بازگشت

التمهيد


دافع الحب... و الدافع النفعي:

حيثما يتحرك الانسان، و في.ي وقت كان، لبد ان يتحرك بوازع من الحب لأمر ما، بتفاوت مستويات الحب هذا... انها الرغبة المرحكة، و الشعور بالحاجة لامر معين.

و قد يكون الحب عاديا أو بسيطا، و ربما يكون تافها، و قد يكون جيدا ممتازا، او حبا ساميا لقضية أو شخصية، قد يكون أيضا بدافع الحب الرسالي الرفيع الدرجة..

أما الكره فله دوره.. بيد أن هذا الكره المحرك لايستقل عن حب محرك أيضا، و لايتوفر بمعزل عن حضور الحب المعوض و المعادل لذلك الكره، فلاكراهية بلا محبة تقابلها.. و هكذا تتصارع الأضداد.. و بالتالي فركيزة الدافع و التحرك أو الباعث، هو الحب الذي يتفاوت من حيث كونه حبا فقط، أو الحب الذي يتعادل بالكره..

أو الحب الشخصي للذات، فمكروه بحد ذاته من قبل التعاليم الاسلامية، باستثناء ما يكون تمهيدا للعمل حبا بالجماعة و الرسالة.. و لهذا قد نشعر بكره ذواتنا اذا ما استحوذت علينا. مصلحة خاصة أو نفعيد او أحسسنا بميل.ناني في كلام او عمل ما.. حتي تمتعض من هذا الشعور المقيت. و هذا الوعي للذات كفيل بحصانة الشخصيد و صيانتها من الغرور و مرض حب الظهور.. فكره الذات و النفس عند ذلك الشعور، محمود و حسن.. و ما يلقاه الا ذو حظ عظيم..


و قد راعي الاسلام ناحية الدافع فخصها بالاهتمام و دعا النفس لنبذ الانانية غير الجماعية في السعي: «و يوثرون علي أنفسهم و لو كان بهم خصاصة..» هكذا.ورد القرآن كريم، وزاد النبي العظيم: «أحب لاخيك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها.» و «عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملك الناس به.» هذه هي أسس الدوافع، و قواعدها التي يكون الحب قوامها.

أما الحب الرسالي، فهو أهم من الحب الاجتماعي.. لانه يشمل حب العقيدة، وحب أقطاب العقيدة، و حب الجماعة و الشعب أو الأمة التي يراد لها هذه العقيدة.. فواقع الحب الرسالي يعد أقدس الدوافع و.سماها، و أجلها و أعلاها.. اذ يتمخض عنه نكران للذات عجيب، و يتولد توق فريد للتفاني و الفداء، ملحا علي التضحية، و الذوبان في القضية العادلة.. هكذا لمسنا شخصياتنا الاسلامية المعنيبة بهذه الدراسة من أفذاد التاريخ: أصحاب الحسين (ع) «قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم» [1] فهم يندفعون حبا و يقصدون حبا أيضا، لا كهؤلاء: «قل ان كان آباوكم و أبنائكم و اخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و.موال اقترقموها و تجارد تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب اليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا، حتي يأتي الله بأمره.» [2] ... «فسوف ياتي الله بقوم يحبهم و يحبونه.» [3] .

ان مكيافيلي حينما يفسد حركة كل انسان علي.ساس نفعي مصلحي، يعد تفسيرا صحيحا بالنسبد ل بحكم التقائه مع دوافعه و نظرا لانبثاقه من طبيعته و سجيته..

و يحضرني بالمناسبة ما قاله «بنتام» من.ن الدافع دوما هو «اللذة» حتي اختلف علي قوله أصحاب الرأي، و نحن في غني عن الوقو طويلا هنا. و هناك


تفاسير غربية شبيهة بتفسير مكافيلي يعممونها، في حين.نها غير نقية ولا صادرة عن عقل بقدر ما هي صادرة عن منفعة و دفع نفعي، سيما وآراوهم اليوم مخاض عصر الاغراق في مادية المصالح الدنيا، وقاع المتاع الرخيص..

و بعد فنحن اذ نفسر بطريقتنا الاسلامية التي نص عليها الكتاب و السنة حيث دافع الحب و المودة، نوكد.ن دوافع رجالات الحسين، انما وجدت حين تمكن من نفوسهم الحب الرسالي كما تمكن في قلوبهم، ذلك الحب و الود الذي أمرهم الله و رسوله به.. و أمرنا نحن به: «قل لا أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربي» 23:42 الحب الذي صدرت أوامره من الحبيب محمد» [4] (ص) عن الحسين بالخصوص، لا باعتباره الحسين فحسب، بان باعتباره الحجة، و باعتبار جهاده المرتقب الصارم.. «اللهم ان أحب حسينا» «أحب الله من أحب حسينا.» و غيرها من النصوص أمثال «يا علي لايحبك الا مومن، و لا يبغضك الا كافر.».

و لعل هناك من يحلو له تفسير دافع النصير الحسيني باللذة أو المنفعة أو بما شاء ان يفسر و يعبر، لكننا نقول: اذا كانت في بواعث الحب الرسالي لذة، فما.سمائها من لذة.. و اذا كانت النفعية في الدوافع العقائدية فما أحسن و أروع هذه المنفعة و النفعية...

الظاهرة التاريخية:

نجد في سجلات التاريخ عرضا روائيا مجردا، لمعالم شخصيات اصحاب الامام الحسين عليه السلام، و هنا ندرس معالم الكيفيد التي التف بها الأصحاب حول الامام، و كيفية اقدامهم و تجمعهم حوله، و مثولهم بين يديه يفدونه بتنافس و تسابق علي ربي الطف ببطحاء كربلاء...


و اذ يتبني هذا الكتاب دراسة جهة الكيفية، و يجيب علي سؤال: كيف اجتمع و تجمع الانصار البواسل حول الحسين (ع)؟ و ما لهذه الجهة من بالغ الأهمية في مهمتها المتمثلد بابراز القوة الكامند الداخلية عند الأصحاب. و وظيفتها الدالد علي سمو الدوافع و التسيير، و البواعث العقائدية المبدئية. و الحوافز الذاتية لرجال الامس الخالد من جند الاسلام الأمناء المخلصين... و فعاليه دور التعبئد النفسيد القميند بتصدي و بمواجهة أخطر المحتملات في حياة المؤمن الأمين و سيتجلي بينا و يظهر و اضحا في سياق البحث حتي نهايته، مدي ما لأنصار الامام من قوة تعبئة و توطين للنفس علي المضي قدما و التفاني في جنب الاسلام و مجسده الحسين، في سبيل الله، من اجل كلمة التوحيد.

لم يكن اي واحد من الأصحاب مدفوعا مسيرا بقوة نفعيد مصلحية، و لا بقوة الضغط و الارهاب و الجبرية... و لم يكن سبط رسول الله (ص) مغريا لأحدهم، او مهددا آخر منهم، بل ذلك مما لايخطر علي باله، بحكم كونه الاسلام العملي التطبيقي، فكل منهم سار تلقائيا، يحدوه ايمانه و يقوده يقينه، منطلقا من وحي الذات، الذات المتسامية... نقول ذلك عنهم جميعا فردا فردا، و لا نعقب باستثناء لاحدهم أبدا، كحكم مدعوم بشواهد التاريخ، كما سيتجلي.

لم يكن الجو الذي اندلعت فيه شرارة الثورة الحسينية، بذي مهيئات للنصر حسب تصور الكثيرين، لاسيما من تخلف قاعدا عن نداء فريضة الجهاد المقدس، فالظروف التي تتصاعد فيها.لسنة نيران الحركد الحسينية، لم تكن مواتية، غير أن المومن - الأمين علي عقيدته - يفكر علي غير طريقة اهل التبريرات و الذرائع الرخيصة ممن قعدوا، او ممن كتبوا بمولفاتهم فيما بعد عن أن الثورة ليست بوقتها...

ذلك لأن مما لا جدال فيه أن الجهاد من حيث المعني و الجوهر، يستهدف حفظ الحق و معالمه الكبري و لا يشترط نصرا فمسكا لزمام الحكم، و ان لم يمنع منه، و لو كانت كل بادرة جهادية تشترط النصر بمعناه المتعارف، لأخطأنا بوادر


الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، من حيث لانشعر، أو من حيث يهدف المرء لتخطئة سبط الرسول... و اذا كان، الجهاد بتلك النظره من ضيق الأفق، فمتي و كيف يتسني للحق أن يعلن معالمه، و يتسني للحق.ن يعلن عما يكاد يطويه الباطل طيا فيطمسه؟ و كيف يأبي الله سبحانه الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون، ان لم يسخر لذلك اولياء و حججه بتضامن الصالحين من عباده، لديمومة الممارسة و العم مشفوعا بالبذل و الفداء و التضحية.

فالجهاد حسب مبادي ء الاسلام لاحسب رأي اهل الأقوال اللارسالية المغرضة هو الصدوع بالحق و الصرامة علي الباطل، و لذلك أشكال يتخذها الأمناء البررة في أثناء أداء الرسالة... انه صراحة الاعلان و صدق العمل علي رفض سيادة القوي المنحرفة، منذ البداية الممهدة و رفض لديمومتها باللسان و النسيف و دم الجسد، و نعني بالرفض رفض الاسلام لها من حيث المبدأ و يتم علي يد الأمناء عليه و حجة الله الامام الحسين عليه السلام. هذا ما فهمه اصحاب الامام.

أما طريقة الذين قعدوا قديما - او كتبوا حديثا - فهي تقضي بالصمت والسكوت و غلق باب الجهاد بخجة أن النصر و امساك زمام الحكم بعيد التحقيق ان لم يكن مستحبلا.. و هي حجة واهية دونما جدال فمتي توقف الجهاد علي نصر مؤكد فحكم سياسي، بقي الحق مستورا.. بل يظهر الجهل علي القائلين بذلك و أنهم ليسوا من الاسلام في شي ء، و لم يدركوا كنه مبادي ء الفكر الاسلامي.. و أنهم ليسوا علي مستوي من المسوولية لائق.. فقد سار اصحاب الامام بادراك و وعي لمعني الجهاد الاسلامي بمعناه و جوهره و مبدئه.. أما ما يتغلق بالجهاد من قريب كنيل الحكم، فليس ضربة لازب تتحكم بمسار السائرين علي بركة الله، و توقف الجهاد او تغلق بابه و فهمهم للجهاد و أصالتهم بفهم دينهم من اسرار الذاتية في الاندفاع بلا جبر أو اغراء.. سار كل منهم مع الركب الحسيني في مسيرته الخالدة، أو التحق به في الطريق، أو التحق فرابط في


كربلاء، و هو في كامل وعيه و شعوره يحس بالخطر المحدق، ثم لا يأبه له... ساروا في مسالك تخلوا من المشجعات - سوي الجنة - ثم ان طريق الجنة محفوف بالعقبات، و هذا هو الابتلاء، و هكذا يكون الامتحان، فيعظم الأجر و يربوا ما هو لله، اذ كل خطوة يخطوها نصير حسيني كانت بمثابة الاقتراب من حافة القبر، و كل مرحلة من مراحل طريق الركب تشكل عقبة كؤودا عسيرة العبور صعبة الاجتياز لايتلافي عسرها و صعوباتها الا الذين آمنوا «و قليل ما هم» و فعلا كانوا قليلين حيث و صلوا كربلاء و يمكن للناظر لهم عدوهم و احدا واحدا.. لقد واصل كل منهم نحو هدفه المنشود، فمضي علي ما مضي عليه من الحق التليد و قد أعرب عن عمق ايمانه، و خطر يقينه، و اصالة عقائديته، مع صرامة في الحقيقة و نصرة للحق، مقتديا بريحانة حبيب الله محمد (ص) سيد الاسلام و المسلمين و مفتديه بنفس ما لديه..

لقد حرص الامام عليه السلام في انتقاء الرجال الأكفاء اثناء سعيه المعظم.. و قام بدور مباشر في التحريك الذاتي و غير مباشر، حتي يخيل لك أنه في نهايد المطاف.شبه ما يكون بطير انتهي من التقاط الحب الجيد من الحب الردي ء... فالكيفية التي استقطب بها الامام أصحابه اهل البصائر انما هي مراد الاسلام و غايته، قاصدا باستقطابهم في دعوة الحق ضمان نتائج اعما العاملين للحق و الداعين اليه..

و نقول انه من الجدير بالقاري ء المومن أن يراعي الافادة من الكيفية التي و صل بها كل نصير حسيني. ففي ذلك مثل يستنار به في ظلمات طرق الحياة الحالكة، لانهم حقيقة، كانوا نماذج رجال الاخلاص... و هم خلاصة الرجال في حياة مرت بالمسلمين كادت تقرر مصيرهم نحو الهاوية... انهم صفوة عمالقة الجهاد بما عبأوا أنفسهم به و ما وطنوها عليه...

و نحن اذ نمجد الروح الكبيرة التي كانوا يحملونها بين جوانبهم وقوة الطاقة العقائدية الكامنة في قلوبهم، و ملكة الارادة و صلابة الصبر و بالغ العزيمة، اذ


نمجد ذلك كله، فلا يسعنا الا اغتنام الفرصة في هذا التمهيد لبيان القوي الغالبة علي تسيير الانسان، و التي طالما يقع اسيرها فتطغي علي معظم تحركاته، والتي انعتق منها اصحاب الامام فكانوا بحق ثلة الأحرار و علي رأسهم دوما - ان عد الأحرار أو ذكروا يوما -

الانسان بين الاكراه و الاغراء:

انهما اعم الظواهر السائدة و ابرزها ألفة في حياة الانسان. فالفرد و بالتالي الجماعه طالما يقعون في اسار الاكراه و الاجبار.. و هذا الاكراه طالما يتأتي من الخارج من فوق، من السلطة المتحكمة... و يأتي أحيانا من نفس الانسان اذ يكره نفسه علي أمرما... بمعني.ن الاكراه ككل، ليس منطلقا حكيما متأتيا من فكر سليم و حب للحرية، كما أنه يعيق بالهدف فيكسبه بشاعة الصورة و يقلل من قيمتة فلا تبقي له حرمة. أما اسار الاغراء فهو الاخر بنفس الوزن و الثقل، و لا نريد التحدث عنه بأكثر مما ذكرنا عن الاكراه، فهما توأمان، مع أنهما يتفاوتان.

والحكومات التي عرضها التأريخ كانت قائمة علي أحد الأمرين، كقاعدة انطلقت منها و قاعدة ضمنت دوامها علي اساس منها: فاما الاكراه و اما الاغراء. والأول كان شائعا مألوفا أكثر من الثاني، و قد يسيران معا في تصريف شؤوف الحكم و لضمان استتباب موقعه... فالاكراه تمثل و تجسد علي يد زياد بن أبيه و غيره من الأمويين و العباسيين حيث العبارة المألوفة «تجمير الجيوش» و «بعث البعوث للغزوات» بصفة تسخير للجند، بل أحيانا اخري بصفة عقاب للمئات ممن لم يطيعوا الأوامر. كما كان الأمراء يهددون باستعدادهم لعقاب الناس (الذين يستمعون خطبهم) بالتجمير في الغزوات و البعوث.. و اكثر دلالات اكراه السلطات للجندي هو نفس عمليات التهديد المتكرر الخطير لأهل الكوفه ان لم يخرجوا لحرب الامام...


نفس عمليات التحشيد و الدفع المحض اجباري للدخول في كتائب الجيش الجرار، حتي لم تستثن ال.وامر اي واحد من سكان اقليم الكوفة بمختلف اديانهم و مللهم... و انما ذكرنا هذا المثال فللمناسبة، و الأمثلة لاتحصر، و شواهد التأريخ جدا كثيرد علي انتهاج الاكراه...

و كذلك ايضا منهج الاغراء، فشواهده ذات عدد كبير... والذي تذكره هنا بالمناسبة هو المنهج الأموري لمعاوية نفسه، اذ ما قامت له قائمة الا و تحتها أموال المسلمين، و ما دام للملكه دوام الا و من وراء ذلك الدوام دراهم و دنانير الأمة!... فجيش الشام تربي علي الأعطيات الوفيرة و الدلال المغرض لتسخير قواهم، واعوان معاوية ووجوه حوله كثيرة لاتنتظر الا صفقات الأموال، واكياس الدراهم، و سبائك الذهب، ورزم الحلي و الحلل... هكذا هي الأمويه كيان قوامه الطمع و الاغراء و الجشع المذل.. بل كيان متاجرة بأقدس المقدسات و هو الدين... و قد ضمن معاوية بقاءه الي حين بشراء اديان الرجال، و لا غرو فالدين معني و روح، و الما مادة و نقد ملموس و هو قوام حيوية الطامع، فهل، يؤثر دينه؟! كلا فدنياه في ظل الدراهم احري بالايثار واجدر... نجح معاوية، و فاز منتصرا، ولكن الي حين فكانت له جولة... ولكنه لم يصرف ما اشتراه من الأديان فهي أوزار سيظل يحملها علي ظهره... و لسوف يقدمها غدا كدليل علي سياسته و ذكائه «ودهائه» - ان كان له ذكاء و دهاء كما يفخر البعض - ولكن ذلك اليوم لاينفع فيه أي لون من ألوان المكر و البيع و المتاجرة... (ذكر التاريخ كونه اشتري اديان قوم، و لعلك تجد كلمه للعقاد تلمح لذلك - في هذا الكتاب

و قد يطرح القاري ء سوالا نتيجة ما جاء اعلاه، و هو عن الامام علي عليه السلام و ما اذا كان قد اتبع الاكراه و الاغراء، في غمرة السياسات الاثمة تلك..؟ نقول، باختصار: ان كلا من الاكراه و الاغراء ليسا من روح الشريعة الاسلامية الغراء التي كان الامام علي عليه السلام حاميها و ممثلها و حافظها من


تشويه معالمها المقدسة. فالامام لم ينتهج اكراها أو اغراء، بل كان حربا عليهما كمنهجي سياستين او سياسة واحدة لاصلة لها بالفكر الاسلامي الذي حرص عليه الامام العظيم... أما منهج سياسته التي تفرد به فهو المنهجية الاسلامية بذاتها، منهج الرسالية المستبقلة عن غيرها من المناهج التي تستهدف دنيا فانية. و سر هيمنة طلاب الدنيا هو استعصام الامام في ارادة فكر الاسلام، و هو امر يحتاج الي وقت مديد طويل، لم يحالف الامام اذ امتدت اليه يد الاغراء لتغتاله... كما و.ن زمانه قد اتسم فيه الناس بقابلية التجنيد عند الاغراء أو العنف و الارهاب... و لامجال للاطالة هنا...

و فضلا عن القوتين الآنفتين، فثمة تأثير للفكر و المبادي ء علي السلوك و السير. فالفكر بطبيعد محتواه قد يفرض الصراع و يزرع روح العنف و الارهاب حبا بالانقلاب و الفوضويد و التخريب... بدعوي الصراع الطبقي مثلا و الروح الخربية، و قد جهدت الماركسية الي ذلك حتي جعلت السلوك و السير للفرد جبرا و اكراها و ارهابا.. اما في القديم فقد كان يتمث ذلك بالروح الجاهلية والعصبيه القبلية «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» فالباعث واحد، والروح تدفع الفرد عنود بلا تسامح مع عدم النظر للتبعات و النتائج و كل ما يترتب علي ذلك.. مع اقصاء النظرد الانسانية و سحق القيم و المثل. فالفكر المعني، بطبيعته يولد العنف و يقتل الذات و الحرية...

و شكل آخر يتخذه الفكر و هو ابعد ما يكون عن الانصاف و الانسانية، فقد يكون في العنف من حيث لايشعر المرء مثال: (الغاية تبرر الوسيلة) أو (نفذ ثم ناقش!.) فهنا لا تشم للحرية رائحة، و لا تستوحي للانسانية ايما اعتبار... بينما تجد فكرا يتضمن توجيها ساميا سليما للعمل و الجهاد و يكمن في الحافز كمونا علي مستوي الوجوب و بمستوي الفريضة. فالجهاد فريضة واجبة. ثم يحدد مواطن وجوبها و كيفيتها و وسيلة الجهاد المتفقد مع سمو الغاية... الخ... و الاسلام الذي يستقل بهذا الباعث الفكري، لايجبر أو يغري الا بما ينتظر الفرد من أجر


و ثواب و مكافأة و فيرة، رغب الله سبحانه بها، و رهب من مغبة ما علي الضد منها. و في النهاية فالمومن هو وحده الذي يلبي نداء الواجب متجاوبا مع الفريضة بوعي منه لمناحيها و متعلقاتها و أبعاد عطائها... و بالمناسبه يحسن بنا تذكير القاري ء بأن الامام علي عليه السلام كان يحث علي ذلك الأساس فراجع خطبه و كلماته الكثيرة التي يحتويها السفر النفيس - نهج البلاغه - لاحظ شرح الشيخ محمد عبده للتوفر علي أغلب الخطب...

و بعد أن نتهي من ذكر السلطتين الاكراهية و الاغرائية و تأثير الفكرة علي سير الفرد و الجماعة، نتساءل عما اذا كان اصحاب الامام الحسين قد ساروا مكرهين أو باغراء جاءهم من قوة فوقهم قضت عليهم بذلك؟؟ و دورما يؤمنون به من فكر في سيرهم؟؟ و ليس غير الكلام المنصف المنزه لهم من رد أو جواب.

والان لننظر الي ظواهر حوافز الانسان (الفرد و الجماعة) في السير و السلوك.

تفاوت بواعث الفرد و الجماعة:

يختلف أفراد الناس من حيث التربيد و التهذيب، و من حيث طيب العنصر والأرومة - قبل ذلك -، ثم من حيث الوسط و البيئة التي تحتضن الفرد فتوثر فيه بشكل بالغ، من ناحية العقلية و قابلية الادراك، او من حيث بلا شك... و عليه فان دافع الفرد هذا يتباين عن دافع غيره لنفس المهمة و الهدف، لكنهما يلتقيان بعدة جوانب و يتفارقان باخري و يندر أن يقترب جماعة في جوهر الهدف، بقوة واحدة و ايمان و اندفاع و تفان... الخ.

أما أنصار الامام فتراهم كأنهم علي نسق و نمط واحد من قود الايمان و اليقين...

و لما كانت الحيثيات متعددة، ولكن حيثية حتميد امتياز يفتقر اليها الفرد


عن غيره، فلا بد أن يقع امتياز كامل لجميع مواصفات الفرد و حيثياته، يجعله علي غير ما عليه الثاني بسعة في الفرق وبون شاسع، الامر الذي يولد التفاوت الجسيم ببواعث الفرد الواحد و الجماعة، فهذا مجبر، و ذاك يبغي المنصب... الخ.

- فمنهم فرد خائف علي نفسه أو علي ملكه، أو منصبه، و هذا ليس مكرها أو مجبرا، بل هو خائف. و ما بين الاثنين تغاير فلاحظه... و هذا الانسان لم ينله أحد بارهاب، و لم يستفزه باكراه. لكن طبيعته و سوء طويته تجعله خائفا و قد ينتهك بخوفه المحرمات... من قعود عن نصرة الحق أو مساهمة مع أهل البغي...

- أو فرد شديد الطمع بحطام الدنيا الفانية، فسيره نفعي مصلحي مقيت، و باعثه دناءة النفس فهو يتقدم حتي لو لم يغروه و لم يطلبوا منه شيئا أو يدعوه اليه، فينزلق وحده متملقا لأنه جبل علي ذلك وعاش يبيع شرفه و مثله و مفاهيمه، ويخون دينه فيبيعه قبل أن يطلبه المشتري منه، لذا فالثمن رخيص...

- و آخر يسير بهوي حب الظهور، كيما يقال له كذا و كذا.. بطل و شجاع أو.. أو.. فهذا لايحدوه الا عدم الاعتداد بشخصه وحب الذات و عشقها، فما اسعده لو ظهر وسط الساحة.. و بئس الرجل هو، لأنه سيفقد رجولته لاضطراره للهرب من تلك الساحة!!!

- ورابع يسير للعمل أو الجهاد بدافع ذاتي، لكنه غير مستقر، قلق مضطرب متردد، سهل الرجوع عند حلول المبرات النفسية أو العقبت العارضة..

- أما اكبر الأفراد في اخلاصه للعمل أو هدف الجهاد فهو الذي يسير بجوافز ذاتية و بواعث خالصة صافية غير مشوبة النية، بقوة رغبة، و ايمان بما


ينشده فلا يعرف للتردد صفات، ولا يفهم للتراجع مبررات، و لايخاف في الله لومة لائم أبدا..

تلك خمس حالات متفاوتة. أما تطابق أيها مع أصحاب الحسين عليه السلام، فيقرره المطلع النبيه، بل لايحتاج ذلك الي عمق تحليل أو تدقيق فيه، فمن البساطة و السولة أن نجزم بأن الأصحاب البواسل هم ممن عرفوا بالحالة الأخيرة الخامسة، و هم حقيقة الذين لايفهمون لغة التبريرات، أو يتعاملون مع صفات الترددات. فهم اهل المضي باقدام مطرد و مواصلة بعزيمة لاتنهد في خطي جريئة علي طريق الجهاد الخالد الممجد. و اذا كانت تلك هي القوة و مداها و خطرها للفرد كجندي مجند في جيش يحتمل العودة بعد نصر أو فشل، فما القوة الدافعة الذاتية لمن جند نفسه في جيش صغير مع عصبة قليلة في ذهاب لاعودة منه، بشكل موكد؟ أية قوة هذه اذن؟!!

من مقومات العم الذاتي [5] :

نورد في ما يلي اشارة عابرة و مجرد لمحات عن بعض مقومات التحرك الذاتي: العقيدة الصالحة: كلما كانت العقيدة صالحة تسمو بالانسان لقمم الشرف و كلما حرص عليها و أحبها و تفاني في سبيل بقائها، و كلما كانت تعلمه حقيقة الوجود و الخالق و النهاية، فلا يجد لتفانيه و موته في سبيلها الا حياة لها و حياة مجددة له في اليوم الآخر، الأمر الذي يبعده عن أرخص متع الحياة الدنيا الفانية.. فلايتعلق الا بأسمي الأهداف.

المبادي ء القويمة: و هي الأخري تشكل مقوما كبير الأهمية كلما كانت المبادي ء علي جانب من القوامة، و السلامة و المتانة كبير..

القائد أو الامام الكف ء الكريم: قد يوجد عقائدي مبدئي، ولكنه بحاجة


لقائد.. و الا فقد يرشح نفسه للقيادة لما له من مؤهلات: و قد يوجد قائد، و لكنه ليس كما ترغب به العقيدة و المبادي ء نظرا لكون المرء العقائدي يدرك ذلك و يدرك افتقار هذا القائد للكفاءة.. لذا فليس لكل فرد أن يصبح قائدا أو اماما أو خليفة يتصرف بمنح الصفت لنفسه و يتلاعب بامور الناس كيف يشاء.. و هكذا نجد خلاصة الرجال، و هم أهل البصيرة و الأصالة من حيث المبدأ.. نجدهم سراعا بالاتفافم حول الامام القائد، و حول أي امام و قائد يا تري؟! انه من يعرفه ذوو الألباب و الانصاف..

وعي و ادراك الواقع: المعاش بجميع سلبياته، و تجنب لقبائح الماضي و الحاضر، و استعداد لتلبية نداء الواجب حيثما علا و ارتفع معلنا البداية، بمعني عدم التعلق بالدنيويات الكفيلة بجعل الفرد بطي ء التلبية ان لم يكن بعيدا عنها، تحدوه المعنويات و الاخلاص، و النفس الصافية و الارادة الصلبة و عدم الجبن و خياند السماء و دين الله الحنيف، تلبية للضمير و الوجدان.. فمن لاضمير له و لاوجدان له لايستجيب للنداء الجهادي حتي لو استوفي العقيدة و استوعب المبادي ء نظريا.

تجنب التبريرات وخداع النفس:.و ما يسمي بالاجتهاد، كأن يقال ان فلانا اجتهد فلم يخرج للجهاد، و فلان اخطا فله اجر واحد علي اجتهاده، و فلان اصاب فله أجران حسب توزع ثروة الأجور علي المجتهدين الذين هم بالحقيقة ليسوا الا متهربين عن تأدية الواجب و تلبية صوت المسوولية.. لأن الاجتهاد لايكون علي حساب كيان المسلمين، فضلا عن عدم كونه مبنيا علي حساب شرع الاسلام.. و سنذكر مواقف الذين سماهم بعض الناس بذوي الاجتهاد في تخلفهم عن الامام العظيم سيدالشهداء.. و ذلك في البحث عن التحريك الذاتي بمكة. هذا و ان مقومات الانبعاث الذاتي تكمن في فاعلية ادوار عديدة لجوانب كبيرة من حياة الانسان نوجز اهمها و اعمها فيما يلي:

1 - دور الفكرة و العقيدة.


2 - دور القضية المطروحة، و الأزمة المستأثرة بالاهتمام.

3 - دور العدو و الخصم، و أثر مجمل كيانه و مواقفه..

4 - دور القيادة المتبنية للمباشرة العملية أو التوجيه.

5 - دور التجرد و نكران الذات.

6 - دور الشعور بالانتماء، و الشعور بالوجود..

7 - دور الحس بالمراقبة الربانية الراصدة المهيمنة. و لهذا الدور السابع خطورته، اذ عليه المعول و هو الأساس، و لطالما يكون مرتكزا لباقي الادوار و هذا ما سندرسه مفصلا في كتاب (الوعي الرسالي لأنصار الحسين) و لذا حذفنا التعاليق القاصرة حول كل دور، لكل جانب من تلكم الجوانب. التي يتسني للفرد من ورائها العمل ذاتيا، بل دافع رخيص آخر.. و كلما تجرد العمل من الدوافع الرخيصة كلما سمي نحو الاخلاص.

استهداف النوعية و اهمال الكمية:

لاحظ الكتاب قلة عدد الجند حول الامام الحسين. فمنهم من أشاد ممجدا [6] تلك القلة علي ما صبروا عليه و صمدوا وحدهم لأجله.. و منهم و هم قلة من جعل صغر جيش الامام مؤاخذة علي القيادة و لوما علي تلبية نداء واجب الجهاد...

و هؤلاء الذين ينظرون للكمية.. هم في غفلة و جهل للكيفية التي اجتمع الأوفياء بها، كما أغفلوا - اي أولئك الكتاب - جانب النوعية الراقية الكفيلة ببيان سمو الغاية و جلال المقصد.. فعلة جهل البعض و مؤاخذتهم للكم، هو عدم معرفة الكيف، مع عدم اعتبار هم للنوع، و هذا لعمرك منقصد الكاتب و موطن جهله الذي سول له الاشارة بخلل القيادة، كأنه في كمال علم بكل شي ء، و كأنه


ينظر لخروج الامام القائد بصفة بطل فقط يريد المباراة و الصراع فيدعو لتكثيف جنده من ورائه ليضمن احراز المباراة و الفوز بها.

لقد سمي الاسلام في نظامه و مناهجه التربوية الي تكوين المجمع تكوينا نوعيا جديرا بأخذ صفة الاسلام، و وضع لذلك التكوين مراحل مؤدية اليه، و حدد كيف يكون كفيلا ببلوغه، حتي نري الفرد المسلم و العائلة المسلمة، و المجموعة و الشعب و الأمة في نوعية مغايرة لنوعية غيرهم من البشر، سواء في مضمار الجهاد أو العبادة، أو الجانب الاجتماعي بمتعلقاته أو الاقتصادي. فالاسلام قد سير المسلم تسييرا ذاتيا في كثير من جوانب الحياة و لايسعنا الاطالة هنا بعرض المصاديق التي جمعناها منذ سنوات علي أن تكون كتابا مستقلا أو مقالا حول المسألة ذاتها..

أما غير الاسلام فمما لايمكنه تسيير من يؤمنون به ذاتيا. و قد نحكم باستحالة ذلك نظرا لأن التسيير بحاجة الي مقومات تفتقر اليها الاتجاهات غير الاسلامية، كالمادية الماركسية و الرأسمالية.. فبناء علي أن الاسلام يدعو الي تكوين نوعي، بحيث أهمل الكم و لم يعتبره الا نادرا، فان النوعية التي اختارها الامام كهدف بكيفية التحرك الذاتي ليس بها نقص الا اذا اعتبرنا وقوع النقص في الاسلام اصلا (و لا بد للكاتب المسلم المشار اليه أن يواخذ الاسلام اولا)

و نقول أخيرا: ان عملية الاستقطاب لذوي البصائر و الألباب، التي آثر الامام الحسين نفسه بها و عليها مهملا كبر الكمية مؤثرا رفعة النوعية، ان هي الا دلالة تفصح بكل صراحة عن مدي ما امتاز به كل نصير، و عن بالغ حرص القيادة علي ضبط الذين أسهموا كي تضمن حفظ الثورة بأصالتها و لا تشوه معالمها...

دور الامام في التسيير الذاتي:

سيتجلي في اعقاب البحث و خلاله، الدور العظيم للامام الحسين عليه


السلام، و موقفه ازاء التجنيد، ثم ازاء الجند.. فمنذ الخطوات الاولي للتحرك حتي الساعة الأخيرة، قد سلك سبيل النزاهة في عملية التجنيد، كما سلك طريق التصفية و اقصاء من يشك في اخلاصه، لحرصه المتشدد علي اظهار جبهة الثوار بمظهرها اللائق عبر التأريخ، فتكون واجهة مثالية يفيد منها المسلم و يستفيد، فأبعد العناصر الانتهازية و النفيعة، كما أرعب النماذج السلبية الجبانة حينما أنذر بما يرتقبهم من مصير محتوم و جهاد عظيم.. فليس عفوا برزت لنا كيفية المسيرة و ليس تلقائيا كان انسحاب ذوي الأغراض و الأطماع عشاق الغنائم و مغتنمي الفرص، فرص المعارك و الحروب!.. و ليس عفوا، أو مصادفه تلك القفزة الشجاعة لزهير بن القين البجلي من مذهبه الفاسد الي ما اليه و عليه ريحانة الحبيب محمد، أو الطفرة السديدة للبطل الحر الرياحي بانتقاله من جيش عمر بن سعد الي جبهة جبابرة الجهاد، بين شباب محمد و أنصارهم، و ليس الكثير مما وقع كان تلقيائيا، و سنأتي علي ذكره و نقف عليه، و انما نوجز هنا رغبة في تنبيه القراء الي ملاحظة ذلك بتشيعهم لفصول الكتاب و محتواه و دور الامام في حرصه علي تنزيه الركب الخالد، كيما يباشر أعماله المنشودة التي أراد لها سبط الرسول مستقبلها المشع علي مر الزمن، بتعاقب الأجيا و بتطاول القرون..

و نلفت أنظار القراء الكرام، و للمرة الثانية، لملاحظة ما رسمه الامام القائد من منهج موحد متقن في تعامل مع الرجال حتي بلوغ أرض الشرف، بل حتي الساعات الأخيرة، و حيث آخر ليلة و هي ليلة يوم المعركة الخالدة.

فمنذ البداية حتي تلك الليلة، نجد الامام في أسلوب من التعامل واحد لا يتغير. فهو أولا علي مستوي القول، نراه يستهدف تصفية النماذج السلبية، و استقطاب النماذج الراقية. و هو ثانيا علي مستوي العمل يرمي لنفس الغرض بالذات.

و يلتقي قوله الشريف بعمل الرسالي، ليتمخض عن كليهما ناتج قوامه الشخصيات التاريخية الكفوءة العملاقة التي حفلت بها سجلات الأبطال، يلتقي


القول و العمل مبنيا علي أساس واحد فوق قاعدة واحدة، وفق منهجية واضحة لاتتساهل مع النفعيات وروادها، ولا تتهاون مع المصلحيات و عبادها، منهجية القول و الفعل التي تكافأت مع الناتج الاخيرة فتمت معادلة متوازنة، ما برح التاريخ يحتفظ بها، مقدما اياها لكل جيل من كل شعب اسلامي عساه أن يستهدي بها و يستنير بضوئها، و عساه أن لا يفرط في جنب حقها.

بواعث الامام القائد:

من المفروغ منه تماما كون بواعث الامام كانت عبارة عن ترجمة عمية لارادة المبادي ء الخلاقة لشريعة جده العملاقة: و عبارة عن تمخض المواقف المبدئية الاسلامية، و تمثيلا للأصالة الرسالية، و لربما لانحتاج الي مزيد من التأكيد علي حقيقة أن دافع الامام و خروجه انما هو بمقتضي النداءات الصارمة و اللامنطوقة للقرآن و السنة.

فلانحتاج الي بيان ذلك، فضلا عن صعوبة التوفر علي ايفاء حق الموضوع أثناء دراسة مكرسة عن أنصار الامام و رجاله [7] ، و عليه فقد قررنا وضع الأسطر القليلة التالية.. و للمزيد، فالي دراسات اخري في بحوث مقبله ان شاء الله.

نقول: انه - و قبل التساؤل عن بواعث الامام - يجدر التساؤل عن طبيعة الوضع الكلي لكامل جماهير الأمة الاسلامية اولا، و التساؤل ثانيا عن طبيعة السير وفق مقررات الاسلام، لنري أين موقع الاسلام كمبادي ء و نظام في ساحة التطبيق، ثم مواقف الحكم و طبيعته.

و بعد طرح هذا السوال، سوف تبرز المبررات الموضوعية بجلاء، و من ورائها البواعث السليمة لقيام أي مخلص بنهضة جهادية، و ليس بواعث قيام الحسين بنهضته و حسب..


أجل، ان التدهور الاجتماعي، و التردي الخلقي، و الانهيار الاقتصادي: و تفشي الفحشاء و المنكر، و تمادي الحاكمين. و سيادة الفساد السياسي، يقابله الانحراف عن خطوط المسار الاسلامي، مشفوعا بمحاربة رجال الحقيقة ممن يشكلون امتدادا للنبوة و تمثيلا لها، كل ذلك كان يشكل تيارا خطيرا يقتضي ايقافه عند حده. و هو بمثابة موجات تجتاح الساحة الاسلامية، و يتعين عدم الصمت حيالها، لا من قبل الامام الحسين فقط بل من قبل كل مسلم مومن واع متحرر.. ولكن من يا تري كان أكثر وعيا و تحررا من الحسين؟!..

هذا و ان القوة الحاكمة ليست مشروعة و هذا معلوم سافا قبل نهوض الامام و هذه القوة مدانة قبل أي بحث عن الترديات العامة و التدهورات الشاملة للواقع المسلم..

ثم ان تلك الأمور مجتمعة و هي التي دعت لحركة مجلجلة ليست عوامل و اسبابا جديدة العهد في عصر الحسين، اذ عاصرها الامام مجملة و مفصلة، و هو يتربص فرصة الصدوع بنجاح فائق، وفق خطه مرسومة، ليمحضها التاريخ بالمجد و الخلود، و ليبقيها الله برهانا فيصلا بين الحق و الباطل، بين الحقائق والأوهام، بين طرفي خصام تاريخي تضرب به الأمثال و تستمد منه العبرة و تستنار به دروب السالكين للحرية، و سبيل المرتقين مدارج الاباء نحو قمة العز المؤثل.

لقد عاصر الامام ويلات الأمة، و عاش أجواء آلامها، متقصيا أرقام علل مرضها. بل كانت العلل بادية أمام ناظريه. فالعوامل السلبية متواجدة قبيل مجي ء يزيد لعرش المملكة. و عليه فتلك الأمور، انما هي مهيئات و فرت الأجواء المسوغة للجهاد و المناسبة لممارسته. انها مهيئات، و ليست أسبابا للخروج أو باعثا لقائد الحركة، بحكم أن هذه الأسباب سبق و أن كانت ماثلة شاخصة قائمة، منذ فترات، أسبق بكثير من فترة وزمن مباشرة النهضة، فالخروج كان حاجة أساسية منذ سنوات، و قبل سنة ستين للهجرة، بيد أنه وفي هذه السنة الفريدة


عبر طويل تاريخنا، قد تمت التهيئة، اذ تفاقمت العوامل و الأسباب و بلغت أوجها بل ذروة الحاجة، بحيث أضحي الصمت مدعاة لنزول غضب الله، بينما وضع الله حجة علي عباده في ملكوت أرضه، لابد أن يطبق جميع بنود مقررات ارادة الله في شرعه، ويلبي نداءاته لصالح مستقبل البشرية و الأمة. و ماذا ينتظر الله سبحانه من مثل حجته الحسين؟! أيجلس في داره بمكة أو المدينة، و حوله الناس و الزائرون.. كلا.. و هيهات. فليس لمثل هذا خلق.. انه ينتظر منه الصدوع بما أنيط به..

من هنا، فمبعث الامام كما يتجلي للناظرين و المبصرين هو عمق شعوره بواجبه، و تمام يقينه بمسؤوليته. فهو علي بينة من أمر ربه، و بينة من أمر مستقبل أمة جده.

و نحن في عجالة كهذه نطرح سوالا طالما تكرر طرحه من الكثيرين؛ هل كان باعث الامام القبض علي ناصية الحكم، أم لم ينتو ذلك؟؟ و الجواب علي طرفي هذا السؤال طويل جدا، و لا يسعنا غير ذكر ما يناب المقام، فنقول عن طرفي السوال: ينبغي توسيع الأفق أكثر، بغية استيعاب القاسم المشترك بين الطرفين، كما ينبغي التفهم الجاد لكون الامام قد استهدف أولا و قبل كل شي ء التقرير العملي لمبدأ الجهاد. استهدف الصدوع برسالة الجهاد بممارسة جدا جلية، لا بالقول و التنظير فحسب. و هذا الفهم الواعي ينسحب علي طرفي أو احتمالي السؤال، فان لم يرد امساك ناصية الحكم فمعناه أنه اراد تقرير مبدأ الجهاد، و ان أراد القبض علي الزمام، و امسكها أو لم يمسكها، فان ذلك القرير العملي هو المهم و الأهم في مجال تسامي الأهداف و البواعث، التي لامنافس للحسين عليها.

اذن فالمهم هو الانتهاء الي فهم القاسم المشترك و استيعابه، والخلوص الي الحقيقة التي لايهدمها أي توسع في الحوار بل و يدعمها، الانتهاء الي ذلك و أخذه كمسلمة دراسية علمية لاتقليدية، يتسني للمرء أن يستفسر عما اذا كان الحكم


مطلبا أم لا، و بمعزل عن ادراك الباعث العام الشامل و هو تقرير الجهاد عمليا فان الاستفسار يستحيل حينئذ الي محاولة لفهم ضيق للباعث ينحصر في جعل الانتهاء للحكم باعثا حسب سيادة الأفق الضيق للبواعث اليوم فينحسر بذلك التفكير و قد لانصل الي نتائج رسالية تتناسب و مقام شخص الامام.

بقي ان نتسائل تمشيا مع ما طرح عبر التاريخ: هل كان خروج الامام بأمر من الله، وجهه الي جده صلي الله عليه و آله و سلم، أم أنه اجتهاد من الامام الحسين، علي ضوء الشريعة الموكل بها؟؟.. و سنجد أن الاحتمالين بمثابة حقيقة واحدة، فنجيب بايجاز:

1 - بالنسبة للاحتمال الأول، فهو ليس مجرد احتمال، بل حقيقة أوردتها السنة الشريفة، ولايحتاج المرء كي يتأكد سوي استذكار ما جاء عن النبي (ص) حول سبطه الحسين. فلطالما كرر النبي (ص) أن لولده الحسين يوما شاهدا و مشهودا، و أي يوم؟!! و لطالما كرر و بكي لفداحة الفاجعة و هول الواقعة المتمخضةعن سعةالتضحيةفوق أرض كربلاء - التي كان اول من أعلن اسمها علي أسماع المسلمين هو صلي الله عليه و آله و سلم -.

ولا يمكن لاي فرد التنكر لهذه الحقائق النبوية المأثورة و المتناثرة في تراث جمهور المسلمين [8] ، و لايمكن حملها علي غير محملها اللائق بمقام النبي الكريم، ذلك لأن اشاراته الواردة حول مصير الأمة و ايراداته بشأن مصرع ولده السبط، تستبطن كون الله سبحانه قد أناط بالحسين جهادا مرتقبا دونما نزاع، و لو لا ذلك لبقي ما صدر عن الرسول رهن اليهام، و قيد ستار كثيف من الغموض.. و لايسعنا التفصيل [9] أكثر من هذا حول حقيقة اناطة السماء بالحسين مهامه التي


قام بها و أداها. علي أن هذه الاناطة يجب أن لاتوخذ مأخذ الاجبار في الأداء. و انما تكون بمثابة البرهان المتجلي علي صوابية خروج الامام المرتقب، و بمثابة دعم لصحة منطلقه، كيما لا يبقي منفذ لجاهل أو حاقد لكننا مع الأسف وجدنا من يجهل و يتجاهل و يتنكر و بمثابة دعوة محفزة للرجال من أجل الانخراط تحت راية الحسين الخفاقة، و كذلك وجدنا مع الأسف من يأخذ الأحاديث عكس بعدها الرسالي كما ستري بلمحة في البحث حول المعارضين و غيرهم..

أجل، ان القول بصدور الأمر من الله لايعني الجبر، و لا لاضطربت مفاهيم القضاء والقدر ولأصابها الغموض، و انما ياتي القول بصدور الأمر من الله كي تواجه مشكلات الواقع و أزمات الأمة بمعزل عن ملامات اللائمين و عتاب الجاهلين، و لكي تسحق اعتبارات المتهاونين المتبررين بقعودهم و العاتبين و هكذا خرج الحسين برجال و آل «لاتاخذهم في الله لومة لائم».

2- أما بالنسبة للاحتما الثاني، القاضي بأن خروج الامام قد يكون بوحي اجتهاد، علي نور ضوء الاسلام و شريعته، فهذا احتمال يستحيل الي حقيقة صحيحة صائبة بحكم العلاقة الوشيجة بين شخص الحسين و مقررات مبادي ء الاسلام، و بحكم تبادل المصلحة في وجودهما. فالحسين خلق للاسلام و عاش له و الاسلام يدعم مواقف الامام نظرا لأخذ تلك المواقف من شريعته.. و هكذا دام الحسين خالدا، و خلد الاسلام دائما.

هذا، فضلا عن أن الامام اجتهد، و ان لأي اجتهاد امكانية تخطئة من قبل المعارضين، أو التساهل و التفريط من قبل الجاهلين. فاجتهاده جاء مطابقا للدعم الالهي المتمثل بمجمل الأحاديث الشريفة كما أسلفنا.

3 - ان الاحتمالين «الحقيقتين» ليلتقيان معا و لاضير، بناءا علي أن الله سبحانه و تعالي، لايأمر بما لايتفق مع منطق التشريع وجوهر الرسالة، و مقررات القرآن و السنة..


.. و هكذا. دعا الامام لمباشرة العمل، و اقامة مجد الجهاد.. و لمواجهة شتي أشكال الانحراف، و لمحاربة العبوديات المستحدثة، و لمناهضة الجاهلية المستجدة بعدما زالت مولية وراء غبار صحراوي كثيف خلفته خيول جند الاسلام بقيادة جده رسول عليهماالسلام الله نبي المسلمين.

فليس الحكم علي الباعث الحسيني لمجاهدة أرباب الانحراف، ممن شهد لهم التاريخ بمحاولات استئصال شأفة الدين من قلوب المسلمين، ليس الحكم بمقولة يحارالكاتب في تدبيجها أو يحار في صياغة أدوات ترجمتها بالأحرف المناسبة، ولكن الحيرة و التحير بصدور و صياغة الحكم تكمن في مدي التجاوب مع الضمير والوجدان، وفي مدي الانصاف الداعي الي فهم الأمور، تكمن في مدي وعي الواقع و استعاب ارادة الدين الحنيف،.. و عليه فلمن يريد مزيدا من الفهم و كامل دراك جهاد الامام [10] ، عليه بما يلي:

1 - أللقاء مع الاسلام كمبادي ء لفهمه دونما قصور أو ضيق أفق.

2 - أللقاء مع الامام كما هو في موقعه عندالله و نبيه وفي الاسلام دونما تنكر.

3 - أللقاء مع التاريخ كيما يكشف لنا و بصدق حقيقة الظروف الراهنة يومذاك دونما لبس أو تحيز أعمي لأطراف مفضوحة.

.. و أخيرا فان البواعث الحسينية لها من البعد الموغل في عمق المستقبل ما يشهد به وجود الاسلام و ديمومته الي اليوم، و بقاؤه الي الغد خالدا.. و نعتذر عن الوقوف علي مضمون هذه العجالة الأخيرة، و حسبنا تسجيل هذا القليل..



پاورقي

[1] سورة آل‏عمران آية 31.

[2] سورة التوبة - آية 24.

[3] سورة المائدة - آية 54.

[4] ننبه القراء الکرام، الي أننا سندرس مذهب الدوافع في کل من الاسلام و الأفکار الوضعية.. مذهب الحب الاسلامي مقارنا بمذهب المنفعة المادي. و سيتم ان شاء الله.

[5] سندرس المقومات، شکل أوسع بکتاب (الوعي الرسالي لانصار الحسين نظرا لشدة الروابط بين الوعي و العمل.).

[6] کالعقاد اذ قال «و انما تکون الندرة هنا أدل علي جلالة المرتقي الذي تطيقه النفس الواحدة أو الانفس المعدودات، و لا تطيقه نفوس الاکثرين.» ص 22 ابوالشهداء.

[7] بيد أن الأستاذ الجليل سماحة السيد محمد الصدر بملاحظاته الخاطفة کان قد اقترح الاشارة الي بواعث نفس الامام لجهاده، في اثناء البحث عن البواعث الذاتية لرجاله الأحرار.

[8] حيث ينظر لحکم الامام بانه غاية لا وسيلة، بمنظارنا اليوم للحکام الوصولين الأقزام.

[9] سيطالعنا کتاب الوعي الرسالي لانصار الحسين - بفصل مفصل و بحث علمي بعنوان - الرسول يجند الجند لثورة الحسين -.

[10] مع أن ذلک لايحتاج الي خوض، فمن يطلب منا الدلائل علي صواب الخروج و دلائل عظمة الدوافع، يمکننا التوسع معه بصورة اکثر من المتوقع، اذ نملک من الدلائل الشي‏ء الکثير الوافر.. بيد ان بيت القصيد هو في کون الامام نفسه دليلا، و شخصه يقدم اسطع برهان، فه هو يا تري رجل عادي او زعيم من عوام الزعماء و القادة؟؟ کلا فهو بمثابة حجة بذاته، اذ به يتم الاستدلال علي الأمور...