بازگشت

المقدمة


ربما لا نغالي اذا قلنا بادي ذي بدء: ان طبيعة الباعث [1] بأي عمل ما، هو الذي يحدد قيمته، و من ثم نجاحه، فأبعاده. و البواعث الذاتية الايجابية من جهة، و البواعث السلبية من جهة ثانية تلعب الدور الفعال في تحديد العمل قبل مباشرته، و تعلن قيمته قبل انجازه، و تعطي أبعاده قبل تحقيقه.

و طبيعة الدوافع هي التي تمنح الرجال القائمين بالعمل المعين هوياتهم، و تبرز شخصياتهم قبل ممارستهم دورهم و قبل مزاولتهم نشاطهم.

و هذا و سر بقاء بعض الاعمال بتقدير عال، رغم أنها لم تصل الي ذات الهدف المرسوم. ولكن رجالها، و البواعث الجامعة لهم قد أضفت علي عملهم أهمية و قيمة لاتنالها الاعمال التي سبق و بلغت نقطة الغرض المطلوب.. اذن فالدوافع طالما تتحكم بتقديرات الاعمال و الانشطة المختلفة، سواء كانت ايجابية أم سلبية، فكل عمل و ما يناسبه من باعث، و كل باعث و ما يقصده من غرض.

ولربما سمت الدوافع نحو العظمة، دون أن يتحقق العمل و يبلغ منتهاه، لكن قيمته باقية لكل من العاملين و دوافعهم، و ذات العمل، و لو أنه منعزل عن النتائج نظرا لعدم تحققه، و لو تحقق بنتائجه المرجوة، فان القيمة لاتزداد و انما تضاف اليها قيمة و قيم جديدة..

فالقيمة اذن، تؤخذ من أصالة البواعث قبل وقفها علي طبيعد انجاز العمل


و نتائجه، و لم نكن لنطلق الحكم هذا جزافا و اعتباطا، و انما هو حكم مستنبط من واقع الأمور و ما يمليه التفكير، فالمنهجية العامة للدراسات و التحليلات العديدة حول أنماط من مواقف تاريخية جمة متفاوتة الاهمية و مختلفة التأثير علي سير الأحداث و الحياة توكد ذلك... فالحكم ليس جزافا بدلالة ما يلي:

1 - حينما يريد المحلل أو الباحث أن يتوصل ألي تفسير أية ظاهرة، فانه انما يعول علي أوليات و مقدمات تشكل مواقع بواعث الظاهرة و منطلقاتها.

2- و اذا ما سعي أي دارس لكشف موقف.و اجراء ما، لفرد أو لجماعة، فانما يلتمس علل اتخاذهم الموقف أو الاجراء، و لا يسعه بلوغ هدفه الدراسي بمعزل عن الذهاب هذا المذهب.

3 - نفس الشي ء يقال عند بيان عوام نجاح أو نصر قائد و جيش، فانه لابد من اللجوء الي حقائق الدوافع الكلية و الجزئية.

4- و بنفس المنطق يكون اعطاء.سباب فشل ما، وانكسار ما، فان بحث الاسباب لاينهض بمعزل عن تبيان البواعث، و لايسعف الباحث شي ء بدون تحديد و تفهم طبيعة الباعث.

أما الاكتفاء بالتذرع بادراج التناقض مثلا بين الوسائل و الغايات، و ترقيم العوامل مع اكثارها فلا بد فيه من اعتراف ضمني بما نقول، سواء شعر الباحث و لم يشعر. فمن بيحث في الوسائل و الغايات انما يبحث أيضا في البواعث قطعا و بلاجدال.

و ان حدث «أمرما - خلال مباشرة العمل فانه متأثر بباعث لاشك فيه: و هذا ما نضرب له المثال التالي: حيث ان جند الاسلام في احد لايرتاب أحد في سمو بواعثهم و دوافعهم الكلية، ولكن نكسة احد انما جاءت، فمن تردي بواعث بعض الجند، فيقال ان بعضم ترك موقعه فوق جبل احد و هبط الي الأرض، و هذا من العوامل الخطيرة التي فرقتهم، و الحق ان البواعث السلبية


للبعض هي التي هزمت الجميع، اذ دفعهم حبهم لجمع الغنائم، و بعثهم تلهفهم للمنافع الدنيا فتركوا مواقعهم العسكرية و هبطوا ارضا ثم انهزموا - بعد.ن دار العدو فاحتل الموقع الجبلي هناك - و عليه فالباعث الكلي الايجابي قد تصدع يباعث جزئي - كما نسميه -.

و ان محاولة التقيم و التقدير، و لاتكمل بقدر كمالها و فق قاعدة البواعث. ذلك أن الباعث بحد ذاته يشكل قيمة عالية، فهو يفرض نفسه سواء تم التقيم سلبا أو ايجابا.

و بعد، فاننا - و علي ضوء الاسلام - بحد النية ترعي باهتمام خاص و عناية كبيرة ملحوظة. نية الفرد و الجماعة في أي مسعي و نشاط ما، اذ تتحكم النية بكل شي ء و هي الاساس الذي يحسب للانسان حسابه عليها طوال عمره، و لذا فقد شدد الاسلام علي النية و النية الحسنة الايجابيد، و انطلاقا من هذا المفهوم الاسلامي الجاري علي جميع الأنشطة و الأعمال، فان كل فريضة اسلاميد أو قرار اسلامي، و ممارسة اسلامية، مرفوضد و ليست مقبولة من قبل الله سبحانه و تعالي، لعدم مراعاتها القصد.

ان مفاهيم الاسلام لاتسمح ببمارسة عمل دونما وعي له، و استحضار الشعور معه، و لا تويد العفوية و اللامبالاة و الانجراف بايجاء اللاشعور، و النحدار في تيار السلوك الجمعي، ذاك ان الاسلام يدعو للقصد في كل شي ء... يدعو للهدفيد في كل خطوة من خطوات مسارات المسلم الصادق.

اما الحكمة في هذه الدعوة لالتزام حسنيات النوايا المقصودة. فهي حكمة تظهر بما يترتب علي ذلك من نتائج عظيمة جدا.. اذ تشكل النيد الايجابية الاسلامية ضابطا من ضوابط العمل المعين، محددا للقضية المعمول من.جلها و مقوما لها، و متحكما بقيمتها و بعطائاتها. و من هنا فالنيد الخالصة لرضي الرحمان هي الدعامة الكبري و الاساسية في قبول لعمل مع نجاحه و ثراء نتائجه.. و ليس رضي الله، بمعزل عن صدق العمل و هدفيته و القصد فيه..


هذا، و ان الباعث و النية اذا سمت فبلغت ذروة الذاتية تعد منتهي الطاقات الفعالة من أجل القضايا المطروحة.

و بحثنا هذا، هو محاولد لكشف الدوافع الذاتية النبيلة، و النوايا العظيمة لأكبر من سجل التاريخ أسماءهم من رجال الفناء في قضايا الحق... محاولة لاستمداد القود من دروس التجارب التاريخية، و المواقف الصلبة في التاريخ، لاسيما مواقف.نصار الحسين سيد الأحرار. فهو بحث يلتمس بيان معالم البواعث الذاتية النزيهة، و الحوافز الرسالية لرجال الامام الحسين، منذ انطلاق المسيرة التاريخية المجيدة من المدينة فمكمة حتي العراق حيث المرابطه علي ربي الطف ببطحاء كربلاء... درس و دروس في تحكم ارادة العقيدة و الاعتقاد، اراده الاعتقاد بقضايا الاسلام الحسينية..

لقد جاء كل نصير حسيني الي كربلاء، بوحي ذاته و بمحض اختياره، و لهذا فان سلوكهم و سيرهم حتي استشهادهم، كان بعيدا كل البعد عن أبسط أنواع التأثيرات الخارجية الرخيصة - كما سنري - اذ انطلقوا من صميم ايمان و عمق اعتقاد..

أما بالنسبة لما عولنا عليه من مصادر: فقد قمنا بالرجوع الي مدونات التاريخ المعتبرة دونما تمييز بين التأليفات الشيعي.و السنيد. و نحن رهن المادة الاخبارية المدونة التي جاءت علي غير استيفاء لشؤون الأحداث، فمها لا يخفي أن المورخ كان متأثرا بظرفه السياسي، مرتهنا بطبيعة.هواء الحكام الذين يعاصرهم، فضلا عن أن الراوي و ارواة كانوا أشد خضوعا للظروف و العهود و اذا علمنا بأن التدوين التاريخي انما يعو علي سعد معلومات الرواد و مدي حريتهم، فكيف تستوفي الاغراض و تستوعب أخبار أحداث الفترات، لاسيما الخاصة بأهل البيت عليهم السلام، ناهيك عن تعمد التشويه بمبادرات متكررة من قبل راو أو مورخ او كليهما!.


ان حريد القول و التدوين لم تكن بمتسعد او مسموح بها، و تبعا لضيق هذه الحرية فقد ساد التاريخ نمط متشابه تقريبا من المرويات التي نقدر كونها أبسط الروايات و أهونها، حيث سمح بتداولها علي الألسن و تناولها بين الناس، و من ثم جاء المورخ ليسجلها في ملقاته و صفحاته، و تبعه معاصر له، ف.خذ من جاء فيما بعد عما سجل باضافد ما استجد سماعه أو كتم اعلانه.

لقد عمدنا الي جملد من المصادر فأفدنا منها بكثرة:

ككتاب - الفتوح - لابن أعثم و هو من مورخي القرن الرابع الهجري.

و كتاب - تاريخ الأمم و الملوك - لابي جعفر الطبري.

و كتاب - الارشاد - للشيخ المفيد و هو من أعلام القرن الرابع أيضا.

و كتاب - للهوف - لابن طاووس.

و الكامل في التاريخ - لابن الأثير.

البداية و النهاية - لابن كثير.

و بحارالانوار - للمجلسي.

و أعيان الشيعة - للسيد الأمين... و غيرها...

كما اعتمدنا بالدرجة الثانيد عليم صادر تاريخية أخري، فمنها:

تاريخ اليعقوبي - و انساب الأشراف للبلاذري.

و تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي.

و مثيرالأحزان لابن نما... و الامامة و السياسة لابن قتيبة.

و تحف العقول - لابن شعبة الحراني.

و الأخبار الطوال للدينوري - و سير أعلام النبلاء للذهبي، و غيرها.

و استفدنا - فضلا عن ذلك - من كتب حديثة لمولفين معاصرين، و لم نغفل ذكر ذلك في هوامش الصفحات عندما تستدعي المناسبة.. و قد ثم الانتقاء وفق المعقول من الأخبار، و أهملنا مالا قابلية للعقل علي تحمله، و كانت نظرتنا


تقضي بأخذ المعقو و ان لم يكن مشهورا، علي أن يتفق مع الماسبد.و الشخصيد و كل القرئن الصحيحة، أما ما لم ين قسطا كافيا من القناعات العقلية فاننا نتركه حتي و لو ذكرته أكثر المصادر.

اما في مجال منهجنا المرجح اتخاذه خلال الدراسة حتي الختام فنجمله بما يلي:

خصصنا تمهيدا يتضمن مواضيع ملازمة لدراسة كما يمكن ملاحظة العناوين. ثم قسمنا الدراسة ككل الي ثلاثة اقسام، و كل قسم يمثل مرحلة زمنية من المراحل التي مرت با المسيرة الحسينية التاريخية نحو مجدها الخالد.

القسم الاول: جعلناه بمثابة الحديث عن المرحلة الأولي المحصورة بالمدة الزمنية لتحرك الامام الي مكة، من المدينة ثم مغاردة مكد و تبعا لهذا رأينا فتح باب خاص للحديث عن المديند المنورة، ثم فتح باب ثان عن مكة، و لكل باب فصوله و مواضيعه.

و تسلطت الأضواء الساطعة علي المواقف العصيبة في كلا الاقليمين، لاسيما و قد أمطنا اللثام عمن أسميناهم بالمعارضين والذين تعمدوا التخلف دون مبرر شرعي.و اجتهاد - علي الاقل - عليم ستوي التشريع.. و قد تخلل الفترة الزمنية هذه انضمام عدد من المهاجرين و الانصار و المسلمين و التابعين باحسان. «وجموع غفيرة» من ضعفاء الارادة الذين سينسحبون لواذا.

القسم الثاني: و يتمثل فيه درس الفترة الزمنية المبتدئة بالرحيل النهائي للامام من مكة نحو العراق، ختي بلغ الركب محط رحاله الأخير، بين النواويس و كربلاء، و قد جعلنا القسم أبوابا و جعلنا لكل باب فصوله و مواضيعه.

و قد التحق و انضم في هذه الفترد عدد من عمالقة الجهاد، فيما تراجع متقهقرا لكثير من «الجموع الغفيرة» التي أشرنا اليها قبل قليل، حتي تمت تصفيتهم من لركب تماما، و قد تميزت الفترة بظهور معالم المخاطر، ولاحت عن بعد نهايات


الرجال و مصيرهم الأخير، و هنا يتوصل القاري ء الي حقيقة أن النصير الحسيني قد بلغ قمد الاندفاع العقائدي، حيث كان لايبالي بالخطر الذي أحدق به و أخذ يتجلي له كلما قطع الركب في السير مسافة.

القسم الثالث: و تفرته الزمنية هي بين وصول الركب الي كربلاء حتي يوم عاشوراء حيث رابط رجال الركب علي الساحة عدة ايام قبل وقوع الاشتباكات الرسالية المسلحة، و يضم القسم بابين مع فصول و مواضيع، و قد تميزت هذه المرحلة الزمنية بالتحاق و انضام عمالقة آخرين انضموا لجبهد جند الحق الحسيني، فسجلوا اسماءهم في قائمة الخلود، و هم من أهل الكوفة خرجوا منها مثني و فرادا بعدة طرق سرية نتيجة احاطة الكوفة بالحراسة، و العيون المتربصة بهم و بأمثالهم، و سنطلع علي آخر خطوة للامام الحسين عليه السلام، تتمثل باماطة اللثام عن حقيقة العزم و مستوي اليقين و مدي التوطين عند.نصاره المخلصين، اذ سمح لهم بالانسحاب جميعا، و فتح باب الانصراف علي مصراعيه، تلافيا لاحراج أحد منهم في خوض غمار حرب علي الأبواب توشك ان تبدأ. فكان جوابهم عمليا: و هو عدم التراجع.بدا، فرغبهم الامام بالسلامة، فرغبوا به و لم يرغبوا عنه، رغبوا به بكامل اختيارهم و بواسع وعيهم و حريتهم الشخصية، و رابطوا معه حتي أنفاسهم الاخيرة بمحض ارادتهم و بوحي ذاتي جلي.

و بعد الأقسام الثلاثة.وردنا مواضيع متعددة جمعناها تحت عنوان الفصول الاخيرة، كالحديث عن السلوك الجمعي، و الحديث عن بلوغ مستوي محض اليقين، و كتفسير ظاهرد التفاني عند بعض الناس و الأحزاب..

ثم ختمنا الكتاب آملين اسداء خدمة عامة و متواضعة الاسلام و المسلمين.

أما حياة الامام الحسين فمترامية الأطراف، واسعة النواحي. و القضية الحسينية حافلد بالكثير من الجوانب، و نحن انما نقف عليها فمن جانب واحد ألا و هو أنصار القضيد الحسينية، ثم اننا لم نقف علي كل متعلقات الأنصار، و انما كان وقوفنا علي جهة واحدة، و حديثنا هنا من حيثية واحدة: هي دراسة


الأنصار من حيث بواعثهم و سمو دوافعهم وعظمة منطلقاتهم، بينما سنتناول جهات اخري في بحوث مستقلة قادمة ان شاء الله.

و هكذا، فانا سنطلع علي رهط الرسول و هم يتحركون بقيادة عميدهم الأكبر الامام الحسين، و من خلفهم عصبة من صفوة المسلمين، و خلاصة الرجال المتقين، يسيرون جميعا و هم يسعون الي وضع لبنات بنية كيان المستقبل لهذه الأمة، و هم يمزجون كل لبنة بفيض من دماء نحورهم وسائل جراح جسومهم، بارادة صلبة و عزم لايلين، و اندفاع معجز و انبعاث واع لأبعاد العقيدة و المبادي ء الاسلامية الخلاقة..

هناك تسطع وجوه الذين نذروا أنفسهم للحقيقة، و ما جاؤا الا لله، وفي الله، و علي ملة رسول الله، تحت راية حجة الله و سبط رسوله الحسين بن علي عليهم السلام.. أولئك الذين كان كل نصير حسيني منهم يذوب في عقيدته، و يفني في قضيته، حتي فرضوا اسماءهم علي التاريخ، بل فرض التاريخ علي نفسه تمجيدهم و تخليد عطائهم. أولئك الذين أظهروا خلال مسيرهم الصعب - كما سنطلع - ما استحال علي التاريخ تكرار نظيره...

«قل هذه سبيلي، أدعوا الي الله، علي بصيرة،.نا و من اتبعني» و ما توفيقي الا رهين بدافعي و نيتي...

محمدعلي عابدين

مديند الكوفد المقدسة

شهر صفر 1397 هجرية

1977 ميلادية



پاورقي

[1] المقصود هو الباعث الدافع، و کذلک الباعث الغائي، حيث يراد من کلمة الباعث «الدافع» للعمل المعين.. و قد يراد منها «الغاية» و الهدف من تحقيق العمل المعين..