بازگشت

قضية الامام الحسين


كان الامام الحسين يعتبر قضيته مع يزيد، قضية النبوة لا الملك، قضية النبوة بكل تألقها الورعة و موازينها العادلة، و ليس، كما يقول الأستاذ خالد محمد خالد، الملك الذي يريد نفر من الأمويين أن يردوا به وثنية الجاهلية في أثواب تنكرية، و الذين يدرسون معارك الجمل و صفين و كربلاء، خارج هذه الدائرة، لا يأمنون عثار تفكيرهم و زيغ أحكامهم، و قد رأينا أحكامهم، و قد رأينا كثيرين، من مرتزقة التاريخ، ممن تحدثوا عن كربلاء، يحملون الامام الحسين مسئولية مصيره، و مصير الذين خرجوا معه، و الامام الحسين يتحمل في شجاعة و غبطة مسئولية ذلك المصير، و لكن ليس بالمعني الذي يقصده هؤلاء، فهم يرون أنه خرج تلبية لدعوة ثوار الكوفة اياه، باعتبار هذه الدعوة فرصة رآها سانحة لاسترداد الخلافة من بيت معاوية الي بيت الامام علي، بل ان بعض المؤرخين المحدثين حاول أن يضعه مع يزيد في كفتين متوازيتين، يزيد الخليفة، و الامام الحسين الخارج علي الخلافة، بل ان الله لم يفتح عليه بوصف لخروج الامام الحسين، الا أنه «مغامرة» و أنه كان مشدودا الي تلك المغامرة بدوافع خفية، و من ثم فهم يلومونه أو يكادون، لأنه لم يصغ لنصح الناصحين من عشيرته الأقربين، كي يبقي مكانه في مكة البلد الحرام، نافضا يديه من مشاكل الموقف الكالح الذي نتج عن استخلاف يزيد.

غير أن الأمر غير ما توهم أولئك الذين يحاولون تفسير التاريخ تفسيرا ماديا، و لا غير ذلك، فالقضية في ضمير الامام الحسين لم تكن قضية فرصة سنحت، و لا هي قضية حق شخصي في الخلافة يبتغي استرداده، و لا هي من القضايا التي يكون للانسان الرشيد حق التخلي عنها، و لو كان الأمر كذلك


لاستمع الامام الحسين الي نصح الناصحين بعدم الخروج الي الكوفة، و هم مخلصون في نصحهم، و لا يشك الامام في نواياهم، و ما أراه أبي، كما يقول الدكتور طه حسين، عنادا أو ركوبا لرأسه، و انما كان يعلم أن يزيد سيأخذه بالبيعة أخذا عنيفا، فان بايع غش نفسه، و خان ضميره، و خالف عن دينه، لأنه كان يري بيعة يزيد اثما، و ان لم يبايع صنع به يزيد ما يشاء، و لم يكن الامام الحسين مخطيئا فيما قدر، فهو قد عرف ما كان من غضب يزيد علي ابن الزبير، حين امتنع عن البيعة، و أقسم أن لا يرضي حتي يحمل اليه ابن الزبير في جامعة، يقاد اليه كما يقاد الأسير، و لو كان الأمر، كما يراه المؤرخون، لأعد له عدته، و بدهي أن عدته لن تكون اثنان و سبعون رجلا، هم فتيان آل البيت و بعض أنصارهم، و لما رفض نصرة عشرين ألفا عرضهم عليه الطرماح بن عدي، من فتيان طي ء يضربون بين يديه بسيوفهم، و لما عرض علي أنصاره ليلة كربلاء الانصراف في الليل البهيم.

و هكذا يبدو واضحا أن القضية في ضمير الامام الحسين، التقي شجاع، انما كانت قضية دين، و من ثم يستوي عنده التخلي عن هذه القضية، و تخلية عن هذا الدين، صحيح أن الشكل الخارجي للقضية تمثل يومها في استخلاف يزيد، لكن جوهرها الصحيح كان واضحا أمام وعي سبط النبي صلي الله عليه و سلم و رشده و نور بصيرته، تماما كما كان واضحا من قبل أمام وعي أبيه الامام علي و أمام رشده و نور بصيرته، و استخلاف يزيد لا ينفي عن القضية موضوعيتها العميقة، و لا يقلل من تبعة النهوض بها، بل انه، رغم هوانه، انما يزيد من الحاح هذه التبعات، ذلك لأن يزيد هذا لا يمتلك ذرة من الصلاحية التي تؤهله لأن يجلس من الأمة المسلمة، حيث كان يجلس من قبل أبوبكر و عمر و عثمان و علي، رضي الله عنهم أجمعين، و من ثم فقد كانت خلافة واحد من طرازه أدهي كارثة تنزل بالدولة و الأمة، لا سيما في عصر لا تفصله عن عصر النبوة و الوحي سوي سنوات معدودات، و في جيل لا يزال يحيي في رجال أبرار من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم أمثال الامام الحسين و ابن عمر و ابن الزبير و ابن عباس و أبي الدرداء


و قيس بن سعد بن عبادة، و لئن كان هناك من خيار الصحابة و المسلمين من سكن لهذا الوضع الأليم بعد وقوعه، فانهم لم يفعلوا عن رضا و اقتناع، بل عن رغبة في تجنب المسلمين مزيدا من الحروب و الآلام و الدماء، الأمر الذي لم يتردد الامام الحسن نفسه عن النهوض به، من قبل، حين تنازل عن حقه في الخلافة لمعاوية، و لو أن معاوية و في بالعهد الذي أبرمه مع الامام الحسن أمام المسلمين كافة، فترك الأمر من بعده لمشورة الناس و اختيار الأمة، لتغير موقف الامام الحسين، و لتغير بذلك مجري الأحداث، كما يقول الأستاذ خالد محمد خالد».

لكن الأقدار أرادت غير ذلك، فشاءت ارادة الله أن يرتكب معاوية خطأ كبيرا في حق الاسلام و المسلمين، فيجعل من يزيد القرود رأس المسلمين، و من ثم فقد فرض علي الامام الحسين أن يجاهد الكارثة ما استطاع الي ذلك سبيلا، و ربما كان لمعاصري الامام الحسين بعض العذر أو كل العذر في موقفهم من الامام الحسين أو من يزيد، غير أن المؤرخين الذين أتوا بعد الكارثة، و من نحا نحوهم حتي الآن، لا عذر لهم في أن يقولوا كلمة حق، احتراما لأنفسهم، و للأمانة التي يتحملون مسئوليتها أمام المسلمين، و ليس من أجل الامام الحسين و قضيته، فما كان الامام بحاجة الي كلمة منهم، فمقامه، فوق مقام كل امام، و كفي به فضلا و شرفا قول النبي صلي الله عليه و سلم فيه «حسين مني و أنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا»، و قد رفعه النبي صلي الله عليه و سلم فوق كل مقام حين وصفه بأنه سيد شباب أهل الجنة، و أن كبار الصحابة، رغم مخالفتهم في الرأي لم يخطئوه و لم ينكروا عليه اجتهاده، اعترافا منهم بمكانته، و تقديرا لعلمه و فقهه، فأولي بمن دونهم أن يقفوا من ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم موقف الأدب الذي وقفه من هو خير منهم، و أن يوقوا بأن كل ما قاله الامام الحسين صدق، و كل ما فعله حق، و هو بذلك فوق كل نقد، و أجل من أي حساب.

و أما قضية الامام الحسين، فلا ريب أن أي باحث يستطيع، ان أراد أن يعطي كل ذي حق حقه، أن يتبين عدالة القضية التي ناضل دونها الامام علي و أبناؤه، أكثر مما كان متاحا لمعاصريها الذين كانوا ينظرون اليها من خلال


حدسهم و تقديرهم لاحتمالات المستقبل حين يستقر الأمر لبيت أبي سفيان، و حين تنتهي الي أيدي أبنائه مصاير الاسلام و المسلمين، أما نحن اليوم فالأمر بالنسبة لنا ليس أمر حدس أو احتمال، فما كان حدسا بالأمس قد صار حقيقة، و ما كان احتمالا و ظنا، أصبح واقعا و تاريخا، فها هو معاوية لا يكتفي باغتصاب الخلافة، و قتل بعض صحابة رسول الله صلي الله عليه و سلم صبرا، و مخالفة السنة في كثير من الأمور، فضلا عن أن يحكم الناس بالخوف لا بالرضي، و يسوسهم بالرغب و الرهب، لا بما ينبغي أن يساس به المسلمون من كتاب الله و سنة رسوله صلي الله عليه و سلم، و أموالهم العامة ليست لهم، و انما هي الي ملكهم و ولاتهم يتصرفون فيها علي ما يشتهون، لا علي ما يقتضيه الحق و العدل و المعروف، فالصلات الضخمة تعطي لكثير من الناس تشجيعا لبعضهم علي المضي في الطاعة و الاذعان، و اغراء لبعضهم الآخر بالسكوت عن الجهر بالحق و القيام دونه، أشراف الحجاز غارقون في الثراء من هذه الصلات التي تشتري بها طاعة ضعفائهم، و يشتري بها سكوت أقوائهم، و أهل الشام غارقون في الثراء، موسع عليهم في السلطان، لأنهم جند الملك و حماة دولته، و أهل العراق مضطهدون لأنه بين شيعة للامام علي، و بين خارج علي الجماعة، و بين قوم آخرين يصنع بهم ما يصنع بأهل الشام و الحجاز، و دماؤهم ليست حراما علي الملك و لا علي عماله، و انما يستحل منها الملك و العمال ما حرم الله، لا اقامة لحدود الدين، و لكن تثبيتا لسلطان الملك، ثم لا يرغب معاوية و هو علي و شك لقاء ربه في التكفير عن خطئه تاركا امر المسلمين للمسلمين، بل يمعن في تحويل الاسلام الي ملك عضوض، و الي مزرعة أموية، فيأخذ البيعة ليزيد، كولي عهد له، يأخذها بالذهب و السيف، و رحم الله الحسن البصري، فقد كان يقول، فيما يروي الطبري، «أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة، انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء حتي ابتزها أمرها بغير مشوة منهم، و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة

، و استخلافة ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير و يضرب بالطنابير و ادعاؤه زيادا، و قد قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: «الولد للفراش


و للعاهر الحجر، و قتله حجر، ويل له من حجر و أصحاب حجر، ويل له من حجر و أصحاب حجر».

ثم ها هو يزيد يتربع علي عرش أبيه بعد وفاته، فيهمل أمر المسلمين، و يعكف علي اللهو بفهوده و قروده حتي يلقب «يزيد القرود»، ثم يسلط من قواده و رجاله من ينزلون بالعباد و البلاد من الهول ما يخجل الشيطان نفسه من اقترافه، فما كان أحد يتصور أن من يجلس في مكان خليفة المسلمين، مهما بلغ فسوقه، و أيا كانت درجة عصيانه لله و رسوله، أن يبلغ به الأمر القيام بمذبحة كربلاء، يقتل فيها اللئام من جيشه شباب آل محمد صلي الله عليه و سلم، و علي رأسهم الامام الحسين، ثم يهرعون الي سيدات بيت النبوة ينازعونهن الحلي و الثياب علي أجسادهن الطاهرة، لا يزعهم عن حرمات رسول الله وازع من دين أو مروءة، ثم يوطئون جثث الشهداء من آل البيت الخيل، ثم يقطعون رؤوسهم و يرفعونها علي الحراب، ثم يتركون الجثث ملقاة علي الأرض لا يدفنونها و لا يصلون عليها، كما صلوا علي جثث قتلاهم، و كأن تلك الخطايا الكبري لم تشف غليل يزيد و عصابته من الاسلام و المسلمين، فما أن يمضي حين من الدهر، حتي يرسل الطاغية جيوشه لتنتهك حرم رسول الله صلي الله عليه و سلم في المدينة، و تقوم بمذبحة مروعة يقتل فيها ألف و سبعمائة (أو حتي سبعمائة في رواية الزهري) من بقايا المهاجرين و الأنصار و التابعين، و عشرة آلاف من غيرهم، ثم تستباح الأعراض بعد ذلك جهارا، نهارا في جوار قبر النبي صلي الله عليه و سلم حتي زعم الرواة أن ألف امرأة حملت بغير زواج، ثم أخذ من بقي من أهل المدينة بالبيعة، لا علي كتاب الله و ستة رسوله صلي الله عليه و سلم، كما تعود المسلمون أن يبايعوا، و لكن علي أنهم خول ليزيد، فمن أبي منهم هذه البيعة المنكرة، أمر به فضربت عنقه، و هكذا عصي الله و خولف عن الدين جهرة في مدينة الرسول صلي الله عليه و سلم، بل حتي المسجد النبوي الشريف لم يسلم من أذي جيش يزيد، فزعم البعض أن الخيل جالت في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم و بالت بين القبر و المنبر (الروضة الشريفة)، ثم تحرك موكب الشر الي بلد الله الحرام، الي مكة المكرمة، فشدوا الحصار عليها، ثم


لم يقفوا عند هذا الحد، و انما رموا الكعبة المشرفة بالمجانيق، و اتصل الحصار حتي جاءهم خبر موت طاغيتهم يزيد، و هكذا كانت خطايا يزيد الثلاثة التي سجلها له التاريخ، كل واحدة منهن كبيرة من الكبائر، لم و لن يرتكبها مسلم علي مدي تاريخ أمة العرب و الاسلام: مذبحة كربلاء، و مذبحة المدينة المنورة، و ضرب الكعبة بالمجانيق و حصار البلد الحرام، و هكذا فان كيد يزيد للاسلام و المسلمين أشد من كيد آبائه الأمويين، و هانت موبقات أبيه الأربعة التي ذكرها الحسن البصري، بجوار موبقات ابنه يزيد الذي فرضه علي الاسلام و المسلمين بالسيف و الذهب، ثم حين يختفي بيت أبي سفيان بموت يزيد، و يسطو علي الخلافة بيت مروان بن الحكم، طريد رسول الله صلي الله عليه و السلام و هو شعبة أخري، و امتداد آخر للأمويين، يظهر الحجاج الثقفي لينشر الخراب و الدمار و القتل في كل مكان من باسم الأمويين، و في سبيل دعم ملكهم.

و هكذا تظهر بوضوح قضية الامام الحسين، بل قضية آل البيت، فهذه الأهوال كلها، التي نعرفها نحن اليوم بعد وقوعها، كان الامام علي يحسها ببصيرته قبل وقوعها، فلقد كان بالهامه الصادق يري كل ذلك المصير، فقام قومته ليمنع الكارثة قبل وقوعها، ثم قام من بعده ابنه العظيم الامام الحسين ليمنع امتداد الكارثة و استمرارها، و هكذا نري أن قضية الامام الحسين لم تكن قضية حق شخصي في الخلافة، و لا معركة ثأر جاهلي قديم، بل هي قضية الاسلام كله، و قضية كل مؤمن أواب، قضية الحفاظ علي دين الاسلام، و تراث النبي محمد صلي الله عليه و سلم، حتي و ان كان الثمن حياته، فاذا كانت الأقدار ستؤثره و آل بيته الطاهرين بأن يكونوا أعظم شهدائها، و أشرف قرابينها، فلتكن مشيئة الله، و ليكن الامام و أبناؤه و أهله شرفا للحق في مماتهم و استشهادهم، كما كانوا شرفا له في محياهم، أو ليسوا هم آل بيت الرسول، بل انهم أهله و أبناؤه و كفاهم بذلك شرفا و مجدا.

و لعل هذا كله انما يفسر لنا من أقوال الامام الحسين لمن أرادوا منعه من الخروج من ناصحيه، و من أبناء أبيه و عمومته، صحيح أن هناك من أسباب


الخروج عوامل محسوسة لمعاصرية، كافتقاد الأمن الذي كان ينشده في البلد الحرام عندما جاء عائذا بالبيت، و من ثم فقد قال للفرزدق، فيما يروي الطبري و ابن الأثير و ابن كثير، عندما سأله «بأبي و أمي يا ابن رسول الله ما أعجلك علي الحج؟» فقال الامام الحسين «لو لم أعجل لأخذت» هذا فضلا عن تورعه عن أن يستباح البلد الحرام بسببه، و طبقا لرواية ابن كثير، فقد قال لابن عباس حين حاول منعه من الخروج من مكة، «لأن أقتل بمكان كذا و كذا أحب الي من أن أقتل بمكة و تستحل بي»، و لكنه صحيح كذلك، بل هو الأصح، أن هناك عوامل أخري، لا يدركها الا الباحثون عن الحقيقة، و قد احتفظ الامام الحسين بها لنفسه، فلم يفصح عنها الا بمقدار، و من ثم فعندما ألح عليه ناصحوه بالبقاء في مكة، أفصح لهم عن طرف من سره، و طبقا لرواية الطبري و ابن كثير فقد قال لهم: «اني رأيت رؤيا، و رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم أمرني فيها بأمر، و أنا له ماض، علي كان أولي»، و رفض أن يحدث أحدا عن رؤياه هذه و من ثم فان الامام الحسين انما كان يسير علي هدي و نور من الله و رسوله، و هو اللائق بسبط النبي صلي الله عليه و سلم و سيد شباب أهل الجنة، المناسب لأحواله، و ما كان له أن يعرض عما أمره به جده المصطفي صلي الله عليه و سلم، و هو الذي لا ينطق عن الهوي، الي ما يظنه الناس و يرجونه، و شتان بين من يتكلم من دار الحق بلسان الحق، و بين من يتكلم من دار الباطل و الغرور، بلسان العاطفة و الرجاء.