بازگشت

ملحق


من الجدير بنا تسجيل هذا الخطاب التاريخي للامام الحسين عليه السلام و قد رواه ابن شعبة الحراني في «تحف العقول. عن آل الرسول». و قد آثرنا ذكره لما فيه من ملازمة موضوعية مع منهج هذه الدراسة، و قد سبق أن وعدنا بستجنله، في معرض حديثنا عن أهل المدينة المنورة. و الحق ان الروابط وثيقة بين الدوافع الذاتية و مضمون هذا الخطاب الذي أورده فضيلة الشيخ القرشي في الجزء الاول من كتابه (حياة الامام الحسين) مدرجا اياه ضمن تراث الامام و عطائه الثقافي الثر مشيرا الي كونه ألقاه علي المهاجرين و الأنصار في المدينة، بيد أننا لا ندري فيما اذا كان زمن القائه هو في تلك الفترة العصيبة التي مرت بها الأمة أيام كان الامام يتجهز مجتهدا في اعادة العزة لها و ايقاظها من طويل سباتها. ولو تأكدنا من أن الخطاب هذا جاء في تلك الفترة و قبيل مغادرة الامام للمدينة لكنا و ضعناه ضمن البحث في الموقع المناسب و لكان لنا رأي غير ما ذهبنا اليه هناك بقليل اختلاف.


و بتقدير القائه آنذاك، فهل صدع به علي رؤوس جماهير غفيرة أم كان مع عدد محدود، زيادة في التحفظ من مبادرات العدو الذي لا يألو جهدا في معارضة قد تسفر عن انتهاك حرمة مدينة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم مختلفة نهرا من الدم...

و علي كل حال فان هذا الخطاب قد سمعه أهل المدينة، فشكل درسا حسينيا عن قضايا الأمة و سبل الحفاظ عليها جهادا حتما بمثابة الأداة الفعالة لمنح الأمة القابلية علي الحصانة التي تبقيا في ديمومة الوجود و الصيانة..

و فيما يلي النص الكامل [1] للخطاب فتأمل مضمون الدعوة الحرة للبذل و العطاء قال عليه السلام:

«اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه علي الأحبار اذ يقول: «لولا ينهاهم الربانيون و الأحبار عن قولهم الاثم» [2] و قال: «لعن الذين كفروا من بني اسرائيل - الي قوله - لبئس ما كانوا يفعلون [3] و انما عاب الله ذلك عليهم لانهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، و رهبة مما يحذرون، والله يقول: «فلا تخشوا الناس واخشوني» [4] و قال: «المومنون و المومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر» [5] فبدأ الله بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منه، أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء الي الاسلام مع رد المظالم و المخالفة، و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من


مواضعها في حقها ثم أنتم أيتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة و بالخير مذكورة، و بالنصيحة معروفة، و بالله في أنفس الناس مهابة. يهابكم الشريف و يكرمكم الضعيف و يؤثركم من لا فضل لكم عليه و لا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج اذا امتنعت من طلابها، و تمشون في الطريق بهيبة الملوك و كرامة الأكابر أليس كل ذلك انما نلتموه بما يرجي عندكم من القيام بحق الله. و ان كنتم من أكثر حقه تقصرون، فاستخففتم بحق الائمة؟. فأما حق الضعفاء فضيعتم، و أما حقكم بزعمكم فطلبتم. فلا مالا بذلتموه و لا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، و لا عشيرة عاديتموها في ذات الله.! انتم تتمنون علي الله جنته و مجاورة رسله و أمانا من عذابه. لقد خشيت عليكم أيها المتمنون أن تحل بكم نقمة من نقماته لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها، و من يعرف بالله لا تكرمون، و أنتم بالله في عباده تكرمون و قد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون!، و ذمة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم محقورة، و العمي و البكم و الزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، و لا في منزلتكم تعملون و لا من عمل فيها تعينون، و بالادهان و المصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي و التناهي و أنتم عنه غافلون. و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمون ذلك بأن مجاري الأمور و الأحكام علي أيدي العلماء بالله الأمناء علي حلاله و حرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة و ما سلبتم ذلك الا بتفرقكم عن الحق و اختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، و لو صبرتم علي الأذي و تحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد، و عنكم تصدر، و اليكم ترجع ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم، و استسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، و يسيرون في الشهوات، سلطهم علي ذلك فراركم من الموت، و اعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبد مقهور، و بين مستضعف علي معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم و يستشعرون الخزي بأهوائهم اقتداءا بالأشراء و جرأة علي الجبار، في كل بلد منهم علي منبره


خطيب مصقع فالأرض لهم شاغرة و أيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم حول لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد و ذي سطوة علي الضعفة شديد، مطاع لايعرف المبدي ء المعيد!!! فيما عجبا و مالي لا اعجب و الأرض من غاش غشوم، و متصدق ظلوم، و عامل علي المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا»

ثم انه أضاف مؤكدا المنطلق المبدئي في المقطع الاخير، ليكشف عن عمق الباعث المتمحض في الرسالية فقال سلام الله تعالي عليه مناجيا ربه سبحانه:

«اللهم انك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان و لا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، و نظهر الاصلاح في بلادك، و يأمن المظلومون من عبادك و يعمل بفرائضك و سننك و أحكامك.» ثم توجه للحضور المستمعين باصغاء قائلا: فانكم ان لم تنصرونا و تنصفونا قوي الظلمة عليكم و عملوا في اطفاء نور نبيكم، حسبنا الله، عليه توكلنا و اليه أنبنا و اليه المصير.» [6] .

و تتضح - بجلاء - أبعد النظرة الحسينية في استدراج المسلمين الي استرجاع حقوقهم، و استهاضهم لاسترداد كامل عزتهم المسحوقة. فمن بداية النص حتي نهايته لانكاد نعثر علي تفاوت أو اختلاف في العرض بالأسلوب الواحد من أجل الغرض الواحد. فظاهرة التناسب ملحوظة في سياق هذا الخطاب الذي هو من أروع الدروس التربوية للمجاهدين خلال مرحلة التعبئة و الاعداد.

و ان تسليط الضوء علي هذه الثروة كان بغية الاستفادة منها لأمر لابد


منه - ان شاء الله - ولكننا الان لا نملك يدا لذلك، و حسبنا التذكير الي عام خلوه من أي لون من ألوان الاجبار أو الاغراء، بل هو ملي ء بالموضوعية و مترجم للظاهرات الواقعية، و من ثم تتخلله الدعوة النزيهة الي تلبية نداء السماء بوجوب اتخاذ الاجراءات المناسبة ضد الذين انحرفوا بكراسيهم و أخذوا يديرونها حيثما تدور أجسادهم و أهوائهم لا حيثما يدور الحق.. و المهاجرون و الأنصار بيد أن (أكرمكم عند الله أتقاكم) و أتقاكم أكثركم عملا بطاعة الله فانما هي دعوة مبدئية بناء علي قاعدة الأمر بالمعروف، و انطلاقا من باب النهي عن المنكر وصولا الي ساحة الجهاد المفروض، تحقيقا لرضي الرحمان سبحانه و تعالي...



پاورقي

[1] لم يورد الشيخ القرشي نص الفقرة الاخيرة، ملاحظ ايراده من ص 154 - 152 الجزء الأول.

[2] سورة المائدة آية 66.

[3] سورة المائدة آية 81.

[4] سورة المائدة آية 47.

[5] سورة التوبة آية 72.

[6] تحف العقول ط 5 ص 172 - 171.