بازگشت

اسباب امتناع الامام الحسين عن بيعة يزيد


لعل من الأفضل هنا، و قبل أن نتحدث عن الدوافع التي منعت سيدنا الامام الحسين عن بيعة يزيد بن معاوية، أن نشير الي السنين الستين التي انقضت بعد حركة الامام الحسين انما قد انقضت في ظل دولة الأمويين، و هي دولة انما كانت تقوم علي تخطئة الامام الحسين في كل شي ء، و تصويب مقاتليه في كربلاء، في كل شي ء، و من ثم فالقول بصواب الامام الحسين معناه القول ببطلان دولة بني أمية، كما أن التماس العذر للامام معناه القاء الذنب عليها، و كم قرأنا في التاريخ، و شهدنا من أحداثه، كيف ينسي الحياء و تبتذل القرائح


أحيانا في تنزيه السلطان القائم، و تأثيم السلطان الذاهب، فليس الحكم علي صواب الامام الحسين أو علي خطئه اذن بالأمر الذي يرجع فيه الي أولئك الصنائع المتزلفين الذين يرهبون سيف الدولة القائمة، و يغنمون من عطائها، و لا لصنائع مثلهم، جاءوا بعدهم، يرهبون بعد ذلك سيفا غير ذلك السيف، و يغنمون من عطاء غير ذلك العطاء، و في كلا الحالين، فالرغبة في مرضاة السلطان، و نيل عطاياه، بطريق مباشر أو غير مباشر، هما اللذان يحكمان التصويب و التخطئة، قبل أن يحكمها صواب الموقف و خطئه، فضلا عن مكانة صاحب الموقف، و بدهي أن الحاكم الذي وجد من يقتل له الامام الحسين و آل بيت النبي الطاهرين، و أنصارهم، ثم يقترف في حقهم بعد ذلك ما يخجل الشيطان نفسه من اقترافه، ثم يستبيح حرم رسول الله صلي الله عليه و سلم أياما ثلاثة نهبت فيها الأموال و انتهكت الأعراض في جوار قبر النبي صلي الله عليه و سلم، ثم يستبيح بعد ذلك حرم الله في البلد الحرام و يضرب الكعبة المشرفة بالمجانيق، ان من يفعل كل هذه الخطايا، ثم يجد بعد ذلك من يدافع عنه من مرتزقة التاريخ و أصحاب المصالح، ما أسهل ما يجد من يخطي ء سبط النبي صلي الله عليه و سلم و سيد شباب أهل الجنة، و يصوب حفيد هند و أبي سفيان و من أتي بعده من المروانيين، و من ثم فالحكم في صواب الامام الحسين و خطئه انما يرجع لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان و المكان، و هما البواعث النفسية التي تدور علي طبيعة الانسان الباقية، و النتائج المقررة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال، و بكل من هذين المقياسين القويين نفيس حركة الامام الحسين في خروجه علي يزيد بن معاوية، فنقول أنه أصاب، أصاب اذا نظرنا الي بواعثه النفسية التي تهيمن عليه و لا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غيرها، و أصاب اذا نظرنا الي نتائج الحركة كلها نظرة واسعة لا يستطيع أن يجادل فيها من يأخذ الأمور بسنة الواقع و المصلحة أو من يأخذ الأمور بسنة النجدة و المروءة.

و أما أسباب امتناع الامام الحسين عن بيعة يزيد بن معاوية فكثيرة منها (أولا) تلك البواعث النفسية التي خامرت نفس الامام الحسين في تلك المحنة.


الأليمة من أن بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة، و لا بالبيعة التي يضمن لها الدوام في تقدير صحيح، فهي بيعة نشأت في مهد الدس و التملق، و لم يجسر معاوية عليها حتي شجعه عليها من له مصلحة ملحة في ذلك التشيع، و بدهي أننا لا نريد الطعن في معاوية أو في غيره، بيد أننا خلال قيامنا بواجبنا في تحري الحقيقة في هذه القضية التي ندرسها، لا نملك، كما يقول الأستاذ خالد محمد خالد، الا ابداء الأسف الشديد و الجزع الأشد لهذا النهج الذي سار عليه معاوية، مؤسس دولة الأمويين، لا سيما حين اتخذ أفدح قراراته، و أكثرها ضراوة و بؤسا، ذلكم هو أخد البيعة لولده يزيد، و فرضه علي الدولة المسلمة و علي الأمة المسلمة، الأمر الذي يعينيا الآن بحثه، و الذي كان السبب المباشر و الأوحد في مأساة كربلاء و ما تلا كربلاء من أهوال شهدتها مكة و شهدتها المدينة علي نحو أليم و وبيل، هذه الأحداث التي كانت هي الأخري سببا مباشرا في ضياع الملك من بيعت معاوية الي الأبد، بعد أربع سنوات من وفاته، ثم انتقال هذا الملك الي بطن آخر من بطون بني أمية، أولئك هم بنو مروان، لقد رأينا معاوية تهتز أعطافه بالامارة ثم بالملك أربعين سنة، أفما كان يكفيه ذلك، ثم يترك الأمر من بعده لاختيار المسلمين، ليكون في ذلك، علي الأقل، وفاء بالعهد الذي أبرمه مع الامام الحسن بن علي، و الذي كان أهم شروطه التنازل له عن الخلافة، لكن معاوية لم يفعل ذلك، و انما قرر، بتدبير منه أو بايحاء من بعض مشيرته أو بهما معا، أن يستبقي السلطان في بيته و أسرته، و اختار لذلك أبعد الناس عن الصلاحية لخلافة المسلمين، ولده يزيد.

و منها (ثانيا) أن معاوية عند اختياره لولده يزيد، انما برر البيعة له بحرصه علي عدم نشوب الخلاف و الصراع من جديد بين المسلمين، و انه في الحقيقة لتبرير يدينه أكثر مما يشفع له، فلماذا خشي الصراع و الفتنة اذا هو لم ينقل الملك لولده يزيد، و لم يخشهما اذا هو و سد الأمر لغير أهله و سلم قيادة الدولة المسلمة الي أكثر العالمين بعدا عن الصلاحية لها، و هو ولده يزيد، لا ريب في أن هذه النظرة انما تكشف بوضوح عن أن معاوية كان ينظر الي الأمر علي أنه سلطان


بني أمية، أكثر مما هو سلطان الاسلام و المسلمين، و من ثم فقد كشف معاوية بعمله هذا أحد وجوه القضية الجليلة التي قاتل الامام علي دونها، هذا الوجه المتمثل في أن لا تصير خلافة المسلمين الي طلقاء بني أمية أبدا، و أن تظل في الصالحين الأولين من المهاجرين و الأنصار، فلقد كانت بصيرة الامام علي كرم الله وجهه في الجنة، من النفاذ و الصدق، يوم نكص معاوية، بحيث أبصرت أبعاد المصير، اذا استقر السلطان في أيدي الأمويين، فلقد يهون الأمر، لو بدأ النكوص بمعاوية، ثم انتهي به، غير أن الامام علي انما كان يري ببصيرته الصادقة أن الانحراف اذا بدأ فلن يؤذن بانتهاء، و كان يري أن الأمويين اذا أفلخوا في تثبيت ملكهم المنشود، فسيتحول التراث الجليل الذي تركه رسول الله صلي الله عليه و سلم الي ملك عضوض و دنيا جامحة، و من ثم صار دحض هذه المحاولة التعسة واجب المؤمنين كافة، و هذه كلمات أبي سفيان التي يجتر بها نوايا أسرته، يوم بويع للخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، لا تدع مجالا للشك في أطماعهم و ما يبتغون، فهو يوصي أهله و ذريته قائلا «لقد صار الأمر اليكم فلا تدعوه يفلت و تلقفوه كالكره، فانما هو الملك، و لا أدري ما جنة و لا نار» ثم يمر أبي سفيان بقر سيدالشهداء «حمزة بن عبدالمطلب» عم النبي صلي الله عليه و سلم فيستعيد ذكري الماضي و يقول «يا أبا عمارة، ان الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيوف قد صار الي غلمان بني أمية»، بل ان

أباسفيان من قديم لم ير في الاسلام الا ملكا، فيوم فتح مكة، و قد صحبه العباس عم النبي صلي الله عليه و سلم الي الرسول ليسلم و ينجو بحياته، نظر الي الكتائب اللجبة العارمة تحمل رايات الاسلام، فينظر الي العباس و يقول «لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما»، فيجيبه العباس: «يا أباسفيان، انها النبوة، لا الملك»، و هكذا يبدو الفارق الكبير واضحا بين تفكير بني هاشم و تقكير بني أمية، فبنو هاشم، رهط النبي صلي الله عليه و سلم يرون الدين علي حقيقته، نبوة و رحمة، و هدي و نورا، و بنوأمية يرونه، من خلال أمانيهم أو أطماعهم، ملكا و تسلطا، و من ثم فان الامام علي لم ينخدع عن جوهر الموقف الذي اتخذه معاوية حين رفضه بيعة الامام، و لم يخدع عن عواقب هذا الموقف، اذا تركه المسلمون يستشري و يتفاقم، و اذا كان كبح هذا الجنوح


الأموي الخطير واجب المؤمنين، فلا ريب أن أولي المؤمنين بهذا، انما هم آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم، أهل التقوي و أهل التضحية، و هكذا شرع موكب التضحيات في مسيرة عالية، كلها قمم، مستلها بأشرف تلك القمم و أعلاها، حياة الامام الرشيد الشهيد، سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة، ثم بحياة الشهيد الممجد مولانا الامام الحسين، و معه عشرات من اخوته و أهل بيته و صحبه، في يوم يجعل الولدان شيبا، يوم كربلاء العظيم، يوم التضحية و الفداء.

و منها (ثالثا) أن معاوية باختياره لولده يزيد، دون الامام الحسين، و غيره من أبناء كبار المهاجرين كأبي بكر و عمر و الزبير، رضي الله عنهم أجمعين، ممن ينالون اجلال الناس، و رضي صحابة رسول الله صلي الله عليه و سلم، انما جعل مقاومة بيعته لولده يزيد، ان آجلا أو عاجلا، أمرا محتوما، و قدرا مقدورا، و قد بدأت المقاومة العلنية بامتناع الامام الحسين و عبدالله بن الزبير، و خروجهما الي مكة عائذين بالبيت الحرام، ثم سرعان ما بدأ النذير الكالح الذي ملأ صفوف الجماهير في كل مكان، و الذي ارتفع به الصوت داخل الأمويين أنفسهم الذي كانوا يشمئزون من يزيد، و يرون بين رجالهم من هو أحق و أجدر، بل ان المقاومة انما بدأت علي أيام معاوية و من داخل بيته، و قد أحس معاوية نفسه الامتعاض من بيته، قبل أن يحسه من الغرباء عنه، فكانت امرأته «فاختة» بنت قرطة بن حبيب بن عبد شمس، تكره بيعة يزيد، و تود لو آثر بالبيعة ابنها عبدالله فقالت له: «ما أشار به عليك المغيرة، أراد أن يجعل لك عدوا من نفسك يتمني هلاكك كل يوم»، و اشتدت نقمة مروان بن الحكم، و هو أقرب الأقرباء الي معاوية، حين بلغته دعوة العهد ليزيد، فأبي أن يأخذ العهد له من أهل المدينة، و كتب الي معاوية «ان قومك قد أبوا اجابتك الي بيعتك» فعزله معاوية من ولاية المدينة و ولاها سعيد بن العاص، فأوشك مروان أن يثور و يعلن الخروج و ذهب الي أخواله من بني كنانة فنصروه، و قالوا له «نحن نبلك في يدك و سيفك في قربتك، فمن رميته بنا أصبناه، و من ضربناه قطعناه، الرأي رأيك و نحن طوع يمينك» ثم أقبل مروان في وفد كثير منهم الي دمشق، فذهب الي قصر معاوية


و قد أذن للناس، فمنعه الحاجب لكثرة من رأي معهم فضربوه و اقتحموا الباب، و دخل مروان و هم معه حتي سلم علي معاوية و أغلظ له القول، فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه قومه و ترضي مروان ما استطاع، و جعل له ألف دينار كل شهر، و مائة لمن كان معه من أهل بيته، و لم يكن مروان وحده بالغاضب بين بني أمية من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يري أنه أحق منه بالخلافة، لأنه بان عثمان الذي تذرع معاوية الي الخلافة باسمه، فقال لمعاوية: «يا أميرالمؤمنين، علام تبايع ليزيد و تتركني، فو الله لتعلم أن أبي خير من أبيه، و أمي خير من أمه، و انك انما نلت ما نلت بأبي»، و في رواية للطبري «أما لقد اصطنعك أبي و رفاك حتي بلغت باصطناعه المدي الذي يجاري اليه و لا يسامي، فما شكرت بلاءه و لا جازيته بالآئه و قدمت علي هذا - يعني يزيد - و بايعت له، و و الله لأنا خير منه أبا و أما و نفسا» فسري عنه معاوية و ولاه حرب خراسان، ثم جمع له بين حربها و خراجها، و هكذا كان أكبر بني أمية أعظمهم أملا في الخلافة بعد معاوية، و كان بغضهم لبيعة يزيد، بقدر أملهم فيها، و هؤلاء، و ان جمعتهم مصلحة الأسرة فترة من الزمن، لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذن بالبقاء و تبشر بالضمان و القرار، و الأمر كذلك الي عبدالله بن عمرو بن العاص، أحد أركان دولة بني أمية، فلقد امتنع عبدالله، حتي دعا عابس بن سعيد نائب أمير مصر بالنار، فيما يروي المقريزي في الخطط، ليحرق عليه بابه، فسلم بالأمر.

و منها (رابعا) أن يزيد كان شابا لاهيا عابثا، عاكفا علي اللهو بفهوده و قروده، حتي لقب «يزيد القرود»، و التاريخ يصوره لنا دائما بين بطانته، و هي بطانة سوء، يلهون و يشربون و يعربدون، و حتي حين أراد أبوه أن يضفي علي سيرته بعض التصون و الوقار، فأرسله الي مكة حاجا، لم يغنه ذلك شيئا، فقد اصطحب يزيد معه لهوه و عبثه و بطانته، روي ابن الأثير أن يزيد حج في حياة أبيه، فلما وصل الي المدينة جلس علي شراب له، فاستأذن عليه ابن العباس و الامام الحسين، فقيل له ان ابن عباس ان وجد ريح الشراب عرفه، فحجبه عنه، و أذن للحسين، فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب، فقال لله در


طيبك ما أطيبه، فما هذا قال هو طيب يصنع بالشام، ثم دعا بقدح فشربه، ثم دعا بآخر، فقال اسق أبا عبدالله، فقال له الحسين: «عليك شرابك أيها المرء، لا عين عليك مني».

و مرة أخري، أراد معاوية أن يقدم ولده يزيد للناس كمجاهد في سبيل الله، و طبقا لرواية ابن الأثير و ابن خلدون، فلقد سير معاوية جيشا كثيفا الي بلاد الروم، و جعل عليه سفيان بن عوف، و أمر ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل و اعتل، فأمسك عنه أبوه، فأصاب الجند جوع و مرض فأنشد يزيد:



مالي أبالي بما لاقت جموعهم

بالفرقدونة من حمي و من موم



اذا اتكأت علي الأنماط مرتفعا

بدير مروان عندي أم كلثوم



فأقسم معاوة حين بلغه هذان البيتان ليحلقن بالجيش ليدرأ عنه عار النكول و الشماتة بجيش المسلمين بعد شيوع مقاله في خلواته، علي أن بعض المؤرخين كأبي الفداء و ابن الوردي يذكران الغزوة عام 48 ه (و ليس عام 49 أو 50 ه، كما قال ابن الأثير) و أن سعيد ابن عوف هو القائد، و لم يذكرا يزيد فيها.

ثم ان يزيد، قبل هذا و بعد هذا، تنقصه كل مقومات الرجل المناسب، للمكان المناسب، فهو مفلس افلاسا تاما من كل ما كان لأبيه من دهاء و شخصية و ذكاء و مقدرة، بل انه لم يستطع الافادة من تربيته في بادية بني كلب، و في أحضان أمه ميسون بنت مجدل الكلبية التي كرهت العيش مع أبيه معاوية في قصر الخضراء بدمشق، فطلقها و أرسلها و ابنها يزيد الي بادية بني كلب، أو هو، في بعض الروايات، طلقها، و هي حامل بيزيد، فنشأ يزيد معها بعيدا عن أبيه، و قد أفاد يزيد من بادية بني كلب بلاغة الفصحي و حب الصيد و ركوب الخيل و رياضة الحيوانات، و لا سيما الكلاب، و هذه صفات في الرجل القوي تزينه و تشحذ قواه، و لكنها في أعقاب السلالات، أو عكارة البيت كما يقال بين العامة، مدعاة الي الاغراق في اللهو، و الولع بالفراغ، لانها هي عنده كل شي ء، و ليست مددا لغيرها من كبار الهمم و عظائم الهموم، و هكذا انقلبت هذه الصفات


في يزيد من المزية الي النقيصة، فكان كلفه بالشعر الفصيح مغريا له بمعاشرة الشعراء و الندماء في مجالس الشراب، و كان ولعه بالصيد شاغلا يحجبه عن شواغل الملك و السياسة، و كانت رياضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين و الفهادين، فكان له قرد يدعوه «أبا قيس» يلبسه الحرير و يطرز لباسه بالذهب و الفضة و يحضره مجالس الشراب، و يركبه أتانا في السباق و يحرص علي أن يراه سابقا مجليا علي الجياد، و ما أظن أن عقلا يرضي أن تكون هذه صفات خليفة المسلمين، و فيهم بقايا الصحابة و التابعين، و من ثم فلقد أخرج الواقدي و ابن سعد أن عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة قال «و الله ما خرجنا (أي أهل المدينة) علي يزيد، حتي خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء، ان رجلا ينكح الأمهات و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة، و الله لو لم يكن معي أحد من الناس لا بليت الله فيه بلاء حسنا» و من المعروف أن الروايات لم تجمع علي شي ء كاجماعها علي ادمانه الخمر و شغفه بالملذات و توانيه عن العظائم، و قد مات بذات الجنب، و هو لم يتجاوز السابعة و الثلاثين بقليل، و لعلها اصابة الكبد من ادمان الشراب و الأفراط في الملذات، و لا يعقل أن يكون هذا كله اختلافا و اختراعا من الأعداء، لأن الناس لم يختلقوا مثل هذا علي أبيه معاوية أو عمرو بن العاص، و هما بغيضان أشد البغض الي أعداء الأمويين، و لأن الذين حاولوا ستره من خدامه لم يحاولوا الثناء علي مناقب فيه تحل عندهم محل مساوئه و عيوبه، كأن الاجتراء علي مثل هذا الثناء من وراء الحسبان، و لعل العجيب من الأمر: اذا كانت كل تلك المساوي ء في يزيد، فقيم كان استخلافه، و بأي رشد، و أي ضمير، يفرض معاوية واحدا هذا شأنه علي الاسلام و المسلمين؟ ثم أين عهده مع الامام الحسن، علي أن يترك الأمر بعده شوري، حيث يختار الناس من يرتضون، لكن معاوية فعلها.

و منها «خامسا» أن يزيد لم يختص بمزية واحدة محمودة، تقابل نظائرها من مزايا الامام الحسين، حتي في الخصال التي تأتي بها المصادفة، و لا فضل فيها لأصحابها، و منها مزية السن و سابقة الميلاد، فلما تنازعا البيعة كان الامام


الحسين في السابعة و الخمسين، مكتمل القوة، ناضج العقل، وافي المعرفة بالعلم و التجربة، و كان يزيد في نحو الرابعة و الثلاثين لم يمارس من شئون الرعاة و لا الرعية ما ينفعه بين هؤلاء أو هؤلاء، و مزية السن ربما كانت محل أخذ ورد في العصور الحديثة، و لكنها كانت تقطع القول في أمة العرب، حيث نشأ الأسلاف و الأخلاف علي طاعة الشيوخ و رعاية الأعمار، كما أن سن السابعة و الخمسين ليست بالسن التي تعلو بصاحبها في الكبر حتي تسلبه مزية الفتوة و مضاءة العزيمة.

و منها (سادسا) أنه لا يمكن القول أن الوراثة المشروعة في الممالك كان لها شأن يرجح بيزيد علي الامام الحسين في ميزان العروبة و الاسلام، ففي ميزان العروبة، كان بنوهاشم، رهط النبي صلي الله عليه و سلم و أهل الامام الحسين، أصحاب عقيدة و أريحية و وسامة، و كان بنوأمية، أهل يزيد، أصحاب عمل و حيلة و مظهر مشنوء، و كان بنوهاشم سراعا الي النجدة و نصرة الحق و التعاون عليه، و لم يكن بنوأمية كذلك، فتخلفوا عن حلف الفضول الذي نهض به بنوهاشم و حلفاؤهم، و هو الحلف الذي اتفق فيه نخبة من رؤساء قريش «ليكونن مع المظلوم حتي يؤدوا اليه حقه، و ليأخذن أنفسهم بالتآسي في المعاش و التساهم في المال، و ليمنعن القوي من ظلم الضعيف و القاطن من عنف الغريب» و اتفقوا علي هذا الحلف لأن العاص بن وائل (أبو عمرو بن العاص) اشتري بضاعة من رجل زبيدي و لواه بثمنها، فنصروا الرجل الغريب علي القرشي و أعطوه، حقه، كما انتزعوا بنت الخثعمي من التاجر نبيه بن الحجاج كذلك، هذا الي أن بني هاشم كانوا يعملون في الرياسة الدينية، و بني أمية في التجارة، و هما ما هما في الجاهلية، و من هنا كان الخلاف بين البيتين، أخلاق الصراحة و أخلاق المساومة، و بين وسائل الايمان و وسائل الحيلة، ذلك لأن بني أمية، علي خلاف ما زعم الزاعمون، لم يكونوا من أصحاب مناصب السيادة و الشرف في قريش، فلقد اتفق بنو قصي علي أن يتولي عبد مناف السقاية و الرفادة، و أن تكون الحجابة و اللواء و رياسة دار الندوة لبني عبدالدار، ثم تولي هاشم السقاية و الرفادة بعد أبيه عبد مناف، ثم ورث عبدالمطلب زعامة أبيه هاشم، فأصبح


سيد قريش، و ان لم يكن أغناها.

و هكذا لم يترك بنوهاشم لبني أمية شيئا من سيادة الجاهلية، و من ثم فقد اشتغل بنوأمية بالتجارة، بل و حتي التجارة هذه لم يستفد منها معاوية، والد يزيد، فلم يرث معاوية من هذه التجارة أو سيادة المال، التي قيل عنها لبيت أبي سفيان، و التي كان قوامها كله و فرة المال، ربما لأن أباسفيان أضاع كثيرا من ماله علي حرب الاسلام، و ربما لأن ماله لم يكن من الوفر ما يبقي علي كثرة الوارث، و روي أن امرأة استشارت النبي صلي الله عليه و سلم في التزوج بمعاوية، فقال لها «انه صعلوك»، فلقد روي ابن سعد في الطبقات و ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة فاطمة بنت قيس أن النبي صلي الله عليه و سلم قال لها: أنكحي أسامة، و فاطمة قرشية من فهر، و قد طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة، و لما انقضت عدتها خطبها اثنان، معاوية بن أبي سفيان و أبوجهم بن حذيفة، فجاءت الي الرسول صلي الله عليه و سلم تعرض عليه أمرها ليختار واحدا منهما، فقال لها النبي صلي الله عليه و سلم: أما أبوجهم فلا يضع عصاه عن عاتقة، و أما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد.

و قد جاء الحديث الشريف في موطأ مالك (باب ما جاء في نفقة المطلقة)، و في زاد المعاد (186 - 185 / 5 ط بيروت 1985)، كما رواها الامام مسلم في صحيحه (باب المطلقة البائن لا نفقة لها) بسنده عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة و هو غائب، فأرسل اليها وكيله بشعير فسخطته فقال: و الله ما لك علينا من شي ء، فجاءت رسول الله صلي الله عليه و سلم فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم فانه رجل أعمي تضعين ثيابك، فاذا حللت فآذنيني، فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان و أبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: أما أبوجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، و أما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: «أنكحي أسامة فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، و اغتبطت به» (انظر صحيح مسلم 98 - 94 / 10 ط بيروت 1981).


و روي الذهبي في المنتقي من منهاج الاعتدال، قال الحافظ أبوالفضل ابن ناصر، خطب معاوية في زمن رسول الله صلي الله عليه و سلم فلم يزوج لأنه كان كان فقيرا، و انما تزوج في زمن عمر رضي الله عنه، كما أن معاوية، علي عكس ما أشيع عنه، لم يكن من كتاب الوحي، كما أشاع خدام دولته بعد صدر الاسلام، و لكنه كان يكتب للنبي صلي الله عليه و سلم في عامة الحوائج و في اثبات ما يجبي من الصدقات و ما يقسم في أربابها، و لم يسمع عن ثقة قط أنه كتب للنبي صلي الله عليه و سلم شيئا من آيات القرآن الكريم.

و أما في الاسلام فقد كان توريث معاوية ابنه يزيد علي غير وصية من السلف، بدعة هرقلية كما سماها المسلمون و قتئذ، و لم يكن معقولا أن العرب في صدر الاسلام يوجبون طاعة يزيد لأنه ابن معاوية، و هم لم يوجبوا طاعة آل النبي صلي الله عليه و سلم في أمر الخلافة، لأنهم قرابة نبي الاسلام مولانا محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم، و هكذا شاءت عجائب التاريخ اذن ان تقيم بين الخصمين الامام الحسين و يزيد، قضية تتضح فيها النزعة النفعية علي نحو لم تتضحه قط في أمثالها من القضايا، و قد وجب أن ينخذل يزيد كل الانخذال، لو لا النفعية التي أعانته، و هو غير صالح لأن يستعين بها بغير أعوان من بطانته و أهله، لئن كان في تلك النزعة النفعية مسحة تشوبها من غير معدنها الوضيع لتكونن هي عصبية القبيلة من بني أمية، و هي هنا نزعة مواربة تعارض الايمان الصريح، و لا تسلم من الختل و التلبيس، و لهذا شك بعض الناس في اسلام ذلك الجيل من الأمويين، و هو شك لا نرتضيه من وجهة الدلائل التاريخية المتفق عليها، و لكننا نقول، مع الأستاذ العقاد، أنه من عجائب الحيل التي تحاول بها الغرائز الانسانية أن تبقي و جودها و تمضي لطيتها، أن بني أمية انتفعوا من حرب الاسلام للعصبية في تعزيز عصبيتهم، فجعلوها حجة علي بني هاشم أن النبوة لا تحصر الأمر فيهم، و ان الانبياء لا يورثون، و اذا نهضت هذه الحجة علي بني هاشم، فبنو أمية أقوي المنتفعين بها من بطون عبد متاف.

هذا و قد أوجبت الضرورة قبول المجاملة في هذه المنافسات فترة من


الزمن علي عهد معاوية بن أبي سفيان، فكان يلطف القول الي أبناء علي و يواليهم بالهدايا و المجاملات، و لكنه كان مضطرا الي مجاملة آل الامام علي، و مضطرا الي تنقص الامام علي و الغص من دعواه، فكان بذلك مضطرا الي النقيضين في آن واحد، انه ملك، و بايع بالملك لولده يزيد، و هو يعلم أنه غالب بالسلاح و المال، مغلوب بالسمعة و الشعور، فكان الناس يفضلون الامام علي عليه، و هو لا يملك أن يفاضله بقرابة النبي صلي الله عليه و سلم و لا بالسابقة الي الأسلام، و لا بالعراقة في قريش، فتجنب النسب و السابقة، و عمد الي شخص الامام علي في منازعات الخلافة، فاتهمه كذبا بتفريق الكلمة بين المسلمين، و أمر بلعنه، و العياذ بالله، علي المنابر، عسي أن يضعف من مكانة الامام علي التي هو مغلوب بها، و يستبقي الدولة التي هو بها غالب، و لج في ذلك حتي قتل أناسا من الصحابة لم يطيعوه في لعن الامام علي و اتهامه، كحجر بن عدي و أصحابه، و أبي أن يجيب الامام الحسن بن علي الي شرطه الذي أراد به أن يرفع اللعن عن أبيه، و كان معاوية علي حصافته يجهل أنه قد أضاع سمعة و شعورا، من حيث حارب الامام علي في مقام السمعة و الشعور، و أن مجاملة كهذه التي تحيي الرجل، و تغص من قدر أبيه، لهي أضعف مجالمة بين متلاقيين، فضلا عن خصمين متنافسين، قد آل بهما التنافس بعد أجيال الي مفترق الطرق.

و منها (سابعا) أن الامام الحسين عليه السلام، انما كان يري أن الأمور ليس أمر بيعة يزيد أو غيره، و هو كذلك لا يتعلق بشخص الامام فحسب، و انما يتعلق بالأمة المسلمة و نظام الحكم فيها، ثم ان الناس انما ينظرون الي الامام الحسين، نظرتهم الي الامام الذي يجب الاقتداء به، و الاهتداء بهديه، و ذلك لمكانته من رسول الله صلي الله عليه و سلم فهم بذلك أمانة في عنقه رضي بذلك أم كره، و لا يليق به أن يروا منه المثل الأعلي في القيام بحق الله و رسوله، أيا كانت الظروف، لا يخشي في ذلك لومة لائم. أو سطوة ظالم.

و منها (ثامنا) أن الامام الحسين، ما كان يسمح له دينه و تقواه، و حسبه و نسبه، أن يزكي يزيد هذا أمام المسلمين، و يشهد له أن الرجل الذي يصلح


لخلافة المسلمين، و صاحب الحق فيها و القدرة عليها، و الامام الحسين، كما هو معروف، انما كان يراقب الله في أقواله و أفعاله، فضلا عن أنه امام المسلمين و أشدهم حرصا علي التمسك بشريعة الاسلام، كما أن الصدق و الجرأة من طبعه، لا يعرف المداهنة، و حاشاه أن يشهد بغير الحق، فكيف له أن يبايع يزيد و يرضي بخلافته لخير أمة أخرجت للناس، و هو لا كفاءة و لا وقار، و لا نصحاء و لا مشيرين، الا من كانوا علي شر، أو موافقا علي ضلالة، هذا الي أن ملك يزيد لم يقم علي أي شي ء يرضاه سيدنا الامام لدينه أو لشرفه أو لأمة الاسلام، ثم ان هذه المبايعة انما هي أمر يتعلق بالذمة و العقيدة، و أن اقراره علي صلاحية يزيد انما هو اقرار فيه مخالفة للشرع يأباها الامام الحسين، و تحمل للمسئولية فيما عاناه الناس من تصرفات يزيد و سوء خلقه و شدة بطشه، هذا فضلا عن أن يزيد انما يأمر خطباء المساجد بلعن الامام علي و أبنائه و يسبونهم علي المنابر، و العياذ بالله، و هم من هم قرابة من رسول الله صلي الله عليه و سلم و عبادة و تقوي و سبقا من الاسلام، فكيف للامام أن يعترف بأهلية يزيد و صدق دعواه، و يقره و أعوانه علي هذا المسلك السي ء.

و منها (تاسعا) أن العقيدة الدينية في نفس الامام الحسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، و أنه كان رجلا يؤمن أقوي الايمان بأحكام الاسلام، و يعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين، انما هو أكبر بلاء يحيق به و بأهله و بالأمة العربية قاطبة في حاضرها و مصيرها، لأنه مسلم، و لأنه سبط رسول الله صلي الله عليه و سلم، فمن كان اسلامه هداية نفس، فالاسلام عند الامام الحسين هداية نفس و شرف بيت.

و منها (عاشرا) أن عدم البيعة ليزيد انما يتصل بالعقيدة أكثر منه بالسياسة و الحرب، فلقد أراد الامام الحسين أن يصلح كثيرا من مسائل العقيدة بعد أن اختلت الموازين علي أيام معاوية، ذلك لأن معاوية لم يدعم ملكه بالقوة فحسب، و لكن بايديولوجية تمس العقيدة في الصميم، فلقد كان يعلن في الناس أن الخلافة بينه و بين الامام علي قد احتكما فيها الي الله، و قضي الله فيها له، و ليس للامام علي، كما أنه حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل


الحجار انما أعلن اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء، و ليس للقادة خيرة في أمرهم، و هكذا كاد يستقر في أذهان المسلمين أن كل ما يأمر به الخليفة، حتي لو كانت طاعة الله في خلافه، انما قضاء من الله قد قدر علي العباد، هذا فضلا عن أن معاوية قد سن لبني أمية سنة خسيسة هي سب الامام علي و آل البيت الطاهرين و من ثم فقد كانوا يسبون الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و ينعوته بالكذب و المروق و العصيان، و كانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا، فيقهرونهم علي سبه و النيل منه بمشهد من الناس، و الا أصابهم العنت و العذاب، و شهروا في الأسواق بالصلب و الهوان، فمجاراة هذه الأمور كلها في مفتتح ملك جديد معناه أنها سنة و جبت و استقرت الجيل بعد الجيل بغير أمل في التغيير و التبديل، فمن أقر هذه السنة في مفتتح هذا الملك الجديد، فقد ضعف أمله، و ضعف أمل أنصاره فيه يوما بعد يوم، و ازداد مع الزمن ضعفا، كما ازدادت حجة خصومه قوة عليه.

و منها (حادي عشر) أن بيعة الامام الحسين ليزيد انما هي خطوة لا رجعة بعدها، اذا أقدم عليها الامام الحسين بما أثر عنه من الوفاء و صدق السريرة، فاذا بايع يزيد فقد وفي له بقية حياته، كما وفي لمعاوية بما عاهده عليه، و لا سيما حين يبايع يزيد علي علم بكل نقيضه فيه قد يتعلل بها المتعلل لنقض البيعة و انتحال أسباب الخروج، فملك يزيد لم يقم علي شي ء واحد يرضاه الامام الحسين لدينه أو لشرفه أو للأمة المسلمة، و من طلب منه أن ينصر هذا الملك، فانما يطلب منه أن ينصر ملكا ينكر كل دعواه، و لا يحمد له حالة من الأحوال، فضلا عن أن هذا الملك انما كان يقرر دعائمه في أذهان الناس بالبعض من الحسين في سمعة أبيه، و كرامة شيعته و مريديه.

و منها (ثاني عشر) أن شخصية الامام الحسين و تكوينه النفسي، ما كانت تسمح له بالبيعة لأمثال يزيد الفاجر الفاسق، و لا أن يصير أمر الخلافة، كما أرادها معاوية مزرعة أموية، و قد وصف الامام الحسين بأن فيه مشابهة من جده النبي صلي الله عليه و سلم، و من أبيه الامام علي، الا أنه كان في شدته أقرب الي أبيه، و قد قال


الامام علي كرم الله وجهه في الجنة، مشيرا الي الحسن: «ان ابني هذا سيخرج من هذا الأمر، و أشبه أهلي به الحسين»، و اتفق بعض الثقات علي أن «الغالب علي الحسن الحلم و الأناة كالنبي صلي الله عليه و سلم و علي الحسين الشدة كعلي».