بازگشت

ثورة المدينة المنورة


كانت ثورة الغضب التي اجتاحت العالم الاسلامي علي مذحبة كربلاء،


و استشهاد الامام الحسين و أهل بيته و أنصارهم علي أشدها في المدينة، خاصة و قد كان الحسين يعيش طوال حيانه بين أهل المدينة، و يحتل من قلوبهم أسمي مكان، يرون في صورته و مكارم أخلاقه ما يذكرهم بالحبيب الأعظم سيدنا و مولانا رسول الله صلي الله عليه و سلم، الذي من الله عليهم به، فكانوا ببركته أسعد الناس، و غدوا بهدايته و نوره خير أمة أخرجت للناس، و هكذا ما أن انتهت محنة الامام الحسين الي الحجاز، الا و كانت صدمة لأهله، و للصالحين منهم خاصة، و جعل الناس يتحدثون بها فيكثرون الحديث، و جعلوا يعظمون أمرها، و ما أكثر ما تحدثت قلوبهم اليهم، و ما أكثر ما تحدث بعضهم الي بعض حين كانوا يخلون، بأن سلطان يزيد بن معاوية أمعن في الخلاف عن أمر الله، فلم تصبح طاعته لازمة، بل أصبح الخروج عليه واجبا حين يمكن الخروج عليه، و قد عظم في الحجاز أمر عبدالله بن الزبير، و كثر أصحابه و أشياعه، و جعل يزيد يجد في أن يفرغ منه، كما فرغ من أمر الامام الحسين، و انتهي الخبر الي يزيد بأن أمر المدينة قد اضطرب، و بأن أهلها يظهرون النكر عليه و لا يستخفون به، فطلب الي عماله أن يرسل اليه وفدا منهم ففعل، أو كما يقول الأستاذ العقاد، لجت بالولاة الأمويين رغبتهم في تلفيق المظاهرات الحجازية، فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن اللاعج و الأسي الدفين، و جعلوا همهم كله أن يكرهوا القوم علي نسيان خطب الامام الحسين، و اصطناع الولاء المغتصب ليزيد، فحملوا الي دمشق وفدا من أشراف المدينة.

و أقبل الوفد الي دمشق فلقيه يزيد أحسن لقاء، و وصل أعضاءه، فأعطي كل واحد منهم خمسين ألفا، و ظن أنه قد آسي باحدي يديه، ما أفسد بالأخري، و أنه اشتري ولاءهم بالمال، كما كان يفعل أبوه، و لكن الوفد يعودون الي المدينة فيقولون لأهلها جهرة: «جئناكم من عند فاسق يشرب الخمر، و يضيع الصلاة و يتبع شهواته و يضرب بالطنابير و تغني عنده القيان، و يلعب بالكلاب و يسمر عنده الخراب»، و قال رئيسهم عبدالله بن حنظلة الأنصاري، و هو ثقة عند القوم لصلاحه و زهده «لو لم أجد الا بني هؤلاء، و كان له ثمانية بنين، لجاهدت بهم،


و قد أعطاني و ما قبلت عطاءه الا لأتقوي به»، و هكذا التهبت نار الثورة بالألم المكظوم و الدعوة الموصولة، فأخرج أهل المدينة و الي يزيد و جميع من بالمدينة من الأمويين و مواليهم و أعلنوا خلعهم للبيعة، و يضطر يزيد الي أن يرسل اليهم النعمان بن بشير الأنصاري ليستصلح قومه، فلا يبلغ النعمان منهم شيئا، فيرسل اليهم يزيد جيشا قوامه اثنا عشر ألفا من أهل الشام.

و يبدو أن بني أمية لم يكفهم عار مذبحة كربلاء و خزيها، فأرادوا أن يضيفوا اليها خزيا آخر، و أن يزيد لم يستفد كثيرا أو قليلا من عبرة كربلاء، فسلط علي أهل المدينة رجلا لا يقل في لؤمه و غله و سوء دخيلته، و ولعه بالشر و التعذيب، و عبثه بالتقتيل و التمثيل، عن عبيدالله بن زياد، و هو مسلم بن عقبة المري، أو أن يزيد، طبقا لبعض الروايات انما فعل ذلك بنصيحة أبيه معاوية، حين قال له: «ان لك من أهل المدينة يوما، فان فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فاني عرفت نصيحة»، و أيا ما كان الأمر، فلقد وجه يزيد مسلما هذا علي رأس جيش كثيف لمحاربة أهل المدينة عدته اثنا عشر ألفا، قال ابن كثير، أرسل معه عشرة الآف فارس، و قيل اثنا عشر ألفا، و خمسة عشر ألف راجل، و أمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، و ان يستبيح مدينتهم ثلاثة أيام، ان لم يبادروا الي طاعته، و كان شرطه الذي سامهم اياه بعد اقتحام المدينة المنورة و انقاضاء الأيام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم «أنهم يبايعون أميرالمؤمنين علي أنهم خول له يحكم في دمائهم و أموالهم ما شاء»، و كذلك عصي الله و خولف عن الدين جهرة في مدينة النبي صلي الله عليه و سلم و هكذا كانت وقعة الحرة في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث و ستين، و قيل لثلاث ليال (28 سبتمبر 682 م) فقتل فيها خلق كثير، و استبيحت المدينة ثلاثة أيام، و أوقع مسلم، كما يقول ابن كثير، كثيرا من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد و لا يوصف»، حتي ذهبت بعض المصادر الي أن عدد القتلي بلغ ألف و سبعمائة من بقايا المهاجرين و الأنصار و خيار التابعين، و قتل من أخلاط الناس عشرة الآف، سوي النساء و الصبيان و قتل بها من حملة القرآن سبعمائة، و من قريش 97 قتلوا


ظلما في الحرب صبرا، و افتضت ألف عذراء، روي ابن الجوزي بسنده الي المدائني عن أبي قرة قال هشام بن حسان» ولدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج، و روي المدائني بسنده عن أم الهيثم ابنة يزيد قالت: «رأيت امرأة من قريش تطوف فعرض لها أسود فعانقته فقبلته فقلت: يا أمة الله أتفعلين هذا بهذا الأسود، فقالت هو ابني، وقع علي أبوه يوم الحرة».

يقول ابن حزم: و جالت الخيل في مسجد رسول الله صلي الله عليه و سلم و بالت، وراثت بين القبر و المنبر «الروضضة الشريفة» أدام الله تشريفها، و أكره الناس علي البيعة علي أنهم عبيد ليزيد، ان شاء أعتق، و لما طلب يزيد بن زمعة أن يبايع علي حكم القرآن و السنة، أمر به فقتل، و هكذا بايع أهل المدينة علي أنهم عبيد ليزيد، ما عدا الامام علي زين العابدين بن الامام الحسين و علي بن عبدالله بن العباس، يروي المسعودي أن الناس نظروا الي علي بن الحسين السجاد، و قد لاذ بالقبر الشريف و هو يدعو، فأتي به الي مسرف و هو مغتاظ عليه، فتبرأ منه و من آبائه، فلما رآه و قد اشرف عليه ارتعد، و قام له و أقعدة الي جانبه و قال له سلني حوائجك، فلم يسأله عن أحد ممن قدم الي السيف الا شفعة فيه ثم انصرف، فقيل لعلي: رأيناك تحرك شفتيك، فما الذي قلت قال قلت «اللهم رب السموات السبع و ما أظللن، و الأرضين السبع و ما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد و آله الطاهرين، أعوذ بك من شره، و أدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، و تكفيني شره»، و قيل لمسلم بن عقية: رأيناك تسب هذا الغلام و سلفه، فلما أتي به اليك رفعت منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد ملي ء قلبي منه رعبا»، و أما علي بن عبدالله بن العباس، فان أخواله من كندة منعوه منه، و أناس من ربيعة كانوا في جيشه و خلت المدينة من أهلها، و عندئذ عدت الكلاب علي سواري المسجد، و روي أنه ما كان هناك أحد، غير سعيد بن المسيب، يصلي في المسجد، و أنه كان يسمع في كل صلاة أذانا من لقبر، ثم تقام الصلاة، فيتقدم ابن المسيب فيصلي.

و كان الأمويون في المدينة يحرضون غزاة الشام علي الفتك بأهل


المدينة، و علي رأسهم مروان بن الحكم، و روي اليعقوبي أن أهل المدينة قاتلوا المعتدين من جيش الشام قتالا شديدا، و خندقوا علي المدينة، فرام «أي مسلم بن عقبة» ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم، فدخل و معه مائة فارس، فأتبعته الخيل حتي دخلت المدينة، فلم يبق بها كثير أحد، الا قتل، علي أن رواية أخري تقول: دخل ولده عبدالملك علي مسلم فدله علي عورة أهل المدينة و علي الخطة الحربية التي يسلكها معهم، ثم دخل عليه مروان فقال ايه، فقال مروان: أليس قد دخل عليك عبدالملك، قال بلي، و أي رجل عبدالملك، قلما كلمت من رجال قريش رجلا شبيها به، فقال مروان: اذا لقيت عبدالملك فقد لقيتني، و أن مسلما سار الي المدينة علي ارشاد عبدالملك، و لما قدم مروان علي يزيد بن معاوية شكر له ذلك و أدناه، و يروي عن سعيد بن المسيب قوله: «ما أصلي الله تعالي صلاة، الا دعوت علي بني مروان».

و هكذا أراد بنوأمية اذلال أهل المدينة بكل وحشية و قسوة، لم يعهدها العرب في الجاهلية، فضلا عن أن يعرفوها في الاسلام، و لعل حادثا واحدا من حوادث التمثيل و الاستباحة يدل علي سائر الحوادث من أمثاله، دخل رجل من جند مسلم بن عقبة علي امرأة من نساء الأنصار، و معها صبي لها، فقال: هل من مال، قالت لا، و الله ما تركوا لنا شيئا، قال و الله لتخرجن لي شيئا أو لأقتلنك و صبيك هذا، فقالت له: ويحك انه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله صلي الله عليه و سلم، فأخذ برجل الصبي و الثدي في فمه فجذبه من حجرها، فضرب به الحائط فانتثر دماغه علي الأرض، و هو مثل من أمثال تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها أولئك الألوف من النسوة و الأطفال و الآباء و الأمهات، و روي الطبراني عن أبي هارون العبدي قال رأيت أبا سعيد الخدري ممط اللحية فقلت تعبث بلحيتك، قال لا، هذا ما لقيت من ظلمة أهل الشام، دخلوا زمن الحرة فأخذوا ما كان في البيت من متاع أو غيره، ثم دخلت طائفة أخري فلم يجدوا في البيت شيئا فأسفوا أن يخرجوا بغير شي ء فقالوا أضجعوا الشيخ، فجعل كل يأخذ من لحيتي خصلة.


هذا و قد روي الوافد في كتاب الحرة، و البيهقي في دلائل النبوة عن أيوب بن بشير المعادي مرسلا، أن النبي صلي الله عليه و سلم خرج في سفر من أسفاره، فلما مر بحرة زهرة وقف و استرجع فسي ء بذلك من معه، فظنوا أن ذلك من أمر بسفرهم، فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله ما الذي رأيت، فقال النبي صلي الله عليه و سلم: أما ان ذلك ليس من سفركم هذا، قالوا فما هو يا رسول الله، قال يقتل في هذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي، و روي الواقدي أيضا عن سفيان بن أبي أحمد قال، كان رسول الله صلي الله عليه و سلم اذا أشرف علي بني عبدالأشهل أشار بيده فقال: «يقتل بهذه الحرة خيار أمتي».

و لعل السيفه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ظن أنه بذلك العنف الجبان انما يوطد سلطانه و يقضي علي الفتنة، التي أشعلها بموقفه من سيد شباب أهل الجنة، سيدنا الامام الحسين، و آل البيت الطاهرين، و لكنه بدلا من ذلك زاد سلطانه ضعفا، و الفتنة اشتعالا، و قد غاب عنه ما لأهل المدينة عندالله و رسوله من مقام كريم، فهم الذين آووا و نصروا، و هم الذين آثروا علي أنفسهم، و لو كان بهم خصاصة،: و هم الذين حذر النبي صلي الله عليه و سلم من اذائهم أو الاعتداء عليهم، روي البخاري و مسلم عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال «لا يكيد أهل المدينة أحد الا انماع كما ينماع الملح في الماء»، و جاء في الصحيح عن علي بن أبي طالب عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال «المدينة حرم ما بين عاثر الي كذا، من أحدث فيها حدثا أو آوي محدثا، فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا»، و روي الامام أحمد بسنده عن جابر عن النبي صلي الله عليه و سلم «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي»، هذا هو جزاء من أخاف أهل المدينة، فكيف بمن قتل ألف و سبعمائة من نجوم الهدي من المهاجرين و الأنصار و التابعين، و عشرة الآف من غيرهم، بل كيف بمن استباح أعراض نسائها، و هدم دورها، و نهب أموالها، و لهذا كان سعيد بن المسيب، رضي الله عنه، يسمي سني يزيد بن معاوية بالشؤم، في السنة الأولي قتل الحسين بن علي، و أهل بيت رسول الله صلي الله عليه و سلم، و الثانية استبيح حرم رسول الله صلي الله عليه و سلم


و انتهكت حرمة المدينة، و الثالثة سفكت الدماء في حرم الله حرقت الكعبة، و يقول ابن تيمية، قيل للامام أحمد: أتكتب الحديث عن يزيد، فقال لا، و لا كرامة، أو ليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل، و قيل له (أي للامام أحمد) ان قوما يقولون: انا نحب يزيد، فقال: و هل يحب يزيد أحد يؤمن بالله و اليوم الآخر، فقيل فلماذا لا تلعنه، فقال «أي الامام أحمد لولده عبدالله»: «و متي رأيت أباك يلعن أحدا».

و من عجب أن يري مسلم بن عقبة، قائد جيش يزيد، في قلت أهل المدينة، و العياذ بالله، عملا صالحا، و ها هي آخر كلماته قبل أن يهلك مشيعا بلعنات المسلمين في كل الأرض، ما عدا بني أمية و أهل الشام، كما رواها ابن كثير «اللهم اني لم أعمل عملا قط، بعد شهادة أن لا اله الا الله، و أن محمدا رسول الله، أحب الي من قتل أهل المدينة، و لا أرجي عندي في الآخرة، و ان دخلت النار بعد ذلك، اني لشقي»، ثم مات قبحه الله، و في رواية أخري قال «أللهم ان عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية، و قتل أهل الحرة، فاني اذا لشقي» ثم خرجت نفسه بثنية المشلل، و جاءت أم ولد يزيد بن عبدالله بن زمعة، فنبشته و صلبته في المشلل، و جاء الناس فرجموه، و بلغ الخبر الحصين بن نمير «خليفته علي جيش أهل الشام» فرجع فدفته، و قتل جماعة من أهل ذلك الموضع، و قيل لهم يدع منهم أحدا، ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية، فمات بعده في ربيع الأول، فما متعهما الله بشي ء مما رجوه و أملوه، بل قهرهم القاهر فوق عباده، و سلبهم الملك».