بازگشت

توطئة


في هذا القسم نبحث ببيان جلي، حالات الدوافع الذاتية، التي وقعت في الطريق، حسبما دون التاريخ من روايات، و علي صوء حوادث و مراحل وقوف الركب في الطريق، منذ الانطلاقة المجيدة من مكة، حتي حط الرحال وسط العراق علي رمال كربلاء. الحالات كانت من ارفعة و المكانة - من حيث التحرك الذاتي - قد تكفت بتصفية الركب من جميع ذوي النفوس الخائرة، أو الايمان الضعيف، أو المنافع الدنيوية، و تكفلت بابراز الأنصار العمالقة في مواقف بمنتهي الصبر و الصرامة، أو السلوك الذاتي، حتي كأنهم نسوا الدنيا جملة و تفصيلا، و كأنهم خلقوا لما هم مقدمون عليه ماضون اليه، و قد انضم اليهم كثير من البواسل في الطريق و التحق آخرون.

والحالات الكبيرة هذه من حالات الدوافع الذاتية، تبلغ اكثر من عشرين حالة رفيعة المضمون و النتائج، و لم ندرجا متسلسله حسب ما سلسلها التاريخ، أو حسب المراحل التي مربها الموكب - كمناطق و اسماء مواقع الطريق - بل فصلناها ما أمكن في فصول، وبوبنا الفصول بأبواب.

فعقيب صدور أوامر الامام الحسين عليه السلام، بالمغادرة و الرحيل في ذلك الطريق الطويل كان رهط من بني هاشم، آل الرسول الأعظم قد شدوا الرحال، كما فعل أيضا أوثق الأنصار الأوفياء، اذ أسرجوا الخيل - لمن كان منهم يملك ذلك - ثم تجهز من لا يملك مركبة للسير علي مار رزقه الله من رجلين تجودان عليه بمثابة جواد يمتطيه، و قد أشرنا في حالة أخيرة الي ظاهرة المشاة و متاعب الدرب الطويل.

و هرع الناس.. و تجمهرت جماهير غفيرة لتشهد، الرحيل الحسيني من مكة، مهبط الوحي الأمين علي سيد المرسلين. و أي رحيل كان ذلك الرحيل؟ و ماذا في روع الناس ياتري عن السبط الحسين و معني رحيله؟؟؟ بماذا فكروا، أو


احتملوا فتوقعوا و أي مذهب ذهبوا؟؟؟ علي كل حال فقد أظهرت سمات الوجوه بما ميز أساها. و لم يغفل التاريخ حزن المكيين و الناس أجمعين - كما في الصواعق المحرقة لابن حجر و غيره حسب ما ذكر الشيخ القرشي -

لماذا الحزن و الأسي؟ و باب الأسوة الحسنة مفتوح علي مصراعيه! و باب الاقتداء مباح للداخلين!!. لابد ثمة من دواع نفسية لحزن تتمثل بالتقصير و التفريط في جنب الله، و ارادة شريعته و صفوة أمنائه...

لقد ثم تجهيز الركب كاملا و حضر الرهط و الأنصار، ليكون التحرك المرتقب سريعا في ذلك اليوم المشهود و هو الثامن من ذي الحجة سنة ستين للجهرة.

و هنا يجدر بنا ذكر الفئات التي بدأت بمبتدأ تحرك قافلة الجهاد، و هم المومنون و غيرهم من اللامؤمنين، كما يلي:

أولا: نخبة المجاهدين المدنيين، و هم الذين نهضوا من قلب المدينة المنورة.

ثانيا: عصبة المجاهدين المكيين، و هم الذين رافقوا الامام من بطن مكة المكرمة.

ثالثا: ثلة المجاهدين الكوفيين، و هم الذين قدموا من الكوفة للامام، كبرير بن خضير الهمداني و كالمخلصين الذين قاموا بدور حمل آخر رسالة من المبعوث الحسيني في الكوفة، و كان علي رأسهم البطل العنيد، عابس بن شبيب الشاكري الهمداني، و مولاه، المجاهد شوذب، و البطل قيس بن مشهر الصيداوي، و غيرهم ممن وجد من الكوفيين.

رابعا: رفاق الدرب الطويل، و علي رأسهم شباب آل محمد و الفتيان الهاشميون، و أهل الأعباء، و حملة الثقل الرسالي، فتلك الفئات قد مثلت صنف الايمان كله، و هم المؤمنون حقا.

خامسا: حفنة من الناس كانت من الايمان علي ضعف، و هؤلاء رافقوا


المسيرة و ما لبثوا أن انسحبوا بفعل ما رأوا و سمعوا في الطريق مما نأتي علي ذكره، و بفعل انحسار أفق تفكيرهم بقلة ادراكهم و خور عزيمتهم، و بالتالي ضعف الايمان عندهم الذي تحكم بخطي سيرهم اذ لم يمنحهم الكفاءة و الأهلية للاندفاع قدما..

سادسا: فئات و عناصر سلبية و انتهازية، تشبثت بأطراف الركب تبغي المصالح لذاتية قد أخذت النزعة النفعية استقرارها بين جوانحها.. مما يفسر سرعة تراجعهم فيما بعد الي الخلف و هم يجمحون، فيتم التخلص منهم و تصفية وجودهم في المسيرة، فعل حوادث الطريق و بفعل منهج الامام الذي انتهجه بشكل مقصود لتصفية الحساب معهم و مع غيرهم من الضعفاء ممن لا يرضاهم الله، و خشية بقائهم الذي قد يحيق بشية من الأهداف أو يشوه معالم المسيرة و الثورة. و هؤلاء هم حثالة البشر، و هم من أكثر المرافقين عددا بلا اعداد أو اعتداد، بحيث خرج الركب و ظهر خلفه عدد كأنه جيش كبير كامل، بينما الأنصار يشكلون جبهة صغيرة لا جيشا بالنظرة المألوفة. و أولئك هم اللامؤمنون... تلك هي صورة الركب قبيل وقوع حالات الدوافع الذاتية الكبري في الطريق...

و من الضروري تفهم بعض النقاط بخصوص حركة الامام كاذهاب الي الكوفة - بدعوة اهلها من مخلصين و ضعفاء - ليس معناه أن الحركة الحقة لم تقع لولا تلك الدعوة و قد قال احد الكتاب و هو يؤكد هذه المسألة:

«لم يكن للحسين بد من أن يقاوم حتي لو لم يدعه من العراق داع، و لم يأته من الكوفة كتاب.. كل ما صنعته وفود الكوفة و كتبها اليه أنها عجلت خروجه.» [1] .

«أجل ما كن (الحسين) ليدع دين الله و دنيا الناس ألعوبة بيد يزيد.. بل


كان سيبشر بالمقاومة و يخلق ظروفها المواتية، ثم يضرب ضربته العادلة و سواء دعاه أهل الكوفة أم لم يدعوه، فلقد كان يهتدي الي مسؤولياته بنور ايمانه و بصوت ضميره، و ليس بتحريض قوة خارجية». [2] .

«و لما كان الامام الحسين عليه السلام لايعترف بمعاوية بالأمس فكيف يكون اذن، و المستخلف اليوم يزيد.» [3] ان خروجه من المدينة الي مكة، و رفضه البيعة ليزيد يشكلان اعلانا لمبدأ المقاومة»

اي أن من الضروري تفهم كون الحركة الحسينية المضادة للأموية، و المناهضة لمعالم الجاهلية المستحدثه، كونها حركة حق متربصة منذ زمان للعبة الباطل و لهو المبطلين.

فهي ثورة حقائق رصد الايمان لها كبريات طاقاته... و هي أقدم من وقت مباشرتها.. بل هي سابقة علي تحقيق خطواتها، مكنونة في ضمير الغيب، عند أمناء الرحمان علي دستور القرآن...

و ما دمنا لا ننوي التعمق ببيان أهميتها - لعدم المناسبة هنا - فنكتفي بمقتطفات من كلمات العقاد الذي قال فيما قال:

«خروج الحسين من مكة الي العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية، لأنها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية. لا تتكرر كل يوم و لا يقوم بها كل رجل.. الخ

«هي حركة لا يأتي بها الا رجال خلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم علي بال،


لأنها تعلو علي حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب و الدرب المطروق.

هي حركد فذة يقدم عليها رجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن و علي غير هذه الوتيرة.. لأنهم يحسون و يفهمون و يطلبون غير الذي يحسه و يفهمه و يطلبه أولئك الرجال...»

«هي ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة، و لا صفقة مساوم من مساومي التجارة و لا وسيلة متوسل ينزل علي حكم الدنيا أو تنزل علي حكمه، ولكنها وسيلة من يدين نفسه و يدين الدنيا برأي من الآراء هو مومن به و مومن بوجوب ايمان الناس به دون غيره.. الخ»

و من أروع كلمات العقاد نفيه لقياس جهاد الامام المعظم، اذ لا يقاس يغره من ليس له شبيه أو مثيل أو نظير...

فمن أين المعابير التي عمد اليها الذين كتبوا، لا سيما الذين جهلوا أو تعصبوا؟؟؟ و قد أتم العقاد:

«هي حركة لا تقاس اذن بمقياس المغامرات و لا الصفقات، ولكنها تقاس بمقياسها الذي لا يتكرر و لا يستعاد علي الطلب من كل رج او في كل أوان» [4] فكيف سمحت للبعض أنفسهم و ضمائرهم للنيل من الحركة و قائدها من بعض القدامي المعاصرين للحركة و بعض المعاصرين لنا اليوم؟؟؟.



پاورقي

[1] ابناء الرسول في کربلاء لخالد محمد ص 105 ط 1972 - 4.

[2] أبناء الرسول في کربلاء ص 101.

[3] يتوهم بعض الکتاب، کالاستاذ خالد نفسه بأن الامام الحسين لم يوافق علي الصلح مع معاوية، و هنا يوهم علي عدم اعتراف الامام به. بيد أنه من غير الممکن، بل من المستحيل أن يکون موقف الحسين من صلح معاوية غير موقف اخيه الامام الحسن في تلک الأزمة العصيبة، و مجالا لا يسع الاطالة فنحيل لمراجعة، البحث القيم للسيد محمد جواد فضل الله - رحمه الله - حيث کتابه (صلح الامام الحسن) ط بيروت 1973.

[4] أبو الشهداء - للعقاد - ص 105 و 106.