بازگشت

رجال القضية


ربما ليست هناك قضية اختلف طرفاها خلقا و دينا، علما و فقها، حسبا و نسبا الي ذلك من الاختلافات بين رجال القضايا التاريخية، كقضية الامام الحسين بن علي بن أبي طالب، و يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، حتي أن مجرد وضعهما بين كفتي ميزان الواحد، انما هو اهدار لمكانة الامام الحسين و قدره، بقدر ما هو شرف، و أي شرف، ليزيد بن معاوية، و كما يقولون أين الثريا من لثري، و أين السماء من الأرض، و هكذا كان الامام الحسين من يزيد، و الامام علي من معاوية... الخ، بل أين بنوهاشم من بني أمية في الجاهلية، و أين


بيت النبوة من بيت الطلقاء في الاسلام، و يكفي أن نشير هنا الي تفوق البيت الهاشمي علي البيت الأموي، بل علي العرب جميعا، الي قول ابن تيمية في رسالته «رأس الحسين» ان بني هاشم أفضل قريش، و قريش أفضل العرب، و العرب أفضل بني آدم، كما صح ذلك عن النبي صلي الله عليه و سلم قوله في الحديث الصحيح «ان الله اصطفي بني اسماعيل، و اصطفي كنانة من بني اسماعيل، و اصطفي قريشا من كنانة، و اصطفي بني هاشم من قريش»، و في رواية للامام مسلم في صحيحه بسنده أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: «ان الله اصطفي كنانة من ولد اسماعيل، و اصطفي قريشا من كنانة، و اصطفي من قريش بني هاشم، و اصطفاني من بني هاشم»، و اذا كان بنوهاشم أفضل الخلائق، فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال، و كان أفضلهم رسول الله صلي الله عليه و سلم الذي لا عدل له من البشر، ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش و العرب،بل و بني اسرائيل و غيرهم».

هذا و قد كانت العرب تنفس علي قريش مكانتها، و قريش تنفس علي بني قصي، و بنو قصي ينفسون علي بني عبد مناف، و بنوأمية ينفسون علي بني هاشم رياستهم للعرب، و كونهم في المكانة العليا من سدانة البيت و القيام عليه، فهاشم ورث السيادة و الرئاسة من عبد مناف، و عبدالمطلب أخذها من هاشم، ثم أعطاها لولده أبي طالب، و لعل في هذا المعني كان رد الامام علي علي معاوية عندما كتب اليه يسأله أن يقره علي الشام فيبايعه، و أنهم جميعا من بني عبد مناف فقال الامام «... و أما قولك انا بنو عبد مناف، فكذلك نحن، و لكن ليس أمية كهاشم، و لا حرب كعبد المطلب، و لا أبوسفيان كأبي طالب، و لا المهاجر «أي علي» كالطليق «يعني معاوية» و لا المحق كالمبطل، و لبئس الخلف خلفا يتبع سلفا هوي في نار جهنم»، و في الواقع فلقد كان بنوهاشم في ميزان المجتمع العربي سادته وقادته و أشرافه، و كانوا في ميزان القيم أجود الناس كفا و أوفاهم ذمة، و أنداهم عطاء، و أكثرهم في سبيل الخير بلاء، و أحماهم للذمار، و أحفظهم للجار، و بكلمة واحدة هم في قومهم و زمانهم، ضمير أولئك القوم و ذلك الزمان و هم في ميزان الاسلام، أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم، أكرم المسلمين


و أشرفهم، حتي أن الله تعالي - بمنه و كرمه - حرم عليهم الصدقة، التي هي أوساخ الناس، بينما أباحها لفقراء المسلمين أجمعين، كما جعل لهم في الغنائم حقا معلوما، بنص كتابه الكريم، و من جعلهم سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم أحد الثقلين في الحديث الصحيح الذي رواه الامام مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم، حيث يقول صلي الله عليه و سلم: «أيها الناس، فانما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدي و النور، فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به، فحث علي كتاب الله و رغب فيه، ثم قال: و أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي».

و أما أبو الامام الحسين، فهو الامام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه في الجنة، ابن عم النبي صلي الله عليه و سلم و ربيبه، و أخوه و صهره، و أبو سبطيه الحسن و الحسين، و كاتب وحيه، و حامل رايته، و أحد العشرة المبشرين بالجنة، و رابع الخلفاء الراشدين، و أول الخلفاء الهاشميين، امام المتقين، و علم العلماء، و فارس الفرسان، و خطيب الخطباء، و أزهد الزهاد، أول الذكور اسلاما، و أول من شري نفسه في الله ليلة الهجرة المباركة، و أول هاشمي يولد من هاشميين، تربي في حجر النبوة، و شهد مطالع الرسالة و مختتمها، و ما بين مفتتحها و مختتمها، مما نزل به الوحي من آيات الله، أوفر الناس حظا و أطولهم صحبة لرسول الله صلي الله عليه و سلم فمنذ ولد علي، و و بين يدي النبي، قبل النبوة و بعدها، لم يفترق عنه في سلم أو حرب، و في حل أو سفر (غير غزوة تبوك) بل كان تحت يدي النبي صلي الله عليه و سلم و تحت سمعه و بصره، الي أن لحق الرسول صلي الله عليه و سلم بالرفيق الأعلي، و هو علي صدر علي، حيث سكب آخر أنفاسه الشريفة في الحياة، و من قال عنه رسول الله صلي الله عليه و سلم، فيما يروي البخاري في صحيحه، «أنت مني و أنا منك»، و من عهد اليه النبي صلي الله عليه و سلم أنه لا يحبه الا مؤمن، و لا يبغضه الا منافق، فلقد روي مسلم في صحيحه بسنده عن علي قال: «و الذي فلق الحبة و برأ النسمة، انه لعهد النبي الأمي صلي الله عليه و سلم الي، أن لا


يحبني الا مؤمن، و لا يبغضني الا منافق» (رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الامام أحمد و الخطيب البغدادي و المتقي الهندي)، و من قال عنه رسول الله صلي الله عليه و سلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و من شهد له رسول الله صلي الله عليه و سلم أنه يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، بل أن سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم ليرتفع بمكانة أبي الحسين، علي بن أبي طالب، فيجعله منه بمكانة هارون من موسي، الا النبوة، روي الامام مسلم في صحيحه بسنده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعد فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب (و هو لقب شرف به النبي صلي الله عليه و سلم علي بن أبي طالب) فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلي الله عليه و سلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب الي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول له خلفه في بعض مغازية، فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء و الصبيان، فقال له رسول الله صلي الله عليه و سلم، أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، الا أنه لا نبوة بعدي، و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: أدعوا لي عليا، فأتي به رمد فبصق في عينه، و دفع الراية اليه ففتح الله عليه، و لما نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم)، دعا رسول الله صلي الله عليه و سلم عليا و فاطمة و حسنا و حسينا، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي».

فأين هذا كله من والد يزيد، معاوية بن أبي سفيان، الذي تربي علي يدي أبي سفيان و هند، و في بيت مشرك بالله كاره لرسول الله صلي الله عليه و سلم، حاقد علي الاسلام و المسلمين، لم يسلم الا يوم فتح مكة كرها، قال ابن عبد البر في الاستيعاب كان معاوية بن أبي سفيان، هو و أبوه من مسلمة الفتح، و كان هو و أبوه من المؤلفة قلوبهم، ثم اتخذه النبي صلي الله عليه و سلم من كتابه، بناء علي توسل من أبيه لرسول الله صلي الله عليه و سلم، و قد أشرنا من قبل الي أن معاوية لم يكن من كتاب الوحي كما أشاع خدام دولته بعد صدر الاسلام، و لكنه كان يكتب للنبي في عامة الحوائج، و في اثبات ما يجبي من الصدقات و ما يقسم في أربابها، و من ثم لم يعرف بحفظ شي ء من


كتابة الوحي في أيام جمع القرآن، و قد روي أن النبي صلي الله عليه و سلم دعا معاوية مرة ليكتب لبني خزيمة حين أصابهم خالد بن الوليد،فانصرف الرسول اليه ثلاث مرات، و في كل مرة يقول «هو يأكل» فدعا عليه صلي الله عليه و سلم فقال: «لا أشبع الله بطنه، فكان لذلك يأكل و لا يشبع أبدا»، و الحديث الشريف، كما رواه مسلم في صحيحه و الامام أحمد في مسنده، ليس في صالح معاوية بكل المقاييس، و علي أي حال، فمهما يقل بعض الناس في معاوية من أنه كان مقربا الي النبي صلي الله عليه و سلم بعد اسلامه يوم الفتح، و بعد حربه للنبي صلي الله عليه و سلم و من أنه كان من كتاب الوحي، و من أنه أخلص للاسلام بعد أن ثاب اليه و نصح للنبي و خلفائه الثلاثة، مهما يقل البعض هذا، فمعاوية هو ابن أبي سفيان قائد المشركين يوم أحد و الأحزاب، و هو ابن هند التي أغرت بحمزة حين قتل ثم بقرت بطنه و لاكت كبده، ثم ان معاوية هو عدو الامام اللدود، و هو أبويزيد قاتل الحسين و آل البيت الأطهار في مذبحة كربلاء، و هو الذي شق عصا الطاعة علي أميرالمؤمنين الامام علي، علي رأس الفتنة الباغية، بحجة القصاص لدم عثمان رضي الله عنه فكانت معارك صفين التي انتهت بخدعة رفع المصاحف و تحكيم الحكمين، ثم كانت قصة التحكيم، أخزي، علم الله، من قصة الحرب، و معاوية هو الذي ابتدع تلك البدعة الخسيسة، حيث أقام معاوية و خلفاؤه من بني أمية منابر يتناوب عليها الخطباء في سب الامام علي كرم الله وجهه في الجنة، و آل البيت الطاهرين، و في افتراء الأباطيل و النيل من الامام علي و الزراية عليه، و معاوية هو الذي استلحق زيادا مع مخالفة ذلك للكتاب و السنة، و معاوية هو الذي قتل بعض خيار الصحابة صبرا، و معاوية هو الذي ابتلي المسلمين بابنه يزيد، حيث فرضه عليهم خليفة بحد السيف و رنين الذهب و قد جاء في أسد الغابة: روي عبدالرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال: «هذا الأمر في أهل بدر، ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد، ما بقي منهم أحد، ثم في كذا و كذا، و ليس فيها لطليق، و لا لولد طليق، و لا لمسلمة الفتح شي ء».

و أخيرا فقد روي أن الامام النسائي عندما دخل دمشق، فشئل عن معاوية


و ما روي من فضائل: فقال: ما أعرف له فضيلة الا «لا أشبع الله بطنه» فأخرج من المسجد و اتهموه بالتشيع، و هو بري ء من ذلك، و أن الامام البخاري حين تعرض في صحيحه لذكر مناقب و فضائل الصحابة، عبر عن معاوية بن أبي سفيان، بقوله: «باب ذكر معاوية» و لم يقل فضائله و لا مناقبه، لأنه لم يصح في فضائله شي ء، كما قاله ابن راهوية، و الي ذلك ذهب أيضا ابن حنبل و النسائي، و ذكر الحافظ في الفتح أن ما ذكره البخاري مما يشهد لمعاوية بالفقه لا يدل علي فضيلة، «مع أن البخاري لم يذكر الا أنه أوتر بعد العشاء بركعة، فلما سئل ابن عباس عن ذلك قال انه فقيه، و ليس غير ذلك).

و أما أم الامام الحسين فهي السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، أفضل نساء العالمين، بضغة النبي صلي الله عليه و سلم و أحب الناس اليه، و التي يغضب الله لغضبها و يرضي لرضاها، و قد وصفها سيدنا و مولانا وجدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم بأنها سيدة نساء العالمين، و سيدة نساء المؤمنين، و سيدة نساء هذه الأمة، و سيدة نساء أهل الجنة، و هي أم سيدي شباب أهل الجنة، الحسن و الحسين، و ريحانتي النبي صلي الله عليه و سلم، و أم الشهداء، و هي زوج الامام علي، ربيب النبي و ابن عمه، ثم هي التي حفظ الله بأولادها ذرية النبي صلي الله عليه و سلم، فهي أم السادة الأشراف جميعا.

فأين هذا من أم يزيد «ميسون بنت مجدل الكلبية»، و رغم أنها من كرائم بني كلب، الا أن فضل قرشية، أية قرشية، علي كلبية، فضل بين، علي حد تعبير معاوية نفسه، فما بالك اذا انت هذه القرشية هاشمية كذلك، فضلا عن أن تكون هذه الهاشمية بنت سيد الأولين و الآخرين، سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، فاطمة الزهراء، عليهاالسلام.

و أما جد الامام الحسين، فهو مولانا و جدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم سيد ولد آدم، و لا يمكن لمسلم، كائنا من كان، أن يتطاول الي تحت أقدام سيدنا و مولانا محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم.

و أما جد الامام الحسين لأبيه فهو أبوطالب بن عبدالمطلب، عم النبي صلي الله عليه و سلم، و سيد البطحاء، و زعيم مكة، و الذي ورث زعامة أبيه عبدالمطلب،


و كفالته للنبي صلي الله عليه و سلم و الذي كانت قريش تنظر اليه نظرتها الي كبيرها و زعيمها، الكل يحبه و يحترمه و يهابه، لمكانته من قريش، و لما يحمله من نفسه كريمة، و خصال عظيمة، و شخصية عادلة فاضلة، و انه ليكفينا في التعرف علي شخصية هذا البطل، أبو الأبطال و جد الأبطال، لمسات من مواقفه تجاه الاسلام و قريش، فلقد وقع علي كله دون أعمام النبي، و دون أهله و عشيرته، عب ء مناصرة النبي صلي الله عليه و سلم و مقاومة قريش، فثبت الرجل ثباتا باهرا أمام مناورات و مؤامرات تهد الجبال، و لم يكن ذلك كله لمجرد العصبية، كما يري الكارهون، و انما لفرط محبته للنبي صلي الله عليه و سلم و لهذا سمي الرسول صلي الله عليه و سلم عام وفاته هو و السيدة خديجة «عام الحزن»، و يكفيه في هذا شهادة رسول الله صلي الله عليه و سلم «ما زالت قريش كاعين عني حتي مات أبوطالب»، و «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتي مات أبوطالب»، و لقد قام أبوطالب بواجبه نحو النبي صلي الله عليه و سلم خير قيام، و كما يقول الواقدي، من سنة ثمان من مولد رسول الله صلي الله عليه و سلم الي السنة العاشرة من النبوة، ثلاث و أربعين سنة، يحوطه و يقوم بأمره و يلطف به.

فأين هذا من أبي سفيان، جد يزيد، صاحب العير في بدر، ثم رأس الكفر في مكة بعد بدر، و قائد المشركين في أحد و الأحزاب، و لم يسلم أبوسفيان الا كرها، حين رأي جيوش المسلمين مطبقة علي مكة، و حين حثه العباس علي الاسلام قبل أن تضرب عنقه، كما تردد في الشهادة بأن محمدا رسول الله صلي الله عليه و سلم، و اسلام أبي سفيان انما كان علي شي ء من الخوف و شي ء من الشك، و شي ء من الحسد في أن يكون محمد رسول الله، و علي أية حال، فلقد أسلم، فهو اذا أحد الطلقاء، الذين عفي عنهم رسول الله صلي الله عليه و سلم حين دخل مكة منتصرا، بل و جعل النبي صلي الله عليه و سلم داره مثابة يأوي اليها الخائفون في مكة، و ان ظل اسلام أبي سفيان ليس فوق مستوي الشبهات، علي أي حال، الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا عن «الامام علي» و بينا موافقه يوم حنين، و يوم انتقال الرسول الي الرفيق الأعلي، و يوم بويع الصديق بالخلافة، و يوم أختير عثمان رضي الله عنه أميرا للمؤمنين، و كذا مواقفه في حروب الروم، و كلها تثير شكوكا حول عمق ايمانه، و صلابة اسلامه.


و أما جدة الامام الحسين لأمه، فهي السيدة خديجة، أول الناس اسلاما، و أفضل نساء المسلمين، بعد الزهراء بضعة النبي صلي الله عليه و سلم، و كفاها فخرا ما رواه البخاري و مسلم و النسائي و الترمذي و ابن حنيل عن جعفر بن عبدالله أنه سمع عليا يقول: سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، و خير نسائها خديجة»، و أخرج الحاكم و الامام أحمد عن أنس بن مالك أن النبي صلي الله عليه و سلم قال: حسبك من نساء العالمين: «مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد عليهاالسلام»، و في رواية «خير نساء العالمين أربع، مريم ابنة عمران، و آسية امرأة فرعون، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم»، و أنها هي وحدها التي أقرأها جبريل السلام من ربها، فلقد روي البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: أتي جبريل النبي صلي الله عليه و سلم فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها اناء فيه أدام أو طعام أو شراب، فاذا أتتك فاقرأ عليهاالسلام من ربها و مني، و بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه و لا نصب»، و قال رسول الله صلي الله عليه و سلم أفضل نساء أهل الجنة: «خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد، و مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم، امرأة فرعون».

و أما جدة الحسين لأبيه فهي السيدة فاطمة بنت أسد بن هاشم، أول هاشمية تتزوج هاشميا، و تنجب أبناء هاشميين من أبوين هاشميين، و أول امرأة تسلم، بعد السيدة خديجة، و كان النبي صلي الله عليه و سلم يعاملها كما يعامل ابن بار أما، و روي ان النبي صلي الله عليه و سلم عند ما علم بوفاتها قال لأصحابه: قوموا الي أمي، فقاموا، و كأن علي رؤوس من معه الطير، فما انتهوا الي الباب نزع قميصه و قال: اذا غسلتموها فأشعروها اياه تحت أكفانها، فلما خرجوا بها، جعل رسول الله صلي الله عليه و سلم مرة يحمل، و مرة يتقدم، و مرة يتأخر، حتي انتهوا الي القبر، نزل فاضطجع في اللحد، و قرأ فيه القرآن صلي عليها عند قبرها، فكبر تسعا، و قال: أدخلوها باسم الله، و علي اسم الله، فلما أن دفنوها قام قائما فقال: «جزاك الله من أم و ربيبة خيرا، فنعم الأم و نعم الربيبة كنت لي»، فقيل له يا رسول الله صلي الله عليه و سلم، صنعت شيئين ما رأيناك صنعت مثلهما قط، قال ما هو: قالوا: نزعك قميصك


و تمعكك في اللحد، قال: «أما قميصي فأريد أن لا تحسها النار أبدا ان شاء الله تعالي، و أما تمعكي في اللحد، فأردت أن يوسع الله عليها في قبرها».

فأين هذا من جدة يزيد، هند بنت عتبة بن ربيعة، آكلة الأكباد، و التي يزعم الرواة أنها لم تكن في سيرتها فوق مستوي الشبهات، فقد طلقت من زوجها الثاني، الفاكه بن المغيرة، لاتهامه اياها، و ان برأها بعض كهان اليمن في قصة أشبه بالأسطورة منها بالروايات الشعبية، و يذهب ابن أبي الحديد في شرح النهج الي أنها كانت تذكر بفجور و عهر، و يتهمها صاحب الأغاني بريبة مع المسافرين عمرو بن أمية، و يذهب الزمخشري في ربيع الأبرار الي أن ولدها معاوية انما كان ينسب الي أربعة، و كانت هذه المقولات شائعة في هند قبل فتح مكة، و كانت أخبارها تدور علي الألسنة، حتي لقد أمسك بها حسان بن ثابت، شاعر النبي، في شعره، و جعلها سهاما يرمي بها في صدور المشركين يوم ذاك، و علي رأسهم أبوسفيان، و في يوم أحد بقرت هند عن كبد حمزة، أسدالله و أسد رسوله، فلم تستطع أن تستسيغها، ثم نزعت ثيابها و حليها و أعطتها وحشيا، قاتل حمزة، ثم قامت فقطعت مذاكيره و جدعت أنفه و قطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين و معضدين، و خدمتين، حتي قدمت بذلك مكة و كبده معها، و جاء في مسند الامام أحمد قال: فنظروا، فاذا حمزة قد بقرت بطنه، و أخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع، فقال رسول الله: أأكلت منها شيئا قالوا لا، قال: ما كان الله ليدخل من حمزة النار، و في رواية عنه صلي الله عليه و سلم أنه قال: لو أساغتها لم تمسها النار، و في رواية ابن سعد: «ان الله قد حرم علي النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا»، و كانت هند، آكلة الأكباد كما عرفت بين المسلمين، ممن أهدر رسول الله صلي الله عليه و سلم دمهم يوم فتح مكة، و أمر بقتلهم، و لو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، ثم أسلمت هند مكرهة يوم فتح مكة، كما أسلم زوجها أبوسفيان و ابنها معاوية، ثم عفا عنها النبي صلي الله عليه و سلم، و لم يكن لها دور يذكر في الاسلام، و قد روي ابن الأثير أن أباسفيان طلقها في أخريات أيامها، مما اضطرها الي أن تشتغل بالتجارة لتكسب عيشها، مع أن ابنها معاوية كان أميرا في الشام.


و أما الخلاف بين مكانة بني هاشم و أخلاقهم، و هم أسرة الامام الحسين، و مكانة بني أمية، أسرة يزيد، فلقد أشرنا اليها من قبل، و بينا أن الفارق بينهما كان عظيما في كل شي ء، كان ذلك علي أيام الجاهلية، و أما في الاسلام فليس لمسلم أن يقارن بيت النبوة، و مهبط الوحي، بقوم، أيا كانوا، فضلا عن أن يكون القوم هم بنوأمية بالذات، لا نستثني منهم الا القليل، كسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، و لقد تقابل الامام الحسين و يزيد في تمثيل الأسرتين، كما تقابلا في كثير من الخلائق و الحظوظ، و لكنهما تفاوتا في تمثيل أسرتيهما، كما تفاوتا في غير ذلك من وجوه الخلاف بينهما، فكان الحسين نموذجا لأفضل المزايا الهاشمية، و لم يكن يزيد نموذجا لأفضل المزايا الأموية، بل كان فيه الكثير من عيوب أسرته، و لم يكن من مناقبها المحمودة الا النذر اليسير، ان وجد ذلك النذر اليسير فيه.