بازگشت

ورعه و تقواه


كان الامام الحسين، عليه السلام، قواما بالليل، صواما بالنهار، عابدا لله حريصا علي طاعته، مسارعا الي الخيرات، سباقا الي التزود بالطاعات و القربات، روي ابن عبد ربه في العقد الفريد أن الامام علي زين العابدين بن الحسين، سئل؛ «ما كان أقل ولد أبيك، قال: العجب أن يكون له ولد، أو كيف ولدت له، كان يصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة، فمتي كان يتفرغ للنساء»، و رغم اعتراض ابن تيمية علي هذه الرواية بسبب كثرة الصلاة، فما لا ريب فيه أنه كان كما يقول ابن الأثير «كثير الصلاة»، و أنه عليه السلام كانت له صلوات يؤديها غير الصلوات الخمس و أيام من الشهر يصومها، غير أيام رمضان، و لا يفوته الحج عاما الا لضرورة، فلقد روي ابن عبدالبر في الاستيعاب عن مصعب الزبيري أنه عليه السلام، حج خمسا و عشرين حجة، ملبيا ماشيا علي الأقدام».

هذا و كان الامام الحسن حريصا، الحرص كل الحرص، علي اتباع سنة جده النبي صلي الله عليه و سلم في كل صغيرة و كبيرة، روي أن عكرمة رضي الله عنه قال: «وقفت مع الحسين، أي يوم الحج، فلم أزل أسمعه يقول: لبيك لبيك، حتي رمي الجمرة، فقلت يا أبا عبدالله ما هذا الاهلال، قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يهل حتي انتهي الي الجمرة، و حدثني أن رسول الله صلي الله عليه و سلم أهل حتي انتهي اليها»، و روي المحب الطبري في ذخائر العقبي عن الامام علي بن موسي الرضا، أن الحسين بن علي رضي الله عنه حين دخل الخلاء ذات مرة، و جد لقمة فدفعها الي غلام له و قال: «يا غلام، أذكرينها اذا خرجت»،


فأكلها الغلام، فلما سأله عنها قال أكلتها يا مولاي، فقال الحسين: «اذهب فانت حر لوجه الله تعالي، ثم قال سمعت جدي رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من وجد لقمة ملقاة فمسح أو غسل ثم أكلها، أعتقه الله من النار»، فلم أكن استعبد رجلا أعتقه الله من النار».

و كان الامام الحسين قوي الايمان بالله،: راضيا بقضائه و قدره، واثقا بما عنده، جل و علا، روي ابن حجر في الاصابة أن الامام الحسين مات ابن له، فلم تظهر عليه أية كآبة، فلما سئل في ذلك قال: «انا أهل بيت نسأل الله فيعطينا، فاذا أراد ما نكره فيما يحب رضينا»، و هكذا كان رضي الامام الحسين المسير الي الكوفة راضي النفس، مطمئن القلب الي قدره الله و قضائه، بعد أن أخبر حديث الرسول صلي الله عليه و سلم «يقتل الحسين بأرض بابل»، فلم يصرفه ذلك عن المسير اليها و قال «فلا بد اذن من مصرعي»، و في الواقع، لعل أبعد سجايا الامام الحسين، عليه السلام، أثرا في حياته، كونه عبدا ربانيا، و لخفاء هذه السجية النورانية علي مرتزقة التاريخ، فلقد استباح البعض منهم، كما يقول الأستاذ حسين يوسف، نقد بعض تصرفات الامام الحسين، فاتهموه، مخطئين، بالاستبداد بالرأي تارة، و رموه بالتهور و عدم التبصر في العواقب تارة أخري، و أكدوا، ثالثة، أنه عليه السلام، أراد بخروجه منازعة للخلافة، و علوا في الأرض، أما الذين أنار الله قلوبهم، فقد وضعوا سبط النبي صلي الله عليه و سلم و سيد شباب أهل الجنة، في المقام اللائق بمكانه من رسول الله صلي الله عليه و سلم و رأوا في كل تصرفاته، أنها أعمق من أن تصدر عن هوي، و لكنها صدرت عن الهام رباني و كشف واضح جلي، ذلك أن الامام الحسين كان حبيبا الي الله تعالي، فلقد دعا له النبي صلي الله عليه و سلم و لأخيه الامام الحسن فقال صلي الله عليه وسلم، فيما يروي الترمذي عن البراء بن عازب»، اللهم اني أحبهما فأحببهما، و أحب من يحبهما»، و بدهي أن دعاء رسول الله صلي الله عليه و سلم مجاب، لأنه لا ينطق عن الهوي، و قد روي الترمذي و الامام أحمد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة».


هذا و قد بين رسول الله صلي الله عليه و سلم أن محبة الله تعالي لعبده تسمو به الي المقام الربانية، فيصبح بفضل الله، عبدا ربانيا علي بصيرة من كل أموره و علي يقين في جميع أحواله، روي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: فيما رواه عن رب العزة، جل و علا، ان الله تعالي قال: من عادي لي وليا فيد آذنته بالحرب، و ما تقرب الي عبد بشي ء أحب الي مما افترضته عليه، و لا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتي أحبه، فاذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و يده التي يبطش بها، و رجله التي يمشي بها، و لئن سألني لأعطينه، و لئن استعاذني لأعيذنه»، و مقتضي هذا لحديث القدسي أن وصول العبد الي هذا المقام من محبة و القرب من الله تعالي، يكسبه قدرة خاصة و أحوالا خاصة، منها أنه يسمع بأذنيه في بعض الأحيان ما لا يسمعه الآخرون، لأنه يسمع بسمع الله تعالي، و منها أنه يبصر ما لا يبصره الآخرون لأنه يبصر بنور الله تعالي، و منها أنه يقدر علي ما قدر يعحز عنه الآخرون، لأنه مؤيد بقوة الله تعالي، محاط برعايته و وقايته، و الخلاصة أن سيدنا الامام الحسين، عليه السلام، كان دونما ريب، ربانيا، بكل ما في الربانية من معان: و بكل ما ترمز اليه من أحوال، صلوات الله و سلامه علي جده المصطفي، و علي آل بيته الطاهرين المطهرين.