بازگشت

مشاهد


مضي، بين يوم الميلاد و هذا اليوم الذي تقاطرت فيه زرافات الناس من كل مكان، «أسبوع» متألق و ضي ء كأنما تنفست في جوه السعادة، و طفرت من أعماق الحلم لتموج في واقعية الجموع و دنيا الحياة.

كان البصر يذهب مذاهبه ثم لا يقع الا علي أوزاع مجتمعين و متفرقين، فقد حفل النبي بسابع أيام وليده و عق عنه.

افتداه «بكبش» ذهب خيره في أشابة الفقراء، و كان مغزاه أن الانسانية المثالية السامية، أول ما تقوم عليه هو اهراق النزوات الحيوانية و نزغات ضراوتها، مجتمعة في حيوان يهراق. فاذا كان في نحر الحيوان من أجل الغذاء معني الجسد و توكيد أنه حيوان قرم، فان في نحر الحيوان من أجل الفداء معني الروح المتسامية الي العلاء، و كان وحي و اشارة لشي ء آخر مترتب ترتيب النتائج علي المقدمات: الحيوان يفدي به الانسان الشاعر بمعناه، ليتعلم هذا الانسان كيف يفدي فكرة الانسانية و كيف يضحي بسبيل مثالياتها.. و لذا لم يجد [1] المكافحون


المستبسلون الي زمن قريب رمزا لصدق الكفاح الدامي و للارتكاض الي الموت سوي اهراق حيوان بين يدي الصراع مشيرين الي المصير و لو كان هولا.

و طعمته جموع الفقراء ليكون معناه: أن تضحية الانسان جانب الحيوانية فيه، كي يملأ الفراغ في هذا الجانب مجماعات المجتمع المحرومة، فيجد في شعورهم شعوره و في آلامهم ألمه و في سعادتهم سعادته. فقد مزجهم بنفسه و خلطهم بهواه، و قامت طبيعة الانسانية فيه علي ثنائية من الفردية المهذبة و الغيرية النبيلة، يجد في طبيعته سر الجماعة و في الجماعة سره، و بهذا يتم التواصل الانساني الصحيح الذي لم يزل خياليا و كان في وليد النبي واقعا.

طبيعة سمت عن الأنانيات، فان النبي استطاع في مجتمعه أن يذيب «أنا» في «نحن»، و حارب طوال جهاده الذين أذابوا بأحابيلهم «نحن» في «أنا»، فكان لكل امري ء في مجتمع محمد أن يقول «نحن» و ليس فيها كبرياء الفردية و عتوها، و انما فيها نبل الغيرية و وحدتها، و اشتراكيتها و تعاونها.

و قد تركت ذكري هذا الفداء في طبيعته بعد أن استوي رجلا رمزها الانساني و معناها النبيل. فلم يبال تحت ذكراه أن يحقق فيه مغزاه، و أن يقدم في نفسه فداء الفكرة التي اذا تجرد الانسان منها، عاد مخلوقا بغيضا ينحط عن أن يكون فداء الحيوان ذي الطبيعة الساذجة و فيها ايثار دون قصد، و فيها قناعة دون شعور، و فيها رغبات [2] قاصرة...

أشرف النبي في هناء الجموع و بهاء الحفل قال:


«أروني ابني ما سميتموه؟

قال علي: سميته حربا.

فقال: بل هو حسين!»

تهامس الناس بعضهم الي بعض: سماه النبي حسينا و هو كذلك في سمته و نفسه.

قال عمران بن سليمان: هو كذلك حسين و لكن فيه معني التكبير.

فقال قائل له: لكأن النبي كره اسم حرب.

قال عمران: نعم. ان الحرب شذوذ في طبيعة الانسان يصيبها بالانتكاس، و النبي نصير الانسانية يكره ما هو من الحرب و لو بمنزلة الاسم، لأنه جاء ليقيم الانسان علي قاعدة الاحسان.

قال الرجل: ففيم حربنا اذن؟

قال عمران: ان الحرب هو العدوان طمعا و عتوا و اضطهادا، و هو رجوع الي الحيوانية الضارية التي تستضيق، علي رحابة الوجود، بغير ذاتها، فتستجيب الي العدوان و تنازع الآمنين علي بقائهم. و أما نحن فاننا نكافح هذا العدوان لنخلص الانسانية من أدران الضراوة الباغية، فلسنا نحارب منازعة علي البقاء بل تعميما لحرية البقاء؛ و هذا ليس حربا بل نضال ضد الحرب، و ان النضال من أجل حقوق الانسان و دونها احسان.

فالنبي جاء بالاحسان مبدأ علي شتي وجوهه و من أقطاره، ليطفي ء نار الحرب في السلم الظالم و في الصراع العاتي، و ليرد ذئاب البشر الي الذئاب بتمزيق أقنعتهم فيسلم الانسان.

و بهذا كان النبي اول من حارب الحرب و ألغي مشروعيته و أعلن حرمة الانسان أيا كان، و روي التاريخ نبل الجهاد... و كان في تسميته الوليد حسينا بعد تسميته حربا، اعلان بأن طبيعة الحرب لن تتحرك عليه الا احسانا و في سبيله...


و في تهامس الناس «أن الوليد» أنه ألم زاهقة، كانت ايذانا بختانه. و كان مغزي الختان، في اشراق الروح، أن في طبيعة الغرائز زائدة تذهب في شذوذها و التوائها حدا تضعها في مساف المساقط و مآتيها. فلابد من تشذيب الغرائز لسمو الروح و كمالها، و لابد من تقليم الغرائز لدرك المثالية و نبالتها التي بها جميعا يملك البشري انسانية صحيحة تضعه فوق الواقع و دون الأحلام...

بعد حين، كثيرا ما كان يري هذا الوليد السعيد، يموج في حجر جده العظيم...

و هو يرمي بعينين سادرتين، أرخت عليهما الجفون كللها لا تزحزح الا بفتور...

ضجعة في جو الأحلام، كان يرتضع فيها الوليد «ابهام جده» البطل النبي...

و لم يكن في هذا الرضاع معني الثدي بل معني القلب، فلا بدع أن كان له من النبوة طباعها و من البطولة تضحياتها...

ضجعة كأنها ضجعة الملاك في هالة النور، او ضجعة النجم في الأفق المسحور!..

أغفي فيها اغفاءة الخشف علي ثدي الاموية الحانية...

و ارتسمت ظلال هذا المشهد علي لوح، كان صورة لبطولة تغذيها نبوة!...

ابهام كان صلة معني بمعني، و شريطا تسري عليه روح الي روح...


فلما استوت نفس الوليد تألقت، و كانت بطولة مضية من ورائها نبوة تمدها بالضياء...

هناك في وادي العقيق [3] كانت جموع السمار تنتظم حلقات حلقات في عفو و دون تكلف، و كان هذا النوع من السمر محببا الي اهل المدينة بما في طبيعتهم من روح مرحة لا كلفة فيها و لا تعقيد. و لم يكن مرحهم أثر روح مكدودة عراها تطير و تشاؤم بالحياة و أسبابها، فهي تفر الي الخلاء الي الفضاء الرحب، و هي تصطنع هذا النوع من المرح لتنسي همومها المشتعلة و ضناها اللغوب، و هي تنضو اثوابها الثقيلة و أغلالها الآسرة العانية لتنسي ذاتيتها بما فيها من عنصري المكان و الزمان المرهقين، لتعبث لتلهو هاربة مذعورة... تلك طبيعة روح معقدة حجرها الجد الخشن، فهي لا تفتأ شاعرة بالخشونة فيشيع فيها التجهم و التقطيب.

لم تكن هذه الطبيعة تتصل بطبيعة أهل المدينة في قليل أو كثير من قرب أو من بعد، و انما بنيب طبيعتهم أول ما بنيت علي مرح كاد يكون مجونا دون قيد، و علي يسر كاد يكون انطلاقا من كل قيد، فشاعت فيهم سماحة مشرقة و انطبعت علي أفواههم بسمات مشعة تمدها نعومة في الطبع تأبي الا ان تظهر في دعابة منطلقة عارضة، و هي ان جدت تكون متكلفة في الجد، كما تكون تلك الطبيعة متكلفة في المرح.

و أي شي ء هذه الحياة اذا كانت لا تمنحنا قلبا سعيدا لم تتحجر فيه السعادة، و الجد لا يصل المرء بالسعادة، لانها انطلاق، و هو جمود يحجرها كما يحجر كل شي ء يتصل به، فيضيع فيه حيويته و يعزله من روحه... هكذا كان يتحدث


في مجمع وادي العقيق «نعيمان [4] «طرفة اهل المدينة الذي لولا ما دخله من عنصر المادة الحية لكان روح النادرة المبدعة...

ليلة كانت من هبات القمر، و هو يدنو فيها كثيرا و يشع كثيرا حتي ليخيل أنه يتحدي الشمس في بهاء و طراوة يشعران بالجمال. و دعاها العرب «أضحيانة» كأنما جمع فيها الضحي أو جمعت فيه، و الضحي اغراء باليقظة، بيد ان ضحي الشمس اغراء بحياة التكاليف و الذكري و اليقظة علي الجسد و الواقع القطوب، و ضحي القمر اغراء بحياة وراء الحياة، كلها حرية و انطلاق، و كلها نسيان و ولادة من جديد في اللحظات.

ان الذكري و فيها عنصر الثبات و الجمود الحياة ضربة لازب في مرارتها و سآمتها و ملالها، و النسيان سيل من التجدد و الصيرورة يجعل الحي في كل الآنات مولودا جديدا يتقلب في اسباب الطفولة الناعمة الهانئة. فمدار الشمس دنيا من العمل و الوعي الجهيد، و مدار القمر دنيا من النشوة و اللاوعي الحالم... كذا قال نعيمان و هو يتدفق في تندره، و كان يسمي ليالي القمر ضحي الاحلام لأنها صحوات في أعمق سكر، و لحظات شعرية تفر من عتبات الابدية التي أدنانا القمر المسحور من آفاقها المطلقة القريبة.

قال رجل من الحضور: لو شاء نعيمان حدثنا حديث هداياه [5] التي


ستبقي رمز خلوده و ان كانت تطفيلا في الكرم يشبه في المعني التطفيل في النهم و ليست تضله، و علي اي حال فانها سخاء مضحك و هو معها ضحكة الاسخياء... فسرت بين الحضور رنة ضاحكة، انطلقت و ترامت ابعد ما تترامي الاصداء في مطارح الخطاء.

قال نعيمان: اما انت فضحكة البخلاء، و معناه انك اكثر من بخيل. و انا يسرني ان اكون كما تقول اكثر من كريم. و اني لا اراك في طبيعتك الا كمثل زهرة الحنظل... فارتفعت الاصوات من كل جانب: و ما مثل الزهرة الذي ذكرت؟

قال نعيمان: زعموا ان فراشة ملونة تخال كأنها زهرة حية طائرة، مسها نصب الترنيق و لغب الطنين الذي هو نشيد أماني الفراش و هي قاصدة الي الحقول. فحطت مغتبطة علي زهرة حنظل كانت تميس بين أيدي الرياح في غضارة و تملأ حتي لتحسب انها تفيض عصارة و مائية، فدارت عليها الفراشة دورات يائسة كظامي ء سقط علي آل حفي، فمدت جناحيها و خفت تطير.

قالت الزهرة: اذا عدت بعد حين فسأسقيك من ماء ثماري الوفير.

قالت الفراشة: اذا كنت و أنت زهرة من بنات السراب، فان ماءك و أنت ثمرة عصارة مستنقع كريه؛ فزهرك باطل بين الزهر و ثمرك باطل بين الثمر، فان الزور اذا استحال فانما يستحيل الي زور اكبر.

و هداياي التي كنت أسوقها الي النبي ان كانت تعبر عن شي ء، فانما تعبر عن مكان الندي و السماحة من قلب النبي الكبير، و هو لا يفتأ يأخذنا بألوان منه و يملأ جو حياتنا بطراوته، و قصاراه انه اخرجنا من بداوة الطبع و زودنا بقلب الانسان.

قال ابوهريرة، و كان احد الحضور: ان الحديث ذو شجون، و قد اذكرتني


بلحن حديثك واقعة شهدتها. كنت عند النبي «و قد اخذ وليده الحسين يدلع له لسانه فيري الصبي حمرته فيهش اليه، و عيينة بن بدر حاضر فقال:

يا رسول الله تصنع هذا بهذا، فوالله ان لي الولد و ما قبلته قط.

قال النبي: من لا يرحم لا يرحم».

قال أبوالدرداء و كان حكيما: كم كنت جد محسن يا نعيمان بقولك «و قصاري النبي انه زودنا بقلب الانسان» فقد جمعت غاية ما يقال في أخصر مقال، و انه ليوحي بشي ء كثير.. ثم أطرق في تأمل لم يطل به كثيرا و لكنه مس الجمع، فنقلهم من جو أنفسهم في مرحه الي جو نفسه في تأمله... و ما هو الا ان اطرد يقول: لا أدري ماذا ترك في انفسكم خبر ابي هريرة، فانه أيقظ نفسي علي السر الالهي في محيط الكون الذي هو مصدر ما فيه من تناسق و نظام و جمال و تناغم. و اذا كانت قصة المثل [6] تعبر عن واقعية كونية فانه يقع علي قمتها، و ذلك السر هو الرحمة، فانها المعني الازلي الذي انبثقت منه الحقائق و كان الوجود احدي ظاهراتها و هي فيه مقياس القيم؛ و نحن لن نتصل بالحقيقة الاخلاقية و الطبيعية و ننفذ الي أغوار المطلق الا من طريقها و علي اضوائها الملتمعة، علي ان الخير الذي اعتبرته قصة المثل رأسا ليس في حقيقته الا امتداد الرحمة و ظاهرة من تحركها، و الجمال تجسد للرحمة باكثر مما هو تجسد للخير، فهي ألفة الحقائق التي بها نفهم الكونية و الاخلاقية فهما مطلقا، و نضع اليد علي مقياس القيمة الحق.

و ميزة الاسلام انه جعل الرحمة دعامته و قام عليها، و لعله الدين الوحيد الذي تهدي بها الي فهم الوجود و قياس الاخلاق و تركيز القانون و الاجتماع، و جعلها نظرية فلسفته الاولي. فقد سمي الله احيانا رحيما و احيانا رحمانا، و حين تحدث عن الكون قال في مقام «وسعت رحمتي كل شي ء» و في مقام آخر قال


«كتب ربكم علي نفسه الرحمة»، و حين تحدث عن المجتمع العام قال «و ما ارسلناك الا رحمة للعالمين» و عن الاسرة قال «و جعل بينكم مودة و رحمة» و قال النبي يصف نفسه «أنا الرحمة المهداة»، و حين تحدث عن الاخلاق قال «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء»؛ و ما حدثكم به ابوهريرة الآن «من لا يرحم لا يرحم». ففلسفة الاسلام قامت علي قاعدة الرحمة التي عالج بها نظام الحياة من شتي وجوهه و جوانبه و بثها في قانونه و أناظيمه، و دخل بها الي الهيكل المستغرق الخاشع و المجتمع الصاخب الداوي، و كسر بها شرة الانانيات الضارية و حد بها من مد الرغبات النهمة.

و بالرحمة عالج الاسلام طبيعة الانسان المعقدة، ليبلغ بها مبلغ المثل الاعلي الذي عبر عنه بقوله «رحماء بينهم» و ليحقق بها مبدأ التآخي العام «انما المؤمنون اخوة».

و ليس هناك كلمة كفيلة بان تدل علي روح الاسلام الشائعة في كل اوضاعه و تعاليمه سوي الرحمة، فهي رمز جامع لمجموعة حقائقه. كالمحبة التي هي الرمز الجامع للمسيحية من اقطارها و حواشيها؛ و فرق ما بينهما ان في طبيعة الرحمة توازن القانون، و في طبيعة الثانية خيالية التجريد.

و علي اساس من الرحمة يقيم النبي التربية و يضع مناهج الربابة [7] السمحة التي تأذن لكل الطبائع بالنماء في تقدير موزون، دون ما كبت يورث انتكاسا و التواء في الطبيعة المتفتحة. و لذا ذهب وليده بحنانه و لا يفتأ يغاديه بشآبيب حبه النمير.

قال شداد بن الهادي: لله درك أباالدرداء فان فيما اذكره الآن شاهدا علي ما تقول «ان رسول الله خرج علينا في احدي صلاتي العشاء و هو حامل حسينا، فتقدم النبي فوضعه ثم كبر للصلاة فأطال سجوده فرفعت رأسي فاذا الصبي


علي ظهر رسول الله و هو ساجد، فرجعت الي سجودي، فلما قضي الصلاة قيل: يا رسول الله انك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة اطلتها حتي ظننا انه قد حدث امر أو انه يوحي اليك، قال: كل ذلك لم يكن و لكن ابني ارتحلني فكرهت ان اعجله حتي يقضي حاجته».

فقال أسامة بن زيد «طرقت النبي ذات ليلة في بعض الحاجة، فخرج النبي و هو مشتمل علي شي ء لا ادري ما هو. فلما فرغت من حاجتي قلت: ما الذي أنت مشتمل عليه؟. فكشفه فاذا حسن و حسين علي وركيه، فقال: هذان ابناي و ابنا ابنتي، اللهم اني احبهما فأحبهما و احب من يحبهما».

و استأنف أبوالدرداء حديثه فقال: ان الرحمة في العضويات و مظهرها الرقة و الحدب هي سر كيان الموجود الاجتماعي و بقائه، و ان الطفولة اذا لم تؤخذ برحمة الكبر فلابد أن تقع هوة بين الطورين تذهب متسعة كلما ذهبت الايام ممتدة، و تمتلي ء بالكراهيات و تطفح بالأحقاد، فتخبو النشوات المغرية بالحياة. لأن الطفل لم يعد يجد حاضره اللاذ في الكبير، و لأن الكبير لم يعد يجد في الطفل مستقبل وجوده كحلم الخمرة في العنقود.

فمثل نظرة عيينة بن بدر الي الطفل تؤرث البغض الخفي، و تذكي الصراع بينهما علي نحو غير مشعور به، فلا تتجاذب اجزاء الكائن بل تتدافع و لا تتجانس بل تتنافر، و بذلك يندثر حب الذات في مظهره الاجتماعي و تبهت أحلامه فتبدو خابية.

ان النبي يبث في الشباب المستوي، الرحمة علي شتي أطوارها: بالشيخوخة لأنها الماضي فهو يستميلنا بالحنين، و بالطفولة لأنها المستقبل فهو يستهوينا بالأمل، فتتواصل أطراف الكائن و تتحد في بقاء طويل، و محال أن يقوم مجتمع علي القسوة. فنحن و آباؤنا و ابناؤنا أطوار كائن كروي واحد، يدور و يرينا في كل وضع و حين وجها؛ و كرة هذا الكائن انما تدور بالرحمة فاذا نفدت جمدت الكرة و ذوت فيها الروح. و الحياة لابد أن تتفسخ و تجتوي اذا لم تكن


دنيا من الرحمة، و هذا ما حققه النبي في فردوسه الذي تزهو به أرض العرب، و يلتمع الي بعيد في اغراء.

ان الطفل حيوان يعيش بالغريزة، و بالرحمة يستطاع جعله انسانا يعيش بالقلب.

قال نعيمان و لم تفارقه دعابته: لا ريب أن كانت كل أضراسك - أباالدرداء - ضرس عقل، او لعل لك وحدك من بيننا ذلك الضرس.. فضحكوا و هم يتنادون متواثبين الي الرواح، (و سالت بأعناق المطي الأباطح)...

في بلاد العرب المتبدية وضع النبي تصميم مدينة فاضلة...

و ما هي حتي استوت علي قواعدها حتي وجد فيها الظماء التائهون هيكل السعادة الشارد...

و دحيت لبناتها من كل مثالية التقي فيها الفكر و العمل، فلم تغل بالمثالية فتطير بها اللبنات و تذهب في شرود...

و كانت الرحمة ناموس تماسكها و تجاذبها...

في هياكل هذه المدينة السعيدة كان حسين يحبو...

و هو يتسامي في منبثق اشراقاتها يوما بعد يوم، كما تتسامي اللآلي ء في رقارق النمير العذب...

فكان كائنا كالالماس صقلته الأضواء و انطبعت فيه...

و غدا، بعد حين، مشكاة متألقة تميس في فضاء الهيكل السعيد...

و تهب الحائرين طمأنينة النفوس و أحلام السعداء!...



پاورقي

[1] کان من عادة الجنود في القديم نحر حيوان تحت العلم و علي مرأي من الجند، و بقيت هذه العادة حتي زمن محمد علي باشا خديوي مصر.

[2] نعني بالرغبات القاصرة أن الحيوان ينفعل بباعث الغريزة کالجوع، فاذا سقط علي طعام تناول منه حاجته و عف عن الباقي، بينما الانسان يتناول حاجته ثم تتحرک فيه رغبة النعم حرکتها فتحمله علي الادخار و احتجاز ما فضل عنه دون الآخرين. فلدي الحيوان ايثار دون شعور. و بالجملة تکون رغباته قاصرة بينما رغبات الانسان شرهة صارمة. و التناحر لدي الحيوان علي المقومات الحيوية لا يکون الا حين الشعور بباعث الغريزة و الحاجة.، و لکن التناحر لدي الانسان عليها قائم علي ادخارها شرها فاحشا فکان الحيوان بالطبيعة أفضل من الانسان.

[3] ان العرب تقول لکل مسيل يشق الارض و يوسعها عقيقا. و في بلاد العرب اربعة أعقة و منها العقيق الذي هو بناحية المدينة فيه عيون و نخيل و قصور و دور و منازل. راجع معجم البلدان لياقوت ج 6، ص 198.

[4] هو نعيمان بن عمرو بن رفاعة من بني‏النجار. توفي في زمن معاوية. کانت تغلب عليه روح الفکاهة و النادرة، و کان يداعب النبي کثيرا. ذکره الزبير بن بکار في کتاب الفکاهة و المزاح، و دکره ابن‏الجوزي في کتاب الظراف و المتماجنين، و ترجم له بتوسع ابن‏حجر العسقلاني في کتاب الاصابة ج 6، ص 250.

[5] ذکر خبرها ابن‏حجر في الاصابة قال: کان لا يدخل المدينة طرفة الا اشتري منها ثم جاء بها الي النبي فيقول ها أهديته لک. فاذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمن أحضره الي النبي و قال: اعط هذا ثمن متاعه، فيقول النبي: أو لم تهده لي؟ فيقول: انه و الله لم يکن عندي ثمنه و لقد أحببت أن تأکله، فيضحک و يأمر لصاحبه بالثمن، و ذکرها ابن‏الجوزي في کتاب الظراف، و غير واحد من المؤلفين في النوادر.

[6] اي قصة المثل الافلاطونية التي تجعل الخير رأس المثل.

[7] من وضعنا الجديد بمعني تربية الطفل.