بازگشت

استئصال شأفة يزيد


لا ريب في أن مسئولية يزيد عن مذبحة كربلاء، و اباحة حرم رسول الله صلي الله عليه و سلم ثلاثة أيام، ثم حرق الكعبة المشرفة و ضربها بالمجانيق، و لأول مرة في التاريخ علي وجه اليقين، أكبر من أن تنكر، و أخطر مما يتصور أي انسان، خاصة و أن ذلك كله قد تم علي يد يزيد بن معاوية، و لم ينقض الا نصف قرن علي انتقال الرسول صلي الله عليه و سلم الي الرفيق الأعلي، و عقدان من الزمان علي انتهاء الخلافة الراشدة، و بداية الملك المعضوض، فاذا أضفنا الي ذلك أن هناك شبهات قد دارت عن وفاة الامام الحسن مسموما ليخلو الطريق ليزيد لولاية العهد، لتبين لنا أن أمور المسلمين علي أيام يزيد و أبيه قد صارت الي ما لا يحبون، و أن يزيد قد أراد أن يقضي علي الامام الحسين و ذريته من الذكور، و قد كاد ابن زياد أن تقضي علي الامام علي زين العابدين بن الحسين، لو لا استمائة العقيلة الطاهرة، فحفظ الله ذرية الامام الحسين به، و هكذا أراد يزيد أن يوطد ملكه و يثبت سلطانه، و لكن حكمة المولي، جل و علا، و عدالته، اقتضت أن تعجل بملكه، و أن تهدم كل ما بناه معاوية من ملك عنيف، قام علي السياسة،


و لم يقم علي الدين، و كان يظن حين استقام له هذا الملك عشرين عاما، أنه سيمضي في طريقه و ادعا مطمئنا في بني أبي سفيان دهرا علي أقل تقدير، و لكنه لم يستقر فيهم، الا ريثما تحول عنهم، فلم يدم ملك يزيد أكثر من ثلاث سنوات و تسعة أشهر، ثم قبضه الله اليه، و هو في عنفوان قوته، و كان هلاكه بعد ضرب الكعبة بالمجانيق و حرقها بأحدي عشرة ليلة، و يذهب ابن حجر الهيثمي في صواعقه أن ذلك كان استجابة لدعوة أبيه معاوية الذي حين خوطب في أمر توليته العهد ليزيد، قال: «اللهم ان كنت انما عاهدت ليزيد لما رأيت من فعله، فبلغه ما أملته و أعنه، و ان كنت انما حملني حب الوالد لولده، و أنه لما صنعت به أهلا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك»، فكان الأمر كما قال معاوية، فهلك يزيد عام 64 ه، و هو في الثامنة و الثلاثين، بعد أن عهد لانبه معاوية بن يزيد، الذي لحق بأبيه بعد أربعين يوما من خلافته، عن احدي و عشرين سنة.

غير أن هذا التفسير لا يستقيم مع الأحداث التاريخية، فدعوة معاوية أن يقبضه قبل أن يبلغ الملك، و لكن الله تعالي لم يقبضه الا بعد أن بلغ الملك، و ارتكب من الخطايا و الآثام ما لم يرتكبه مسلم علي وجه الأرض، فقتل الامام الحسين و آل البيت الأطهار و أنصارهم، و اعتدي علي المدينة، حرم رسول الله صلي الله عليه و سلم ثم انتهك حرمة البلد الحرام و البيت الحرام، فضرب الكعبة بالمجانيق، و هكذا فعل يزيد ما يخجل الشيطان نفسه أن يرتكبه، ان كان الشيطان يخجل، ثم يموت يزيد، بعد أن يضع الاسلام و المسلمين في محنة لا ينتهي عارها الي أبد الآبدين، ثم لا يستحي بعد ذلك من يدافع عن يزيد، و من جاء بيزيد الي خلافة المسلمين، و كأنه هو لم يكتف باغتضاب الخلافة، بل يمعن في تحويل الاسلام الي مزرعة أموية، هذا حصادها، قتل ذرية النبي صلي الله عليه و سلم و سبي سيدات بيت النبوة، و استباحة المدينة و حرق الكعبة، فماذا بقي للمسلمين من مقدسات لم ينتهك يزيد حرماتها، و أما الملك العضوض فقد أراد الله تعالي أن يقتضي عليه، فبتر عمر يزيد، ثم اقتضت عدالته سبحانه و تعالي أن تنقرض ذريته كذلك، و قد كان له من البنين خمسة عشر، و من البنات خمس، انقرضوا


جميعا، فلم يبق ليزيد عقب، و قد أدرك ذلك ولده الصالح معاوية بن يزيد بن معاوية، و كان شابا صالحا، تقيا و رعا عابدا، و رغم أنه تسلم الملك شابا، لم يتجاوز العشرين من عمره الا بقليل، فان تقوي روحه كانت أقوي من اغراء شبابه، فلم يلبث في منصبه الا فترة قليلة، تراوحت آراء المؤرخين بشأنها فيما بين عشرين يوما و أربعة أشهر، حتي ضاق بالأمر، و دعا المسلمين الي مؤتمر مشهود، و نهض يخطب الجمع الحاشد فقال، فيما يروي الكندي في الولاة و القضاة، و الدميري في حياة الحيوان، و غيرهما من المؤرخين القدامي و المعاصرين:

«أيها الناس، ان جدي معاوية، نازع الأمر أهله، و من هو أحق منه لقرابته من رسول الله صلي الله عليه و سلم و عظم فضله و سابقته، أعظم المهاجرين قدرا، و أشجعهم قلبا، و أكثرهم علما، و أولهم ايمانا، و أشرفهم منزلة، و أقدمهم صحبة، ابن عم الرسول و أخوه، و صهره و زوج ابنته و أبو سبطيه الحسن و الحسين، سيدي شباب أهل الجنة، و أفضل الأمة من الشجرة الزكية، علي بن أبي طالب، فركب جدي معاوية معه ما تعلمون، و ركبتم معه ما لا تجهلون، حتي أتته منيته، فصار في قبره، رهينا بذنوبه، و أسيرا بخطاه، ثم تقلد أبي يزيد الأمر من بعده، و كان غير خليق بالخلافة علي أمة محمد صلي الله عليه و سلم فركب هواه و تجرأ علي الله بما استحل من حرمة أولاد رسول الله صلي الله عليه و سلم فأخلفه الأمل، و قصر به الأجل، ثم صار في قبره رهين ذنبه و أسير جرمه، ان من أعظم الأمور علينا، علمنا بسوء منقلبه، و قد قتل عترة رسول الله، و أباح الحرم و خرب الكعبة، و ما أنا بالمتقلد أمركم و لا بالمحتمل تبعاتكم، فاختاروا لأنفسكم، و الله لئن كانت الدنيا خيرا، فلقد نلنا منها حظا، و لئن كانت شرا، فكفي ذرية أبي سفيان ما أصابوا، ألا فليصل بالناس حسان بن مالك، و شاوروا في خلافتكم يرحمكم الله».

و غادر الشاب الصالح منبره الي داره، و لبث بها عاكفا علي عباده الله حتي لقيه راضيا مرضيا، و قيل أن أهله و أقاربه الأمويين، و بخوه علي ما قال، و قالت له أمه: ليتك كنت حيضة و لم أسمع بخبرك، فقال: «و ددت الله ذلك»، و يروي


أن الأمويين قالوا لمعلمه و مؤدبه عمر المقصوص: أنت علمته حب علي و أولاده، و أخذوه و دفنوه حيا، ثم دسوا السم لمعاوية فمات.

و ليس هناك من ريب في أن هذه الكلمات التي قالها معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية، و حفيد معاوية بن أبي سفيان لتشكل برهانا باهرا علي عدالة القضية التي هي في غني عن كل برهان، تلك القضية التي ذهب الامام الحسين و شباب آل بيت النبوة الطاهرين، شهداء لها، كما ذهب الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، من قبل شهيدا لها، و كما ذهبت معهم ثلة مباركة طاهرة من صفوة المؤمنين و الأصحاب، فلتكن كلمات معاوية بن يزيد، شهادة شاهد من أهلها، ذلك الرجل الصالح، الذي أثقلت ضميره الحر أوزار آبائه و آثامهم، فقد بموقفه هذا، أو بالأحري قدم القدر بمعاوية بن يزيد و بموقفه، وثيقة الادانة كاملة و صادقة لأولئك الذين وقفوا من سيدنا الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و من أبنائه الكرام البررة، سلالة بيت النبوة، و من القضية التي حملوا مشعلها، مواقف الكيد و العداء، و اننا اليوم، و بعد مضي ما يقرب من أبعة عشر قرنا علي ذلك الصراع، لنجد حرارة الصدق، و وضوح الحق في موقف الامام علي من معاوية، ثم في موقف الامام الحسين من يزيد.