بازگشت

تواضعه و آدابه


روي أن الامام الحسين مر بجماعة من المساكين يتناولون طعامه في الصفة، فدعوه الي مشاركتهم طعامهم، فما تردد، عليه السلام، في الاجابة، و هو صاحب المكانة العالية بين أهل الأرض و أهل السماء تواضعا منه لله، و تطيبا لنفوس هؤلاء المساكين، فنزل للجلوس بينهم و هو يقول «ان الله لا يحب المتكبرين»، و بعد أن تغدي الامام مع القوم قال لهم: قد أجبتم فأجيبوني، قالوا نعم، فمضي الي منزله و قال للرباب زوجته «قدمي ما كنت تدخرين»، فقدم لهم رضي الله عنه أطيب ما عنده، مقابلا تحيتهم بأحسن منها، و دعوتهم اليه بأكرم و أجمل.

هذا و قد سن الامام الحسين لمن بعد سنة في آداب الأسرة تليق ببيت النبوة الذي نشأ فيه و وكل اليه أن يرعي حقه و يوجب علي الناس مهابته و توقيره، فهو، علي فضله و ذكائه و شجاعته و رجحان عقله، الي غير ذلك من مناقب كثيرة، و مآثر عدة، كان يستمع الي رأي أخيه الأكبر الامام الحسن و لا يسوؤه بالمراجهة و المخالفة، فلما هم الامام الحسن بالتسليم لمعاوية، كان ذلك علي غير رضي من الامام الحسين، فلم يوافقه و أشار عليه بالقتال، فغضب الامام الحسن و قال له «و الله لقد هممت أن أسجنك في بيت و أطين عليك بابه،


حتي أقضي بشأني هذا و أفرغ منه، ثم أخرجك» فلم يراجعه الامام الحسين بعدها و آثر الطاعة و السكوت، و روي ابن عساكر في التاريخ الكبير أنه جري بين الحسن و أخيه الحسين كلام حتي تهاجرا، فلما أتي علي الحسين ثلاثة أيام تأثم من هجر أخيه، فأقبل علي الحسين و هو جالس فأكب علي رأسه فقبله، فلما جلس قال له الحسين: «ان الذي منعني من ابتدائك و القيام اليك، أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به»، و جاء في ذخائر العقبي للمحب الطبري أن أبا هريرة روي عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، و السابق السابق الي الجنة»، قال أبوهريرة: فبلغني أنه كان بين الحسن و الحسين هجران و تشاجر، فقلت للحسين رضي الله عنه الناس يقتدون بكما فلا تتهاجرا، و أقصد أخاك الحسن أدخل عليه و كلمة فأنت أصغر منه سنا، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «السابق السابق الي الجنة» لقصدته، و لكن أكره أن أسبقه الي الجنة، فذهب الي الحسن فأخبره بذلك فقال: صدق أخي، و قام و قصد أخاه و كلمه و اصطلحا، رضي الله عنهما.

هذا و قد وقع أمر مشابه لذلك مع الامام الحسين و أخيه محمد بن الحنفية، ما حملهما علي الافتراق متغاضبين، فلم يلبث محمد أن كتب الي الامام الحسين بقول «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن أبي طالب الي الحسين بن علي بن أبي طالب، أما بعد، فان لك شرفا لا أبلغه، و فضلا لا أدركه، أبونا علي رضي الله عنه، لا أفضلك فيه و لا تفضلني، و أمك فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، و لو كان مل ء الأرض نساء مثل أمي، ما وافين بأمك، فاذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك و نعليك و تعال فترضني، و اياك أن أسبقك الي هذا الفضل الذي أنت أولي به مني، و السلام»، فما أن تلقي الامام الحسين هذه السطور من أخيه ففهم مقصودها، و علم أن أخاه الأصغر يشير في كلامه الي حديث سيد المرسلين صلي الله عليه و سلم الذي يحرم فيه التقاطع و يحث علي التسامح و العفو، فلقد روي البخاري في صحيحه عن أبي أيوب الانصاري أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فيعرض هذا، و يعرض


هذا، و خير هما الذي يبدأ بالسلام»، فلم يتردد ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم في الاستجابة لطلب أخيه، و لم يمنعه أنه الأكبر سنا، و الأشرف حسبا و نسبا، أن يأتيه و يترضاه.

هذا و من رعاية الامام الحسين لسنن الأسرة النبوية الشريفة، و وصايا الأبوة النبيلة، ما رواه أبو نيزر، حيث قال جاءني علي، و أنا أقوم بالضيعتين، عين أبي نيزر و البغيضة، و لم يكن عندي الا قرع من قرع الضيعة ضيعة باهالة و سنخة، فأصاب منه شيئا ثم أخذ المعول و انحدر في العين و جعل يضرب و قد تنضح جبينه عرقا، فانثالت العين كأنها عنق جزور، فقال: علي بدواة و صحيفة، فعجلت بهما اليه فكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبدالله علي أميرالمؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر و البغيبغة علي فقراء المدينة و ابن السبيل، ليتقي الله بهما وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا و لا تورثا حتي يرثهما الله و هو خير الوارثين، الا أن يحتاج اليهما الحسن و الحسين، فهما طلق لهما، ليس لأحد غيرهما» و استمر الأمر كذلك، حتي جاء يوم تراكم فيه دين ثقيل علي الامام الحسين و انتهز معاوية الفرصة فساوم الامام الحسين بمائتي ألف دينار أو بمبلغ جسيم من المال علي عين أبي نيزر، فأبي أن يبعيها مع جاجته الي بعض ما عرض عليه، لأن أباه تصدق بمائها لفقراء المدينة و ابن السبيل، يرتون منها بغير حساب، و هكذا رفض الامام الحسين العرض حتي لا يغير من أمر أبيه الامام علي، رغم اجازة أبيه له بذلك.

و من آدابه، عليه السلام، أنه لم يذكر قط أنه كان يواجه الناس بتخطئة، و هو يعلمهم و يبصرهم بشأن دينهم، الا أن تكون مكابرة أو لحاجة، فله في جواب ذلك أشياء من تلك القوارص التي كانت تؤثر عن أبيه، و ما لم تكن مكابرة أو لحاجة، فهو يحتال علي تصحيح الخطأ حيلة لا غضاضة فيها علي المخطئين، فمن آدابه و آداب أخيه الامام الحسن، في ذلك، أنهما رأيا أعرابيا يخفف الوضوء و الصلاة فلم يشأ أن يجبهاه بغلطة و قالا له: «نحن شابان و أنت شيخ، ربما تكون أعلم بأمر الوضوء و الصلاة منا فنتوضاء و نصلي عندك، فان كان عندنا


قصور تعلمنا»، فتنبه الشيخ الي غلطة دون أن يأنف من تنبيههما اليه».