بازگشت

مع المؤرخين


لا ريب في أن مهمة لاباحثين انما هي البحث عن الحقيقة، و لا ريب كذلك في أنه لا لوم علي الباحث عن الحق و أهله لوجه الله، دون تعصب، لأن اقرار الباطل باطل لا يرضاه الله، و تربية الناشئة من أبناء الاسلام علي الحق خير من تزييف الباطل و الباسه ثوب الحق، تحت أي ستار، سواء أكان ذلك هو ستار الاجتهاد أو ستار المصلحة أو أي نوع آخر من الأسباب التي تدعو البعض الي تفسير الأحداث تفسيرا قد لا يتفق مع الحقيقة أحيانا، و قد يقرب منها أو يبعد كثيرا أو قليلا في أحابين أخري.

و قضية آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم مع الأمويين من القضايا الشائكة التي تداخلت فيها بعض العوامل السابقة بدرجة أو بأخري، و اختلطت فيها العوامل الدينية مع العوامل الدنيوية، و المثل العليا مع المنافع الشخصية، فانحاز فريق من المؤرخين الي جانب أهل بيت النبوة الشريف، و وقف آخرون مع الأمويين، أصابوا أم أخطأوا، و حاول فريق ثالث أن يقول كلمة حق، قد ترضي هؤلاء، و قد تغضب أولئك، هكذا كان النزاع بين الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و معاوية بن أبي سفيان، من ناحية، و بين الامام الحسين عليه السلام، و بين يزيد بن معاوية من ناحية أخري، مجالا يقدم فيه المؤرخون أنفسهم، قدر ما يتحدثون عن القضية التي يتعرضون لها، فمثلا تحت ستار الاجتهاد، و الذي من


بين شروطه، ألا يكون فيه هو للنفس الامارة بالسوء، كتصرفات معاوية ضد الامام علي و آل البيت الطاهرين، و الذي غلبه فيهما هواه لمصلحته و مصلحة ولد يزيد و ذريته، كانت صحبة معاوية سببا في أن يحاول كثير من العلماء أن يسووا الخلاف الذي كان بينه و بين الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، علي وجه مقارب لا يعرف فيه المحق من المبطل، و لا من كان مع الدنيا، و من كان مع الدين، فمثلا الامام ابن حزم الأندلسي، مع ما عرف عنه من جرأة و صراحة، يحكم في هذه القضية حكا مشوبا بالغموض و التعمية، فيقول في «المحلي»، «و اذا كان الحق في ذلك بيد علي، لابيده (أي معاوية)، و انما كان معاوية مجتهدا مخطئا، مأجورا فقط»، و المشكلة هنا أن ابن حزم يعرف تماما المبدأ الفقهي «لا اجتهاد مع النص»، بل ان ابن حزم انما يردد هذا المبدأ الفقهي في كل مسألة يعرض لها، و لا ريب أنه ليس هناك نص أصرح و أبين و أوضح من عمار بن ياسر، الذي جعله سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم آية علي الفئة الباغية التي تتولي قتله، و علما منصوبا علي البغاة الذين يقتلونه، فهل يكون معاوية مجتهدا، و قد قتلت فئته عمار بن ياسر، و هل يحتاج الأمر الي اجتهاد بعد قتل عمار انه لا اجتهاد مع النص، كما يقرر ذلك الفقهاء، و علي رأسهم ابن حزم، و بدهي أن ابن حزم لم يغب عنه شي ء من هذا كله، و لكنه، فيما يري الأستاذ الخطيب، لم يشأ أن يثير عليه ثائره العوام، الذين يتولون جميع الصحابة بالرضا، و خاصة اذا كان هذا الصحابي من بني أمية، الذين أقاموا دولة الأندلس، و التي كان ابن حزم من أبنائها و بين أهلها، و ربما كان ابن حزم، فيما يري الأستاذ العقاد، أمويا مغاليا في التشيع للأموية، و كانت دولتهم في الأندلس علي خطر من الدعوة الاسماعيلية، و قد بلغ من كراهية ابن حزم للاسماعيليين أنه تحول من المذهب الشافعي الي المذهب الظاهري، أي الذي يأخذ بظاهر النص و يرفض التأويل، لأن مذهب الاسماعيليين يقول بالتأويل، و بأنه من حق الامام.

ثم هناك العلامة ابن خلدون، الذي وقف نفس الموقف، و هو لا يقل عن ابن حزم ألمعية و ذكاء، و نفاذ بصيرة، يقول ابن خلدون في مقدمته، بعد أن ذكر


أن الخلاف كان اجتهادا من الفريقين، «و اذا كان المصيب عليا، فلم يكن معاوية قائما فيها بقصد الباطل، و انما قصد الحق و أخطأ، و الكل في مقاصدهم علي الحق» بل ان ابن خلدون، فيما يري العقاد، انما يضع معاوية في ميزانه، فيحسبه بقية الخلفاء الراشدين، و يتحمل المعاذير له في اسناد ولاية العهد الي ابنه يزيد، مع فسوقه و خلل سياسته، و كراهية الناس لحكمه حتي من أبناء قومه الأمويين، و لا يهولن قاري ء التاريخ اسم ابن خلدون فيذكره و ينسي الحقائق البديهية التي لا تكلفه أكثر من نظرة مستقيمة الي الواقع الميسر لكل ناظر في تاريخ الخلفاء الراشدين و تاريخ معاوية، فما وسع ابن خلدون أن يخرج من هذه التواريخ بمشابهة بعيدة، تجمع بين معاوية و بين الصديق و الفاروق و ذي النورين و الامام علي، في مسلك الدين و الدنيا، و في حالة من أحوالي الحكم و المعيشة، و انه لفي وسع كل قاري ء أن يجد المشابهات الكثيرة التي تجمع بين معاوية و مروان و عبدالملك و سليمان و هشام من خلفاء بني أمية، فلا يفترقون فيها الا بالدرجة و المقدار، أو بالتقديم و التأخير، و اذا كان هذا شأن ابن خلدون فقل ما شئت في سائر المؤرخين و المستجمعين للتواريخ، من مشارقة شهدوا زمان الدولة الأموية، و مشارقة لم يشهدوه، و من مغاربة عاشوا في ظل تلك الدولة و تعلقت أقدارهم بأقدارها، و أيقنوا أنهم لا ينقصون منها شيئا ثم يستطيعون تعويضه من الأندلس بما يغنيهم عنه، و ما زال العهد بالمنبت عن أرومته أن يلطق بها أشد من لصوق القائمين عليها، و من عجب أن بعض المؤرخين، بعد العصر الأموي و حتي عصرنا الحاضر في أخريات القرن العشرين، يفعلون ذلك حين ينظرون الي هذه الفترة، فلا تخطئهم من أسلوبهم و لا من حرصهم علي مطاوعة أهوائهم، كأنهم صنائع الدولة في ابان سلطانها و بين عطاياها المغدقة، و نكاياتها المرهوبة و رجالها الذين تنعقد بينهم و بين معاصريهم أو اصر النسب و أواصر المشايعة في المطالب و المعاذير.

و من عجب كذلك أن الذين شايعوا معاوية ضد الامام علي، هم أنفسهم أو معظمهم علي الأقل، هم الذين شايعوا يزيد ضد الامام الحسين و آل بيت


النبي صلي الله عليه و سلم مع الفوارق الكبري بين سيرة معاوية و سيرة يزيد، و الفوارق الدنيا بين سيرة الامام علي و سيرة الامام الحسين، فما كانت رسالة الامام الحسين الا امتدادا لرسالة أبيه الامام علي، و هذه الأخيرة انما كانت علي هدي و ستة سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، بل ربما أمكن القول ان سيرة آل بيت النبي انما هي امتداد لسيرة النبي صلي الله عليه و سلم و في نفس الوقت، فان مجرد المقارنة بين الامام علي و معاوية، و بين الامام الحسين و يزيد، انما هي جور كبير، بل تطاول علي سيرة آل البيت، و علي رأسهم الامام علي و ولده الحسين، رضي الله عن آل البيت و أرضاهم أجمعين.

علي أن هناك أمرا آخر نراه جديرا بالاشارة و التنويه، ذلك أن الطبائع الآدمية قد أشربت حب الشهداء و العطف عليهم و تقديس ذكرهم بغير تلقين و لا نصحية، و خاصة شهد آل بيت النبوة، و علي الأخص الامام الحسين الشهيد ابن الشهيد و أبوالشهداء في مئات السنين، و الذي حسبه في هذه الدنيا أنه رأس الأسرة التي أنجبت من الشهداء، عدة و قدرة و ذكرة، ما لم تنجبه أسرة أخري في تاريخ هذه الدنيا، و من ثم فان الطبائع الآدمية حين تنحرف عن آل البيت، انما تنحرف عن سواء هذه السنة لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها، و أكثر هذه العوارض انما تأتي من تضليل المنفعة و الهوي القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن علي كل خلق سوي و سجية سمحة محببة الي الناس عامة، أو من الافراط في حب الدعة حتي يجفل المرء من الشهادة استهوالا لتكاليفها و استعظاما للقدوة بها. فيتهم الشهداء بالهوج و يتعقب أعمالهم بالنقد، لكيلا يتهم نفسه بالجبن و الضعة و يستحق المذمة و اللوم في رأي ضميره، و ان لم يتهمهم أحد بشي ء من ذلك، وقف من فضائلهم موقف ازدراء و فتور، و جنح الي معذرة الآخرين و معظم المؤرخين الذين يعارضون الشهداء و دعاتهم لغير منفعة أو نكسة، هم من أصحاب الدعة المفرطة و أنصار السلامة الناجية، و يغلب علي هذه الخلة أن تسلبهم ملكة التأريخ الصحيح، لأنها تعرضهم للخطأ في الحكم و التفكير، كما تعرضهم للخطأ في العطف و الشعور، علي حد تعبير الأستاذ العقاد.


و لعل الخطأ الأكبر الذي وقع فيه كثير من الباحثين أن خروج الامام الحسين الي العراق انما كان بهدف المنازعة علي الخلافة، و لعل ما دفعهم الي الوقوع في هذا الخطأ هو أن هذا الأمر ليس فيه ما يغض من كرامة الامام الحسين و مقامه، لأنه كان دون ريب أجدر الناس وقت ذاك بخلافة المسلمين، و أنه لا مجال للمقارنة بينه و بين غيره من أجلاء الصحابة حينئذ، فضلا عن غيرهم من بقية المسلمين، و خاصة يزيد بن معاوية، المشهور بالفسق و الفجور، و من ثم فان الامام الحسين، سبط النبي و سيد شباب أهل الجنة، لو كان يسعي للخلافة حقا، فهو بذلك انما سعي الي مصلحة عامة لا شك فيها، كما أن خروجه علي يزيد انما هو خروج في سبيل الله تعالي، له ما يبرره من الأسباب، و ما يدعمه من الدواقع، فالذي لا ريب فيه أن الامام الحسين، عليه السلام، كان أولي بالخلافة من يزيد، كما كان أبوه الامام علي ثم أخوه الامام الحسن، أولي بها معاوية، و ان تنازل الامام الحسن عنها حقنا لدماء المسلمين، و تصديقا لما أخبر به النبي صلي الله عليه و سلم، و علي أن تكون له بعد معاوية، أو شوري بين المسلمين يختارون لها من يرضونه لدينهم و دنياهم، و لكن معاوية أمعن في تحويل الخلافة الي ملك عضوض، و مزرعة أموية، فأخذالبيعة لولده يزيد بالسيف و الذهب، و مع ذلك، فان الامام الحسين، رغم أحقيته في الخلافة، فقد كان زاهدا فيها، الا أن - بني أمية تعمدوا احراجه بفرض البيعة عليه ليزيد، حتي اضطروه الي الخروج من المدينة الي مكة، ثم تابعوه بمكة حتي تركها خوفا من أن تستحل به حرمتها، ثم طاروده من مكا الي آخر، حتي حصروه في كربلاء و قتلوه تقتيلا، هو و أهل بيته و أنصاره، و مع ذلك كله، فقد حاول البعض أن يعكس التضحية، و يجعل الامام الحسين خارجا علي السلطان الشرعي يزيد، و ياللعجب.

و لعل من الأفضل هنا أن نناقش آراء بعض الباحثين عن هذه الفترة الحرجة في تاريخ الاسلام، و منهم دون شك علماء و فقهاء و مؤرخون أجلاء، لم يكتبوا بغرض الهوي، و ان فعل البعض ذلك، و لم يسيئوا للامام الحسين فيما كتبوه عن


قصد، و لكنها وجهة نظر، قد تصيب و تخطي ء، و تلك طبيعة البشر غير المعصومين، و انما الأعمال بالنيات، و لكل امري ء ما نوي، و أما أهم هؤلاء الباحثين فهم: