بازگشت

اهل المدينة و التحرك الذاتي


تسرب خبر موت معاوية و سيطرة يزيد الوارث للملك.. و مشاع في المدينة رفض ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، لسيادة القوي المنحرفة بهذا الشكل الدائم، و تسامع الناس بذلك، فاستشفوا دنو وقوع صراع جهادي يدفع الباطل و يدحضه، فلايبقي شك أو شبه ولا ارتياب لكل ذي بصيرة، و لمن ألقي السمع و هو شهيد،.. فكيف كان موقف الامام الحسين عليه السلام، من اهل المدينة و هو ينوي الرحيل معربا عن سخط الله و رسوله و معبرا عن سخط العقيدة و المبادي ء الاسلامية؟؟ ثم ما هو موقف اهل المدينة من رحيل الامام؟ و هم من هم في سوابقهم و عظيم قديم جهادهم القاسي ضد الكفر و الشرك، ضد جد الأمويين - أبي سفيان، صخر بن حرب، قائد الشرك و كبير اعداء الايمان - الذي ما انفك عدوا لدودا يدفن عداوته حتي بعيد تظاهره الأجرد بالاسلام؟!! فالمدينة و اهل المدينة، في غني عن بيان كونها القاعدة المختارة للرسول جد الحسين، التي انطلق منها داعيا مبشرا و نذيرا، حتي وطد كيان الاسلام، و المدينة مركز الاشعاع، فمثل اهل هذه المدينة لابد أنهم علي ستعداد للتضامن و التجنيد مع سبط الرسول الحسين عليه السلام كما تضامنوا و تجندوا مع جده بالأمس.. غير أن القليل منهم قد حظي بذلك...

والان نري موقف الامام منهم: فباعتباره مشرفا علي القيام بما أناطته العناية الالهية به من مهام لابد من اجراء يتخذه فيدعو الناس بكلمة الله الحقة، أو أي اجراء آخر لأج نفس الغرض.. و بتفحص التاريخ و القاء نظرة علي مدونات هذه الفترة لم نعثر علي ما يوحي باجراء قوي مباشر اتخذه الامام، فلم يقم بدعوة الغالبية أوي علي الأقل دعوة فئة صغيرة ولا فرد واحد، و لم يجبر


من أهل المدينة من يطمئن عنده علي سلامة المسعي و نجاح الانتفاضة فلا دعوة ايجابية اجبارية كانت أو اكراهية نظرا لكون ذلك منافيا و المعني الحسيني.. و بناء علي أن الامام عليه السلام لايريد أن يحمل من لا طاقة له بحمل دعوته، ولا من ليسوا هم بمستواها، فالمهمة اذن منوطة به وحده و بعصبة رهطه و ثلة صحبه و لم يستعمل اغراء و لا أسلوبا آخر من قبيل تقديم الوعود و العهود بعودة حياة سعيدة زاهرة جميلة، يعمها الصلاح و الأمن و تطبيق الدين.. فالامام يستهدف من يندفع و كل غايته الله، والله وحده وحب رضاه..

كما أنه لم يقم بخطبة جماهيرية، يفضح فيها المستحق للفضح، ويعلن فيها الوجهة التي يريد، ثم يثير الهمم و يقوي عزائم الناس، لأنه عليه السلام، لايريد من تثار همته بخطاب قصير، اثارة طارئة قد لاتدوم سويعات و أياما لأنها همم قلقة مذبذبة ليست راكدة مستقرة، و الحسين يرحب بمن تثيره ذاته، بل اثارته موجودة منذ زمان بحيث هو علي استعداد للجهاد مهما كان... و يستغني الامام عن غرض نشر الخبر، بفعل تسرب الخبر، لأن نيته العازمة علي الاستعداد للرحيل المرتقب، و لمزمعة علي ضرب الكيان الأموي و زعزعته بقوة عنيفة... و ان معني اعلان الخروج بخطاب جماهيري، هو طلبه للجند و دعوته للمسلمين المسلحين، في حين أنه - كنافذ البصيرة و بعيد المدي - يشك بوجود الأكفاء، الا القلة المؤمنة الواعية و من هم بهذه المثابة، لايحتاجون الي التحريض و الحث بالخطب، و هم يحضرون بلا سابق دعوة مباشرة... لقد أراد الامام القائد من الجند من هو ثابت الجنان، قوي الايمان، منماسك الشخصية حال تشابك الحراب و الأسنة.

هذا، و هناك بعض العلل التي تبرر تحاشي الامام المباشرة بتجنيد الأفراد، و قد تجنب مجرد محاولة التصريح الفصيح عن حقيقة الكيان الأموي و مجرد محاولة التوعية الجزئية بلا هدف تجنيد، و ذلك خشية وقوع الفتنة من قبل من يغتنم سنوح الفرص. فالسلطة و اعوان الأموية لا


تسكت عن أي ظاهرة أو بادرة يقوم بها الامام، خصوصا اذا كانت مباشرة لا سيما و ان مروان بن الحكم قد عرفنا عنه شيئا قبل صفحات - معرفة جزئية و غيظا من فيض - و هو لا يتأخر عن قيادة قوة تقلب المدينة المنورة الي مدينة حالكة الظلمة و الأموية لا ترعوي في ذلك اذا تذكرت واقعة الحرة و تدمير معالم النور في المدينة بل قذف الكعبة بقذائف المنجنيقات، لانها روح تواقة لكل ما جبلت عليه فتطبعت حتي اعتادت.. و مروان يأنس بلذيذ طعم دماء الأزكياء..

هذا و ان حرمة المدينة لاتهون علي سبط الرسول. فأية فتنة أو مناوشات أو معمعة ستحيق بقداسة حرم خاتم الأنبياء و سيد المرسلين صلي الله عليه و آله و سلم.

لذا، يكتفي الامام بمن حضر عنده من شباب آل الرسول، و شيعة اهل البيت الذين استعدوا جميعا للرحيل. و كان كل شيعي في تضامنه مع سيده الامام في كامل يقين و صلب عزيمة، قوي عرنين لايود من حاد الله و رسوله و لايتخذ بطانة من دون الله [1] ..

والآن نري موقفهم من الامام:

ان عموم المدنيين و من سكن المدينة، قد وقفوا مواقف الجفاء، فظلموا أنفسهم بركونهم الي الحياة و ايثارهم الدنيا. فقد اتسم موقفهم بالتجاهل والسذاجة، و لو أن عددا قليلا منهم كانوا روائع الفداء في ميدان كربلاء. غير أن الغالبية العظمي من اهل المدينة قد تخلفوا و قعدوا.. و اللوم و العتاب اكثر لأولئك الذين سبق أن عاصروا جد الحسين عليه السلام، رسول الله (ص).؟

و نزلت فيهم من الآيات ما تكرر في القرن الكريم، أولئك أشد في


اللوم و العتاب.. فلو تلوت هذه الآيات الممجدة بهم، تقرأها مرة أخري لرأيت كأنها تعاتبهم، قال تعالي مشيدا بأهل المدينة:

«ما كان لأهل المدينة، و من حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لايصيبهم ظمأ و لا نصب و لا مخمصة في سبيل الله، و لا يطؤن موطئا يغيض الكفار ولاينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح، ان الله لا يضيع أجر المحسنين، ولاينفقون نفقة صغيرة ولاكبيرة ولايقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون». سورة التوبة - 121 - 120.

فان نفت الآيات تخلفهم عن الرسول و رعايته و حبيبه لابد من فرق، و هو واقع في المجتمع و ليس في طبيعة القيادة الواحدة غيرالمختلفة، فمجتمع عهد - الرسول المدني - غيره مجتمع ما بعد عهد الرسول اذ أصبح مجتمع المدينة، و ليس المجتمع المدني المتعارف عليه في الصدر الاسلامي لقد تغير وجهه و انقلبت معالمه، بحيث اضطر الامام علي أميرالمؤمين (ع) الي اختيار الكوفة بدل المدينة، و هكذا جاءت الأموية و من قبلها تقلبات الامارة و الخضوع السياسي لها - أي المدينة - حتي استلبت معالمها و لم يبق من روحهها و معانيها و جلال سماتها شي ء..

و ان أسهم أقل القليل منها مع الامام الحسين كأسوة حسنة، و تأخر الكثير جدا بحجة أن الامام رحل الي مكة و ليس نحو مركز العدو، بصفة خروج مسلح عسكري فالحجة هذه تزول بعدما يتضح خروجه المصيري في الجهاد من مكة، قاصدا العدو و حيث وصلهم خبر خروجه، فلاحجة لمبرر مجرد متذرع!!!. «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته.»

وقف جمهور المديند ليودع الركب بحزن و أسي، لأن الجمهور أخذ يشعر بمبلغ ألم الفراق لريحانه حبيب الله محمد (ص) و مجموعة الشباب المحمدي


الهاشمي، و برفقتهم جملة من الأوفياء المخلصين، فقد قدروا ما للحسين من أثر في نفوسهم و هم يودعون الركب..

ولنعد الي الامام (ع) فقد دخل - قبل الرحيل - الي مرقد جده الحبيب محمد (ص)، ليقضي فيه ساعات من ذكري جهاد الجاهلية العمياء، و ليذرف علي ضريح جده قرات دمع زكية من عينيه الشريفتين... و يأخذه الكري، فيغفو لحظات ليلتقي في عالم الرؤيا بجده المعظم، فيأمره بالمضي علي بركة الله في جهاد عنيد لاهوادة فيه... و كأن الامام السبط يعاهد الله وجده علي تحقيق النبوة الكبري، التي ينطوي عليها الحديث الشريف «حسين مني، و أنا من حسين» و ليعطي لهذا الحديث مصاديقه و أبعاده و كنهه... اذ أن جده «ما ينطق عن الهوي، ان هو الا وحي يوحي.» و يسرع محمد بن الحنفية الي أخيه الامام ليقترح عليه بعض الاقتراحات حول مكان الجهاد و كيفيته و لايسعنا نقل النص فيشكره الامام، و يقول فيما يقول «يا أخي لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوي لما بايعت يزيد بن معاوية» محمد كان يقترح ما فيه سلام حياة أخيه، كأن يلجأ الي مكة فيأخذ البيعة.و اليمن و هكذا... فيقول الامام:

«جزاك الله يا أخي عني خيرا، فلقد نصحت، و أشرت بالصواب، و أنا أرجو أن يكون ان شاء الله رأيك موفقا مسددا. و اني قد عزمت علي الخروج الي مكة، و قد تهيأت لذلك انا و اخوتي و بنو أخي، و شيعتي، أمرهم.و أمري ورأيهم رأيي. و أما أنت فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لاتخف علي شيئا من امورهم [2] يعني بني امية

و كان محمد يشكو مرضا في كفيه لذا لم يقدر علي الذهاب مع الركب، فأمره الامام أن يكون عينا له علي امويي المدينة، كما سلمه وصيته التاريخية الجليلة التي منها قوله سلام الله عليه:


«... و اني لم أخرج أشرا و لا بطرا ولا مفسدا و لا ظالما، و انما خرجت لطلب النجاح و الاصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر، و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب.... (و للقاري ء ان يلاحظ اسلوب كلامه الشريف، بحيث تراه يريد المؤمن الواعي المدرك لهدفه) قوله مستطردا «فمن قبلني بقول الحق، فالله أولي بالحق، و من رد علي أصبر حتي يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و يحكم بيني و بينهم بالحق و هو خيرالحاكمين.. [3] .

.. و تجهز مع من قبله بقبول الحق ممن وصفهم لمحمد بن الحنفية بأنهم «امرهم أمري و رأيهم رأيي».. و قد ألقي نظرات الوداع علي مواقع مراتع الصبا الطاهر، و آثار الجهاد و علامات حتمية الانتقال الي جوار العزيز الرحمان، الي مرقد جده سيدالمرسلين، و الي مرقد أمه سيدة النساء، و الي مرقد شقيقه الحسن سيد شباب أهل الجنة... و...

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب..، ما كان حديثا يفتري..

ثم شد الامام رحاله، و أصدر أوامره مرمعا علي تغيير وجه الواقع، و قلب معالم الأمور، بصنع هزة مجلجلة تدوي باقية ما بقيت أروقة المساجد و القصور علي مر القرون و كر الدهور، سواء أمسك بزمام الحكم أم لا، أرادها ضربة حسينية نجلاء نزيهة عصماء، تلهب النفوس، و توقظ العقول و تدق أبواب القلوب!..


پاورقي

[1] ثمة خطاب تاريخي حسيني غير معلوم لنازمن القائه علي المهاجرين و الأنصار في المدينة راجع ملحق القسم الأول.

[2] انظر الفتوح ج 5 ص 32.

[3] الفتوح لابن أعثم ج 5 ص 34 - 33 و بحارالانوار ج 44 ص 330 - 329 الطبري ج 4 ص 253 - 252 و البداية و النهاية ج 8 ص 147.