بازگشت

السيدة زينب في مصر


كانت العقيلة الطاهرة موضع الاعزاز و الاجلال، و التقدير و التعظيم من أهل المدينة فقد كانت، رضي الله عنها، تتمتع بكل صفات أهل البيت، و لا عجب في ذلك، فلقد نشأت السيدة زينب في أطيب بيت و انحدرت من أطهر معدن، تحيط بها أنوار النبوة، و تغذي روحها أمثلة البطولة و الفخار، فشبت كريمة النفس حمية الأنف، لا تقيم علي مذلة، و لا تسكت علي غضاضة و لا ترضي بهوان، فمنذ أن ولدت في شعبان عام 5 ه و هي في حضانة جدها النبي الأعظم صلي الله عليه و سلم و أمها فاطمة البتول، ثم تعهدها أبوها الامام علي بكل الحب و الرعاية، فتشربت منه الكثير من ورعه و فصاحته و علمه، كما ورثت الكثير من زهده و تقواه، فكانت دائبة الصيام و القيام، دائمة التلاوة لكتاب الله، فقيهة في الدين، عارفة بالأحكام، روت أصدق الحديث عن أبويها، كما روت عن أخويها الحسن و الحسين، و عبدالله بن عباس، رضي الله عنهم أجمعين، و من ثم فقد كتب لها نجحا بعيد المدي في شرح المأساة الأليمة التي وقعت لآل البيت، بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مهبط الوحي و كيف وصل الأمر بالطغاة الظالمين و حثالة البشر الذين جمعهم ابن زياد، و أسلم قيادتهم الي ابن سعد، فقتلوا الامام الحسين و شباب آل محمد و أنصارهم، و لم ينتظروا حتي تصعد أرواح الشهداء الي بارئها حتي هرعوا الي النساء من بيت الرسول صلي الله عليه و سلم ينازعونهن الحلي و الثياب التي علي أجسادهن، لا يزعهم عن حرمات رسول الله صلي الله عليه و سلم و ازع من دين أو مروءة، و انقلبوا الي جسد الامام الحسين يخطفون ما عليها من كساء


تخللته الطعون حتي أو شكوا أن يتركوا علي الأرض عارية، ثم ندبوا عشرة من فرسانهم يوطئون جثته الخيل، كما أمرهم ابن زياد، فوطئوا مقبلين و مدبرين حتي رضوا ظهره و صدره.

و هكذا استطاعت العقيلة الطاهرة أن تهز قلوب أهل المدينة هزا، و تملاء النفوس سخطا و غضبا علي الجناة الذين ارتكبوا جريمة ليس لها مثيل في تاريخ الاسلام كله، شناعة و دناءة، مما أقض مضاجع الطغاة الأمويين و أثار الفزع في نفوسهم، خاصة بعد أن خطبت في الناس و طالبتهم بأخذ الثأر، مما جعل والي المدينة، عمرو بن سعيد يكتب الي يزيد بشأنها، فكتب اليه يزيد أن يفرق بينها و بين أهل المدينة لأن وجودها قد يثير الناس ضد سلطان بني أمية، و من ثم فقد طلب منها عمرو ترك المدينة و الاقامة حيث تشاء، فقالت له: «قد علم الله ما صرنا اليه، قتل خيارنا، و سقنا كما تساق الأنعام، و حملنا علي الأقتاب، فو الله لا خرجنا وان أهرقت دماؤنا» فتدخلت سيدات بني هاشم في اقناع العقيلة الطاهرة بالرحيل الي بلد آمن، لا تتكرر فيه مجزرة كربلاء، و اختارت السيدة زينب مصر علي غيرها، ففي مصر أحباب لرسول الله صلي الله عليه و سلم و آل بيته الطاهرين.

و هكذا هاجرت العقيلة الطاهرة من المدينة الي مصر، و تعلقت بها ابنتا أخيها الامام الحسين، فاطمة النبوية و سكينة و بعض نسائها و امائها، فهاجرت معها الي أرض الكنانة، و ما أن وصل الركب الميمون الي العباسية، و هي قرية في مجاورات بلبيس في محافظة الشرقية، حتي علم المصريون بقدومها فهبوا جميعا لاستقبالها بما يليق بحفيدة النبي صلي الله عليه و سلم من الحفاوة و التكريم، يتقدمهم والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري و العلماء و القضاة و الأعيان و التجار و الصناع و الفلاحون، و استقبلوها حفاة الأقدام، اجلالا لمنزلتها و تعظيما لشخصها، و تقدم اليها مسلمة بن مخلد و عبدالله بن الحارث و أبو عميرة المزني، مقدمين أصدق العزاء في استشهاد مولانا الامام الحسين و شباب أهل البيت الأطهار، فبكت و بكي الحاضرون جميعا، ثم قالت لهم «هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون».


و يذهب الأستاذ أحمد فهم الي أن وصول السيدة زينب الي مصر انما كان في أول هلال شعبان عام 61 ه (26 ابريل 681 ه) و قد تنازل لها الوالي عن الدار التي أقامت بها، و كان المصريون يتوافدون علي مجلسها المبارك، يتقدمهم أهل الفضل و العلم، يستمعون منها الي تفسيرها لآيات القرآن الكريم و أحاديث جدها سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم و سيرة أهل البيت الأطهار، و ينتفعون بما تفيضه عليهم من فقه و علم، و بما ورثته من جدها النبي صلي الله عليه و سلم و ما تعلمته من أمها فاطمة الزهراء و أبيها الامام علي. كرم الله وجهه في الجنة. و ما أخذته عنه شقيقها سبطي النبي و سيدي شباب أهل الجنة، الامامين الحسن و الحسين، و كان مجلس عقيلة بني هاشم عامرا بأنوار النبوة، محفوظا بأجنحة الملائكة موصولا بنور السماء و ما عسي أن يكون مجلس بضعة النبي صلي الله عليه و سلم و فلذة كبد الزهراء، و ابنة علم الهدي و امام المتقين مولانا الامام علي، و هكذا أخذت السيدة زينب تشع نور النبوة، و هداية جدها سيد المرسلين، في أرض الكنانة، قرابة عام أو يزيد قليلا، حتي صعدت روحها الطاهرة الي عليين، عشية يوم الأحد، الرابع عشر أو الخامس عشر من شهر رجب الفرد من عام 62 ه «مارس 682 م»، و بعد عام و نصف العام من استشهاد الامام الحسين و آل البيت الطاهرين.

هذا و قد دفنت العقيلة الطاهرة، سلام الله عليها و علي آل بيتها أجمعين، في مكان سكناها، حيث أقيم عليه مسجدها المعروف الآن بالقاهرة، في أكبر أجياء أكبر مدينة اسلامية في العالم، في الحي الي يشرف باسمها الكريم، حي السيدة زينب، و يقول العارف بالله الشيخ عبدالوهاب الشعراني في المنن الكبري: أخبرني سيدي علي الخواص أن السيدة زينب المدفونة بقناطر السباع «كما كانت تسمي وقت ذاك) ابنة الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، في هذا المكان بلا شك، و كان الشيخ الخواص يخلع نعليه من عتبة الدرب و يمشي حافيا حتي يجاوز مسجدها و يقف تجاه وجهها الشريف، و يتوسل الي الله تعالي أن يغفر له، و لعل مما تجدر ملاحظته أن كثير من أهل البيت الطاهرين و السادة الأولياء، انما تكون بيوتهم في حياتهم هي نفسها مدافنهم بعد مماتهم، و لله في


ذلك حكمة، هذا و قد تم توسيع ميدان السيدة زينب «قنطرة السباع سابقا» و قام الأمير عبدالرحمن كتخدا بتوسيع جامع السيدة زينب عام 951 ه، و أما المسجد الحالي فقد بنته وزارة الأوقاف عام 1940 م، ثم تم توسيعه عم 1969 م، و أضيفت اليه مساحة تعادل مساحة المسجد الأصلي، و أمام ضريح السيدة مشهدان، الواحد للامام العتريس و هو محمد بن أبي المجد من الدوحة الحسينية، و هو شقيق العارف بالله ابراهيم الدسوقي، ولي الله و قطب زمانه، و الآخر للعيدروس، و هو وجيه الدين أبو المراحم عبدالرحمن الحسيني من سلالة الامام الحسين.

و أما من ينكرون وجود قبرها بمصر، فهم خصوم أهل البيت الطاهرين المطهرين، الذين يكرهون أن يحيا لهم ذكرا، أو يعرف لهم قبر، و لا اعتبار لأقوالهم علي الاطلاق، هذا و قد قدمم العارف بالله الشيخ محمد زكي عدة أدلة في رسالته «ملحق التبصير بمشاهد شهيرات آل البيت بالقاهرة» «اعتماد علي بحث للأستاذ حسن قاسم بمجلة الاسلام» - علي أن ضريح السيدة زينب الحالي انما ضريحها، و منها: ما ذكره الفاسي (و قد زار مصر عام 356 ه) من أنه قد زار مشهد السيدة زينب بنت الامام علي، و كان داخل دار كبيرة تشرف علي الخليج، مما يدل علي أن الضريح موجود قبل القرن الرابع الهجري، و منها: ما ذكره السخاوي في كتابه «أوقاف مصر» من أن الحاكم بأمر الله قد أوقف علي هذا المشهد و مشاهد أخري عدة قري و ضياع كصول و أطفيح و غيرهما، و منها: ما ذكره المؤرخان ابن عساكر و ابن طولون الدمشقيان من العقيلة الطاهرة قد دخلت مصر بعد مصرع أخيها بيسير من الزمن، و أقامت بها أشهرا و دفنت بها، و منها أن المشهد الذي زاره ابن جبير انما هو للسيدة زينب بنت يحيي المتوج من سلالة الحسن بن علي، و قد دخلت مصر في عام 193 ه، و أنه في القرافة شرقي الشافعي، ليس في منطقة المشهد الزينبي، و منها: ما جاء في رسالة العبدلي النسابة من القرن الثالث الهجري، و التي دعاها «أخبار الزينبات» من أن السيدة زينب بنت الامام علي، بعد أن سيرت للشام ثم


للمدينة، ثارت فتنة بينها و بين عمرو بن سعيد والي المدينة من قبل يزيد بن معاوية، و الذي أمر بنقلها الي المدينة فانتقلت منها الي مصر في أول شعبان عام 61 ه، فأقامت بها 11 شهرا، و نحو عشرة أيام، حيث توفيت يوم الأحد مساء لأربعة عشر يوما مضت من رجب عام 62 ه في الحمراء القصوي، و اذن فهذا المشهد معروف من قبل القرن الثاني الهجري، و قد حدد المقريزي الحمراء القصوي بمنطقة الضريح الزينبي الحالي.

هذا و في 15 رجب عام 63 ه، و في يوم الذكري السنوية الأولي لانتقالها الي الرفيق الأعلي، اجتمع أهل مصر، و في مقدمتهم الشيوخ و الفقهاء و القراء، و أقاموا لها المولد الزينبي الذي يتم في شهر رجب من كل عام، هذا و قد عرفت السيدة زينب بعقيلة بني هاشم، و هي عند أهل العزائم أم العزائم، و عند أهل الجود و الكرم أم هاشم، و كثيرا ما كان أبوها و أخواها الحسن و الحسين يرجعون اليها للمشورة فسميت صاحبة الشوري، كما كانت دارها مأوي للضعفاء فسميت أم العواجز، و لما جاءت الي مصر كان الوالي و رجاله يعقدون جلساتهم بدارها و تحت رياستها فعرفت باسم رئيسة الديوان، و بدهي أنه كان للسيدة زينب كرامات لا تكاد تحصي، تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل من المصريين و غير المصريين، فقل من قصدها باخلاص، متوسلا بها الي الله تعالي في أمر من الأمور، الا و أصابه من نفحاتها ما قدر الله له، و من عونها ما يتفق و صدق ايمانه بالله و رسوله، و محبته لأهل البيت الطاهرين، رضي الله عنهم أجمعين، و نحن نقول، مع الأستاذ حسين يوسف، أن تلك حقيقة قد لا يدركها أولئك الذين لم يحظوا بصحبة أهل الحق و الشهود، و لم يسلكوا طريقهم الي الله تعالي، فظلوا في حجاب عن الله و رسوله، فتطاولوا علي مقام أهل البيت، و سخروا من اللائذين بحماهم، و كفروا المتوسلين بهم الي الله و رسوله، وفاتهم أن الله تعالي هو الفعال لما يريد، و أنه يصطفي من يشاء لما يشاء، و أن أرواح المؤمنين هي أقطع سلاح في نصرة المؤمنين، و أن حياة الصالحين و فاعليتها لا تنقطع بالموت، و أن أهل البيت هم أئمة الصالحين المتقين، و أنهم، في روضاتهم،


هم الأحياء حقا، و هم الأمراء حقا، لا يذل أبدا من والاهم، لأنه انما يوالي الله تعالي، و لا يعز أبدا من عاداهم، لانه انما يعادي الله تعالي، من اقترب من هداهم عاش في أمن و سلام، و من لاذ بحماهم حاشا أن يضام، فهم أهل التقوي و أهل المغفرة، و هم أهل البطش و أهل المقدرة.