحو الكوفة و عليهم و علي كل أهلها أن يلزموا أمرهم و يتمسكوا بقضيتهم...

و هذا هو النص الكامل للرسالة الحسينية، نذكره لصلة أسلوبها الحكيم مع بحثنا:


بسم الله الرحمن الرحيم

«من الحسين بن علي، الي اخوانه من المؤمنين و المسلمين. سلام عليكم، فاني أحمد اليكم الله الذي لا اله الا هو...

أما بعد: فان كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم و اجتماع ملئكم علي نصرنا، و الطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع و أن يثيبكم علي ذلك أعظم الأجر. و قد شخصت اليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فاذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم و جدوا، فاني قادم عليكم في أيامي هذه ان شاء الله و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته» [12] .

و من خلال وقفة تأميلة بهذا النص التاريخي نستشف القيمة الرسالية الي تكمن فيه، اذ لا دعوة قسرية، و لا ترغيبات اغرائية...

و هذا هو منهج الامام الحسين القائد.. هذا هو الصراط الحسيني السوي سواء علي الصعيد النظري أم علي الصعيد العملي، كما هو ملحوظ في الخطوط البيانية المرسومة، منذ بدء انطلاق المسيرة الحسينية الخالدة حتي النهاية.

و قد أبلغ البطل قيس الصيداوي رسالته بطريقة ما - لم يسمح المجال لنقل كيفية ابلاغها. و قد ذكرنا الموضوع بكتاب مبعوث الامام الحسين ثم كان أن تحرك سرا عدد من الكوفيين لاستقبال الامام و ركبه. و قد نجحوا رغم المخاطر و انضموا اليه. و سنذكرهم في بداية الباب الثالث.. فحالات الانضمام باخلاص و اقدام كانت تسر عصبة الأنصار، فيستبشرون بالذين لحقوا و بالذين لم يلحقوا بهم بعد، لتقوية تضامن الثوار..



پاورقي

[1] رواية الطبري ج 4 ص 298 ورد عنها هکذا. ديلم بنت عمرو في مثيرالأحزان لابن نما.

[2] حياة الامام الحسين (ع) - ج 3 ص 67.

[3] المصدر نفسه.

[4] في رواية أخري: البحر من بلاد الخزر.

[5] الارشاد للمفيد (ره) ص 231 و الطبري ج 4 ص 299 و ابن الاثير ج 3 ص 277 مع اختلاف في اللفظ.

[6] قيل بلا تأکيد انه غير سلمان الفارسي. لکن هذا المحمدي خليق بأن يختص بذلک العلم من ثقل علوم مستقبل الأمة و قادتها الأئمة.

[7] وسيلة الدارين ص 151، و کتاب انصار الحسين ص 103.

[8] تاريخ الطبري ج 4 ص 299 وابن الأثير ج 3 ص 277.

[9] اللهوف لابن طاووس ص 9.

[10] أبناء الرسول في کربلاء لخالد محمد خالد ص 130.

[11] نفس المصدر ص 131.

[12] تاريخ الطبري ج 4 ص 297.