بازگشت

المعركة الخالدة في كربلاء


كان نزول الامام الحسين و صحبه في كربلاء، و تقع علي مبعدة 40 كيلا الي الشام الغربي من الكوفة، في الثاني من المحرم عام 61 ه (2 أكتوبر 680 م)، و لا ريب، كما أشرنا آنفا، أن الامام الحسين كان علي علم سابق بما يحيط بهذا المكان من أحداث تتصل بشخصه، فالي جانب أنه كان مع أبيه الامام علي، يوم مر في طريقه الي صفين، و قد سمع منه ما سمع، فقد ثبت أن سيد ما و مولانا رسول الله صلي الله عليه و سلم قد أخبر بأن الحسين، عليه السلام، سوف يقتل، و أن الذي أبلغه ذلك انما هو جبريل، عليه السلام،: فلقد أخرج السيوطي في الجامع الكبير عن ابن سعدو الطبراني عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلي الله عليه و سلم قال: «أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأض الطف، و جاء بهذه التربة، و أخبرني بأن فيها مضجعه»، و روي ابن سعد عن أم سلمه زوج النبي صلي الله عليه و سلم أنه صلي الله عليه و سلم قال: «أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بأرض العراق، فقلت لجبريل: «أرني تربة الأرض التي يقتل فيها، فجاء بها، فهذه تربتها».

و ليس هناك من ريب في أن الامام الحسين كان علي علم بهذا الحديث


و غيره، مما سنذكره في مناقب الامام الحسين، أو علي الأقل ببعضها، الأمر الذي يجعلنا علي يقين بأن مولانا الامام الحسين انما كان يسير الي العراق سير الواثق من طريقه، العارف بنهايته، علي بينة من أمره، و علي نور من الله و رسوله، هذا و قد روي أبو عبدالله الصادق أن الحسين دخل علي أخيه الحسن في مرضه الذي استشهد فيه، فلما رأي ما به بكي، فقال له الحسن: ما يبكيك يا أبا عبدالله قال أبكي لما صنع بك، فقال الحسن عليه السلام: «ان الذي أوتي الي سم أقتل به، و لكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله، و قد ازدلف ثلاثون ألفا يدعون أنهم من أمة جدنا محمد صلي الله عليه و سلم و ينتحلون دين الاسلام، فيجتمعون علي قتلك و سفك دمك و انتهاك حرمتك و سبي ذراريك و نسائك، و انتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة، و تمطر السماء رمادا و دما، و يبكي عليك كل شي ء حتي الوحوش في الفلوات، و الحيتان في البحار».

و تروي المصادر ان الحر بن يزيد كتب الي ابن زياد بنزول الامام الحسين بكربلاء، و سرعان ما أرسل ابن زياد جيشا قوامه أربعة الآف، علي رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، و عمر هذا مثال واضح لأسوأ خلف لخير سلف، و لمن يشتري الدنيا بأي ثمن، حتي اذا كان هذا الثمن قتل ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم و سيد شباب أهل الجنة، و آل بيت النبي الطاهرين المطهرين، لم يتق الله فيهم، و لم يتق الله في اسم أبيه سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلي الله عليه و سلم و أحد العشرة المبشرين بالجنة، و أحد الستة أصحاب الشوري، بل و أحد من اتهم الأمويين - الذين يعمل عمر من أجلهم كل هذه الخطايا - بسمه، حتي يخلوا الجو لمعاوية لبيعة ولده الفاجر يزيد، الذي يسعي الآن عمر لاقامة ملكة علي أشلاء أطهر جثث علي وجه الأرض وقت ذاك، و قصة عمر بن سعد بن أبي وقاص بدأت مع الامام الحسين، عندما اختاره ابن زياد للقضاء علي ثورة الديلم ضد يزيد بن معاوية، و وعده بولاية الري بعد قمع الثورة الديلمية، فلما قدم الامام الحسين الي العراق، وجه ابن زياد عمر و جيشه المكون من أربعة آلاف فارس لقتال الامام الحسين، فتردد عمر بعض الوقت حتي يراجع نصحاءه،


فنصح له ابن أخته، حمزة بن المغيرة بن شعبة، و هو من أكبر أعوان معاوية، أن لا يقبل مقاتلة الامام الحسين، و قال له: «أنشدك الله يا خال أن تسير الي الحسين فتأثم وتقطع رحمك، و الله لأن تخرج من دنياك و مالك و سلطان الأرض لو كان لك، خير من أن تلقي الله بدم الحسين» و في الواقع، فلقد حذر عمر بن سعد من قبل الامامان علي و الحسين، روي المتقي الهندي في كنز العمال بسنده عن ابن سيرين عن بعض أصحابه قال، قال علي عليه السلام لعمر بن سعد: «كيف أنت اذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة و النار، فتختار النار، قال أخرجه ابن عساكر.

و روي ابن حجر العسقلاني في «تهذيب التهذيب» في ترجمة عمر بن سعد بن أبي وقاص قال، قال الحميدي: حدثنا سفيان عن سالم قال، قال عمر بن سعد للحسين، رضي الله عنه، ان قوما من السفهاء يزعمون أني أقتلك، فقال الحسين: ليسوا سفهاء، ثم قال: و الله انك لا تأكل بر العراق بعدي الا قليلا، و تردد عمر في قبول مهمته الدنيئة، غير ان ابن زياد خيره بأن يسير لقتال الحسين أو ينزل عن ولاية الري، فقبل عمر مقاتلة الامام الحسين، و سار بجيشه المتثاقل، الا زعانف المرتزقة الذين لا خلاق لهم و لا دين.

و وصل عمر هذا بجيشه الي كربلاء، حيث انضمت اليه قوات الحر بن يزيد، و سرعان ما أحاطت تلك القوات الآثمة جميعها بمولانا الامام الحسين، و من معه من آل البيت و أنصارهم، و كان أول ما فعلته تلك القوات التي كانت تتكون في معظمها من الرعاع الأجلاف، و السفلة الجهلاء، ليس فيهم عابد أو فقيه أو من له نصيب في حب رسول الله صلي الله عليه و سلم و آل بيته الطاهرين، أن حالت بين الامام الحسين و بين ماء الفرات، بناء علي أوامر ابن زياد، و من ثم فقد أرسل عمر بن سعد رجلا يدعي عمرو بن الحجاج علي خمسمائة فارس «مع أن جيش الحسين كله 72 رجلا» فنزلوا علي الشريعة، و حالوا بين الامام الحسين و بين الماء، و ذلك في اليوم السابع من ذي الحجة و قبل استشهاد الامام بثلاثة أيام، و نادي عبدالله بن أبي الحصين الأزدي: «يا حسين، ألا تنظر الي الماء كأنه كبد


السماء، و الله لا تذوقن منه قطرة حتي تموت عطشا، فقال الامام الحسين: اللهم اقتله عطشا، و لا تغفر له ابدا، فكان ذلك الخبيث يشرب الماء حتي يبعز ثم يقي ء، ثم يعود فيشربه حتي يبغر، فما يروي، و ما زال هذا دأبه حتي هلك.

و لما اشتد علي سيدنا الامام الحسين و أصحابه العطش، دعا العباس فبعثه في ثلاثين فارسا و عشرين راجلا، و بعث معهم بعشرين قربة، و لكن قوات عمر بن سعد منعتهم من الماء، و ضاق الامام بالأمر، و اشتد العطش بالأطفال و النساء، و انفض أكثر الناس من حوله، و من ثم فقد عرض علي قائد جيش ابن زياد أمرين، الواحد، أن يعود من حيث جاء طلبا للسلام و حقنا للدماء، و الآخر: أن يدعوه يضرب في الأرض حتي ينظر ما ينتهي اليه أمر الناس، و من عجب أن بعض الروايات الدخيلة تتزود علي الامام الحسين فتزعم أنه عرض أمرا ثالثا هو: أن يأتي يزيد فيضع يده في يده، و نحن علي يقين من أن الامام الحسين لم و لن يطلب مقابلة يزيد بن معاوية و بيعته، و ذلك لأسباب منها:أن هذا العرض الأخير عرض غريب لا يتفق مع طبيعة الامام الحسين، و هي طبيعة تتفجر بالاباء و العزة، و هيهات أن ترضي بأقل مهانة أو ارغام، و منها

أن الامام الحسين، عليه السلام، لو عرض هذا العرض الغريب لأجيب اليه فورا، و لبايع ليزيد في مكانه، و لاستطاع عمر بن سعد أن يذهب بهذه البيعة الي دمشق فورا، لأن ذلك فيه غاية ما يطمع القوم من نصر، و أي نصر أعظم لهم من عدول ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و السلام عن موقفه من يزيد و قبوله بيعته، و منها أن أصحاب الامام الحسين في خروجه الي العراق قد نفوا ذلك، و طبقا لراوية ابن الأثير و ابن كثير، فان أحدهم و هو عقبة بن سمعان كان يقول «صحبت الحسين من المدينة الي مكة، و من مكة الي العراق، و لم أفارقه حتي يقتل و سمعت جميع مخاطباته الناس الي يوم مقتله، فو الله ما أعطاهم ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد، و لا أن يسيروه الي ثغر من الثغور، و لكنه قال «دعوني أرجع الي المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتي ننظر الي ما يصير اليه أمر الناس»، فلم يقبلوا.


و لعل عمر بن سعد، فيما يري الأستاذ العقاد، قد تجوز في نقل كلام الامام الحسين عمدا ليأذنوا له في حمله الي يزيد فيلقي عن كاهله مقاتلته و ما تجر اليه من سوء القالة و وخز الضمير، أو لعل الأعوان الأمويين قد أشاعوا عن الامام الحسين اعتزامه للمبايعة ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده، و يسقطوا حجتهم في مناهضة الدولة الأموية، و هذا ما نميل اليه و نرجحه، علي أن الدكتور أحمد صبحي انما يذهب الي أنه ليس هناك ما يمنع من أن يكون الامام الحسين قد عرض هذه الطلبات، لا تراجعا منه أو اعتزاما لبيعة يزيد، و لكن أغلب الظن أنه كانه يدرك ما في سريرة أعدائه من اعتزامهم قتله ليلتمسوا بذلك التزلف الي أميرهم و التقرب الي يزيد، و أنهم ما كانوا يتركونه يخرج من بين أيديهم حيا، فأراد أن يقيم الحجة عليهم، بعد أن ترك لهم كل الأعذار التي تبرر اعفاء أنفسهم من سفك دمه، و أقام الامام الحسين عليهم الحجة مرة أخري حين لم يبدأهم بالقتال، و لكنهم بدأوه، بعد أن حرموه الماء ثلاثة أيام، ثم لم يكتفوا بذلك و لكنهم أسرفوا في التنكيل بالمقتولين، لم يرحموا طفلا، و لا راعوا حرمة أهل البيت، ثم أقام عليهم الحجة مرة ثالثة حين سعوا الي القتال في الشهر الحرام فهم خالفوا الدين اذا أشد المخالفة حين انتهكوا الحرمات التي تفرض علي المسلمين أن يتحرجوا أشد الحرج و يتأثموا أعظم التأثيم، قبل أن يمسوا أحدا من أهل بيت النبي صلي الله عليه و سلم بأذي أذي.

و علي أي حال، فلقد كتب عمر بن سعد الي ابن زياد بما عرضه عليه الامام الحسين، عليه السلام، و انتظر ما يقرره ابن زياد، و هكذا شاءت الأقدار أن تضع مستقبل أهل البيت الطاهرين في كربلاء، و علي رأسهم، سبط النبي صلي الله عليه و سلم و سيد شباب أهل الجنة، الامام الحسين، عليه السلام، في يد رجلين اثنين، يسابق كلاهما صاحبه في اللؤم و سوء الطوية، و ينفردان بتصريف الأمر في قضية الامام الحسين، دون مراجعة من ذي سلطان، و هما عبيدالله بن زياد، و شمر بن ذي الجوشن، و أما أولهما: عبيدالله المغموز النسب الذي لا يشغله شي ء، كما يشغله التشفي لنسه المغموز من رجل هو بلا مراء، أعرق


العرب، بل الدنيا كلها، نسبا في الجاهلية و الاسلام، فليس أشهي اليه من فرصة ينزل فيها ذلك الرجل علي حكمه، و لعل ما يقوي هذا الاتجاه رواية جاءت في تاريخ اليعقوبي، يهدد فيها يزيد عبيدالله بخلعه من نسب أبي سفيان و عودته الي نسب عبيد الثقفي، حيث يقول له «قد بلغني أن أهل الكوفة قد كتبوا الي الحسين في القدوم عليهم، و أنه خرج من مكة متوجها نحوهم، و قد بلي به بلدك من بين البلدان، و أيامك من بين الأيام، فان قتلته، و الا رجعت الي نسبك، و الي أبيك عبيد، فاحذر أن يفوتك»، و أما ثانيهما: شمر بن ذي الجوشن الأبرص الكريه الذي يمضه من الامام الحسين ما يمض كل لئيم مشنوء من كل كريم محبوب و سيم، و كان كلاهما يفهم لؤم صاحبه و يعطيه فيه حقه و عذره، فهما في هذه الخلة متناصحان متفاهمان، و لم يكن أيسر من حل قضية الامام الحسين علي وجه يرضي يزيد و يمهد له الولاء في قلوب المسلمين، و لو الي حين، لولا ذلك الضغن الممتزج بالخليفة الذي هو كسكر المخمور، لا موضع معه لرأي مصيب، و لا لتفكير في عاقبة بعيدة أو قريبة، فالامام الحسين في أيديهم ليس أيسر عليهم من اعتقاله و ابقائه بأعينهم في مكان ينال فيه الكرامة، و لا يتحفز لثورة، لكنهما لم يفكرا في أيسر شي ء، و لا أنفع شي ء للدولة التي يخدمانها، و انما فكرا في النسب المغمور و الصورة الممسوخة، فلم يكن لهما من هم غير ارغام الامام الحسين و اشهاد الدنيا كلها علي ارغامه.

و هكذا ما أن عرض ابن زياد كتاب عمر بن سعد علي مستشاره الزنيم شمر بن ذي الجوشن، حتي أشار عليه بأن يقسو علي عمر في خطابه، و يأمره أن يجي ء بالامام الحسين و من معه الي الكوفة عنوة، فان أبوا قاتلهم حتي الموت، و يلمح شمر، الممتلي ء بقذارة النفس و خبث الطوية، في ذلك الحوار الدائر بين الامام الحسين و عمر بن سعد بادرة قد تقضي الي مهادنة أو تفاهم، الأمر اذلذي لا يشبع نهمه الخبيث الي التفويض و التخريب اللذين يعمل لهما منذ زعم الاسلام و ادعاه، كما يقول الأستاذ خالد محمد خالد، و ربما أي من ابن زياد جنوحا الي شي ء من الهوادة.


فابتدره ينهاه، و يجنح به الي الشدة و الاعتساف فقال له: «أتقبل هذا منه، و قد نزل بأرضك و الي جنبك، و الله لئن رحل من بلادك و لم يضع يده في يدك ليكونن أولي بالقوة و العزة، و لتكونن أولي بالضعف و العجز، فلا تعطه هذه المنزلة، و لكن لينزل علي حكمك هو و أصحابه، فان عاقبت كنت ولي العقوبة، و ان عفوت كان ذلك لك»، ثم أراد أن يوقع بعمر عند ابن زياد ليخلفه في القيادة ثم يخلفه في ولاية الري، فذكر لابن زياد أن الامام الحسين و عمر بن سعد يتحدثان عامة الليل بين المعسكرين، ثم هداه تفكيره الخبيث الي أن ينتقل بنسفه الي أرض القتال، ليتولي اضرام النار، اذا هي لم تضرم نفسها، و هكذا اقترح علي ابن زياد أن يحمل كتابه الي عمر بنفسه، و يبقي له هناك عينا و رقيبا و مقاتلا، و قد جاء في هذا الكتاب «أما بعد فاني لم أبعثك الي الحسين لتكف عنه و لا لتمنيه السلامة و البقاء، و لا لتطاوله و لا لتعتذر عنه، و لا لتقعد له عندي شافعا، أنظر، فان نزل الحسين و أصحابه علي الحكم و استسلموا فابعث بهم الي مسلما، و ان أبوا فازحف اليهم حتي تقتلهم و تمثل بهم، فانهم لذلك مستحقون، فان قتل الحسين فأوطي ء الخيل صدره و ظهره، فانه عاق مشاق قاطع ظلوم، فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، و ان أنت أبيت فاعتزل جندنا، و خل بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر، و السلام»، و هكذا لم يكد عمر بن سعد بن أبي وقاص يتلو خطاب ابن زياد حتي أدرك ما وراءه من كيد ابن ذي الجوشن، فقال له «لقد أفسدت علينا أمرا كنا نرجو صلاحه، و الله لن يستسلم الحسين أبدا»، فأجابه شمر «امض لأمر أميرك و قاتل، أو خل بيني و بين الجند»، و مرة أخري غلب ابن سعد بن وقاص علي دينه، و استسلم لأطماعه و هواه، فرضي أن يبقي قائدا لحملة رجيمة، و جيش ظلوم.

و هكذا و ضحت النوايا أمام مولانا الامام الحسين، فالقوم يريدون اذلاله أو يريدون حياته، أما المذلة فالممات دونها، و أما حياته، فليس هو أول من يجود بها في سبيل الحق من آل بيته العظيم، و لن يكون آخر من يجود بالحياة منهم، و لسوف يصبر علي واجبه في مقاومة الطغيان و الطغاة، و يعانق مصيره بما عرف


عن بيته الكريم من رضا و ثبوت و ولاء، و هكذا وقف ابن الرسول الأكرم، وقف ابن فارس الاسلام علي بن أبي طالب، وقف ابن فاطمة الزهراء بضعة النبي و سيدة نساء أهل الجنة، وقف الامام الحسين الشهيد ابن الشهيد و أبو الشهداء في مئات السنين، وقف الموقف اللائق به، و المقدر له، و كان يستطيع أن يخادعهم، و الحرب خدعة، بل كان من حقه، لو شاء، أن يبايع بلسانه، حتي اذا عاد بأهله الي مكة و اطمأن علي سلامتهم، خلع البيعة و ألقي بها الي التراب، و له من دينه في مثل ذلك رخصة سجلها القرآن الكريم في بعض آياته، فقال «الا من أكره و قلبه مطمئن بالايمان»، لكن الامام سليل بيت، ليس من طرازه سواه، و ابن رجال لا يركبون الرخص، بل يعانقون العزائم و العظائم، و من ثم فقد ازداد قوة علي قوة لثقته بالظفر بالشهادة، حتي أنه خطب أصحابه فقال، فيما يروي الطبري و ابن كثير، «أثني علي الله تبارك و تعالي أحسن الثناء، و أحمده علي السراء و الضراء، اللهم اني أحمدك علي أن أكرمتنا بالنبوة، و علمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، أما بعد، فاني لا أعلم أصحابا خيرا، و لا أولي من أصحابي، و لا أهل بيت أبر و لا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيرا، ألا و اني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، الا و اني قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، فان القوم انما يريدونني، فلو قد أصابوني لهو عن طلب غيري».

هذا و في نفس الوقت فلقد أرسل مولانا الامام الحسين، عليه السلام، الي عمر بن سعد قائد جيش الطغاة، عبدة الدرهم و الدينار، و من باعوا دينهم بدنياهم، أرسل اليه يطلب ارجاء القتال الي الغد، و أجابه ابن سعد الي ما طلب، و لعلعه ظن أن وراء رغبة الامام في الارجاء عزما علي التسليم، و علي بيعة يزيد بن معاوية، ربما لأن عمر لم يدرك معني الفداء و التضحية، و لم يرث عن والد العظيم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه معني جهاد الظالمين، لم يدرك أن الامام الحسين عندما استبانت له نتيجة المعركة، أراد أن يدفع حياته وحده زلفي لها و قربانا، و لم يشأ أن يدفع لسيوف البغي حياة أنصاره الخمسين و معهم


الأشبال و الرجال من أهل البيت و أبنائه، بعد أن تغير الموقف بالنسبة لهم، فلقد خرجوا معه علي حساب أن الكوفة في انتظارهم، ليبدأوا منها و بها مقاومة مشروعة، يدحضون به ضلال حاكم الشام، و يدرأون به عن الاسلام خبث بني أمية، لكنهم فوجئوا بالكوفة تنظرهم بوجه آخر، كالح عبوس، فرسل الامام الحسين صرعوا و استشهدوا، و الألوف التي أعطت بيعتها لمسلم بن عقيل تبددت و اختفت كالجرذان، و بدلا من أن يجد الامام الحسين كتائب الحق من شيعته و أنصاره، وجد عصابات البغي تنتظره بالغدر و المنايا، و هكذا تغير الموقف بالنسبة لأنصار الامام، و ان لم يكن قد تغير بالنسبة له، و لما وطن عليه ارادته و عزمه و ضميره، ومن ثم فقد طلب ارجاء القتال ليجعل أهله و أصحابه في حل من كل التزاماتهم تجاهه.

غير أن أهل البيت النبوي الشريف و أنصارهم، رفضوا العرض الكريم جميعا، و صاح أخوه العباس بن علي بن أبي طالب «معاذ الله و الشهر الحرام، و ماذا نقول للناس اذا رجعنا اليهم، نقول: تركنا سيدنا و ابن سيدنا غرضا للنبال، و دريئة للرماح، و حرزا للسباع، و فررنا عنه رغبة للحياة، معاذ الله، معاذ الله، بل نحيا بحياتك، و نموت معك»، و صاح بمثل هذا بنوعقيل و بنوجعفر، و تقدم ابنه «علي بن الحسين» فتي لم يتجاوز سنه التاسعة عشرة، و سأل أباه: ألسنا علي الحق يا أباه، قال الامام: بلي و الذي أنفسنا بيده، فصاح فتاه العظيم: «اذن و الله لا نبالي»، و سرعان ما قام الأبطال من أنصار الامام الحسين، رضي الله عنهم و أرضاهم، فها هو «مسلم بن عوسجة الأسدي» يقوم فيقول «أنحن نتخلي عنك، و لم نعذر الي الله في آداء حقك، أما و الله لا أفارقك حتي أكسر في صدورهم رمحي، و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، و لو لم يكن لي سلاح لقذفتهم بالحجاة دونك حتي أموت»، و ها هو زهير بن القين يقول «و الله لو وددت أن أقتل ثم أبعث، ثم أقتل ثم أبعث، هكذا ألف مرة، فيها ردءا عن حياتك و حياة هؤلاء الفتيان من آل بيتك»، و ها هو «سعيدبن عبدالله الحفني» يقسم علي الوفاء و الفداء و يقول «و الله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا


ثم أذر، يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك، حتي ألقي حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك، و انما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا»، و استمر هؤلاء الرجال المخلصون، واحدا تلو الآخر، يعبرون عما في قلوبهم من محبة و ايثار و تضحية لمولانا الامام الحسين و أهل بيته، ثم يعودون لمضاربهم و خيامهم يتهيأون للقاء القتال غدا بالصلاة و الابتهال، و بشحذ سيوفهم، و بري سهامهم، و صقل رماحهم، و لعل من أطراف ما حدث في تلك الليلة المشهودة أن «نافع بن هلال البجلي» رضي الله عنه قضي شطر ليله في كتابة اسمه علي سهام نبله، امعانا في طلب المثوبة و الأجر، و امعانا في السخرية من الخطر، و الترحيب بالموت.

و من عجب أنه في هذا الموقف النبيل، و بينا تقدم تلك الفئة المؤمنة من آل البيت و أنصارهم، أروع ضروب الفداء و التضحية للانسانية جمعاء، بينما يحدث هذا السمو الانساني في معسكر الامام و آل بيته الطاهرين، تحدث الخسة و الخديعة و السفالة الانسانية في معسكر الظالمين، فلقد ظهرت مكيدة جديدة دبرها عبيدالله بن زياد ليفرق بها بين الامام الحسين و اخوته من أبيه، فكتب لههم أمانا، دون غيرهم، بايعاز من أقارب أمهم في الكوفة، و جاء ابن ذي الجوشن بكتاب ابن زياد الي العباس و جعفر و عثمان و عبدالله، أولاد الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، من أم البنين ابنة خزام، و لكنهم جميعا رفضوا العرض الدني ء باحتقار، و قالوا له: «لعنك الله، و لعن أمانك، أتؤمننا و ابن رسول الله صلي الله عليه و سلم لا أمان له، لا حاجة بنا الي أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن مرجانة»، و هكذا صمم هؤلاء الفتية من آل البيت أن يفدوا أخاهم الأكبر و سيدهم سيدنا الامام الحسين و أن لا يدعوه وحده، مهما كانت المخاطر التي تحيط به و بهم.