بازگشت

يوم الميلاد


تنادت نساء الحي أن فاطمة أجاءها المخاض، و كن يلممن بدارها كوكبات كوكبات، و ينتظمن هنا و هناك كما شاء المجلس لهن. و مرت لحظات أخذت عليهن كل ما كان يبدو من حركات شاءها الظرف و البشر، و شملهن صموت خاضع فيه بادية الحذر، حتي ليخيل للناظر أنهن دمي مجنحة تطمح الي شي ء في غير مرأي العين.

و كانت أسماء بنت عميس وحدها تري غادية رائحة، و مر بها خاطر أنكرت معه موضعها. فقد تراءي لها أنها في معبد اكتظ بالمجنحات التي تطل في صورها ملائك في فرحة خاشعة.

و سبحت مع خاطرها و راحت في مقعد الأحلام، حتي لقد انفصلت فوق حدود الزمان و المكان، فكان لها عالمها الجديد الذي يغاديها برؤي يقظي علي خيوط النور.

حسبت كل شي ء واقعا و حسبت أنها تغدو و تروح في عالم ما تري. انها أحست بلذاذاته طافحة حتي لقد غمرتها.

لا يمكن أن يكون هذا حلما، انه لأكبر من الحلم في مذهب الحسس


البادي.. هكذا تناجت في حديث نفسها حينما أنبهتها زغردات النساء التي بدأت همسات حلوة ناعمة:

فقد أسلمت فاطمة وليدها..

و لكن أين ما كنت أري؟. أين هو أو أين أنا! لست، لست أدري. أحسبني في معرض العجائب. أحسبني في عرس الاملاك. حقا ان للانسان عوالم شتي و هو يعيش في أقلها تطرية، أو يجعلها واقع الزمان و المكان أقل تطرية و بهجات. هناك في غير واقع الزمان و المكان يحس الانسان بالاشياء مكبرة و يتصل بكليات معانيها لأنه يحس بكل نفسه، و أما هنا فانه يحس ببعض نفسه علي مقدار ما يسمح الواقع الجامد، و يبقي كل النفس ظامئا.

لم يكن ما رأيت حلما؟؟ انه خالطني حتي لألمسه. نعم. نعم. لقد أدركت الآن، و الآن فقط، سر النبوات و سر القداسات و سر الالهام و الهيام في الفكر و الفن و الاشياء.. و ان يكن حلما فليتني أظل حالمة، و لكن هيهات أن يكون في كل يوم مثل وليد فاطمة أري علي وجهه أو أحلم.. هكذا كانت تقول بينها و بين نفسها قبل أن انطلقت و غابت في الجموع المائجة الفرحة، وضاع وقع خطاها في الرنين الضاحك...

كان (جميلا) كخفقة الضوء، و بهيا كقطرة الندي و قد تحاضنتها أكمام الزهر حتي لكأنها في جو الأحلام ذابت فيه النشوات و استحالت الي أريج تهدهده أيدي النسيم، و كان لألاء كزنبقة الغور و قد مصت اشراقة الغروب التي خلفت فيها الشمس ذكراها السعيدة الي الليل، و كان مل ء العين و الهوي حتي لقد قلن ان الجمال اختصر به أو ان سنا الوجود المفرق جمع عليه، و كانت تحوطه الي ذلك هالة مشعة فيها (جلال النبوة) و جمال الطهر البري ء، و كان عابقا كأن السماء اطلعت علي الارض بالاريج.

خرج الحضور عن صموتهم، و غمرت الاثير موجة بشر ظاهرة خفق لها خفقات كانت مؤذنة بالوليد السعيد...


برز النبي (ص) وسط الجموع كما تبرز المنارة وسط الضباب، هادية بشعاعتها المستطيلة في انبثاق و تدفق. و أخذ وليده السني بيدين كانت حركات أناملهما تعبر عن فرط السرور، و حنا عليه حنو المرضعة يهمس في أذنه كلمة الاسلام الشامخة «الله أكبر! الله أكبر!»

و غام علي أسماء، فقد كانت اليوم في حساسية جد نافذة، و شعرت حيال هذا المشهد أن الاحياء بنزغاتهم هم ضباب الحياة، و كثيرا ما يكون مطبقا داكنا، حتي لتبدو الحياة نفسها كرة من الضباب، تدور في مثل حركة الاعصار هادرة بما فيها من الاهواء. و لكن الشمس تطلع من ورائها فتبخر ما استوي فيها و تراكب عليها و علق بأنحائها، و تمدها بمعني الضياء فتغدو مزدهية متألقة، و يخشع الانسان عندها في محراب الله الأزلي. انه خرج من التيه، و نض غبار البيداء و استعلي علي السراب.

أف.. للذين يظنون ان الحياة ضباب منتشر في آفاق هذا الوجود، و الانسان يطفو و يرسب مغمض العينين.. ان وجودهم لم تشرق عليه هذه الشمس التي تغمرنا بشعاعها، ان صورة الحياة في خيال الأعمي ملأي بالظلام، و في خيال الأعشي مليئة بالرماد أو الضباب، و لكن هل الحياة كما تنعكس في مرائيهم المتحجبة؟ ان شمس النبوة و فيها المعني الاتم المشرق للانسانية و الحياة لم تسطع في سماوة فضائهم.

هنا و في هذا المكان، أجد حقيقة الحياة العارية تحت ينبوع النبوة و شعاعتها الخالدة.. هنا و في هذا المكان، حيث يبارك النبي انسانية جديدة و يتفرع منه رافد نمير و ثمد فوار في صلب الانسانية الحية، في دمائها المنصبة الي بحيرة المستقبل البعيد القرار، يجد الظماء ما يبرد حرارة عقولهم و قلوبهم، يجدون الينبوع الذي حجبهم عنه سراب الفكر المدخول...

قال قائل في الظلام - و الناس يخرج أحدهم في اثر الآخر - ايه أبارافع.. و ربت علي كتفه: أرأيت أعجب من اليوم، النبي يسر في أذن الوليد و كأنه يقول شيئا!..


قال أبورافع: نعم. انه «أذن في أذنه كما يؤذن للصلاة».

قال الرجل: و لكن أتري أنه له نفسا مدركة تعي ما يقال لها و ما تخاطب به؟

قال أبورافع: نعم. و ماذا تظن أنت؟ لعلك انصرفت بظنك الي أن نفس الوليد خلاء من القوي، ان كان ذاك فبعد ما تظن. انها واعية كأتم ما تكون نفس من الوعي، و لكنها غائمة بما في التركيب العضوي من الوهن و ضعف الحساسية.

و النبي توجه الي هذا الوعي و هو في أكمامه ليضع فيه شيئا خالدا، ليضع فيه كلمة الله فلا يحول عنها و لا يزول مهما اضطربت عليه بواعث الشباب و اضطرمت فيه نزواته، لأنها سوف تأسره بحنين الصوت البعيد.

انه وضع، في آخر مرحلة التخلق و أول مرحلة التفتح و الازدهار، عبق المثل الآلهية، عبق الحقيقة المطلقة، الذي ينفح و لا ينقطع، الذي يفيض و لا يغيض.. تمر به الأهوية الهادرة الهابة فلا تغير فيه و انما يغير فيها، بما يحملها من أريجه الفواح، فتغدو و قد فقدت ما تنذر به بما تبشر، انها حملت روح الزهرة في الحقل...

ان النبي لنا اليوم زهرة الحقل، و هو يمد يده في أحشاء الزمن بزهرة حقل المستقبل، فعسي أن يتركها الانسان تضمخ فضاء الغور في عين الشروق و الغروب، و لا تلتف عليها أفعي الشهوات فتقضمها، اني لحذر، اني... تلعئم و وضع يده علي قلبه مخافة السقوط و أغمض عينيه في خيال رهيب.

و كان أبورافع مولي للنبي، فلم يطق ما مر بخياله و تحامل علي صاحبه مدة، ظل فيها صامتا صموت الليل الذي تزيد في رهبته أصوات متقطعة للذئاب.

و شمل الرجل تيار أبي رافع فاستغرق في وجوم، و سارا يقطعان الليل في خطوات تعبر عن أنها ذاهلة لا تقصد الي شي ء و لا تتصل بما تنتهي اليه. و ما استفاقا الا علي صوت الانسان في الغلس ينادي بكلمة الله الارواح الشاردة


الهائمة. و اختلط الصوت بسكون الليل فعبر عن انه قال كلمته، و استحال الي صدي فيه شرود السكون.

خف الناس من كل مكان و في أعينهم بقايا الحلم السادر، متوافدين مع النداء الي حيث يمتزجون بالمجهول، الي حيث يصححون ضمائرهم في عمل الحياة، الي حيث يجددون عقودهم مع الله علي الخير و الحب و المثل، بجعلها مبدأ عمل و واقع حياة... مد الرجل خطاه وهب يطلب ما يطلب سائر الناس.

فقال أبورافع: علي رسلك يا هذا، اننا لم نزل في صلاة مذ خطونا!

قال الرجل: و الآن نصل صلاة بصلاة. [1] .

قال ابورافع: نعم. و لكن رويدك، فان النبي رأي جماعة تتراكض الي الصلاة، فقال «ليأت أحدكم الصلاة هونا». و هو يشير بهذا الي أن الصلاة لا تكون واعية الا اذا تلبست فكر فاعلها و نفسه، فهي ليست عملا خالصا بل فكر في العمل و بذلك يكون لها عمل في الفكر، و الاعجال يضيع علي الفكر اطراده و انسجامه. و النبي يريدنا أن نبدأها صلاة بالفكر صلاة بالروح، و الا فهي صلاة شاردة غير واعية، لروح أكثر امعانا في الشرود.


قال الرجل: ان حديثك مل علي نفسي منذ الليل، و لقد مازجتني حسرة حين قطع الوجوم عليك الحديث...

قال ابورافع: لعل صلة الحديث الذي انقطع بيننا، تجر الشجون الي استداركها يوما من اليوم.

قال الرجل: و لكني أجد في نفسي أسر الحديث و مد الداعية اليه، و لعل نفسي لا تجتمع كما اجتمعت علي الليلة من أقطارها، و أجدني أشد ما أكون انصرافا الي مغزي الأذان في أذن الوليد و مغزي الاذان الذاهب كل يوم مرات فوق ضجيج الحياة و صخبها، الاذان القارع في دنيا الاباطيل.

قال أبورافع: انني لم أزل أخشع تحت ذكري الرنات الهامسة التي أرسلها النبي في أذن وليده، لتكون كلمة الله أول شي ء يتمدد في فضاء تلك الروح، و أول شي ء تتموج به و تشتمل عليه. و بذلك يبقي فضاؤها خليا من الضباب، فلا تمر به حلكة قاتمة و لا تجثم فيه ظلامية أو دجنة، فيتكور فضاء الروح تكور الفلك علي الشمس.

و الأذان الذي يقصد به الي الروح لا تكون فيه ألفاظ الاذان بل روحانيته، لانها تسمو، بمحلها و مستواها، عن الالفاظ و مذاهبها في التعبير، هذه الالفاظ التي تؤلف كائنا آليا لا حس فيه، و استأتي به الانسان الي اكمال آلية الحياة و حركاتها الرتيبة. و لذا ظل كائننا الداخلي المجهول أكثر انفعالا بالمعاني المطلقة عن الاداء، كالالحان التي هي في حقيقتها معان لم تستحجر، فتتجه الي احساس الروح قدما فتتموج بها سريعا، بينما الاداء الآلي «الالفاظ» يمر في الفكر و ما وراءه من معابر؛ حتي يتجرد [2] و يستحيل معني مطلقا في احساس الروح.


فهذه الروح الجديدة - التي لم تحلها آلية الحياة المخترعة بعد بأشيائها والتي لا تزال غضة لم تتحجر أطرافها - تموجت أول ما تموجت، و اتسعت، أول ما اتسعت، لكلمة الله الخالدة. فمهما مر بها من العواصف المتناوحة فلن تنطلق مع الهوي. انها مركزة بجاذبية الكلمة الاولي، و هي اذا رمت بالزبد فلن يكون الا حباب المثل المتراكب. فانسانية هذا الوليد السعيد جاءت كما شاءت النبوة.

انني لا تمر بي ذكري الاذان في اذن الوليد الا و أخشع معها، انها تفعل بي فعلا عنيفا و عميقا، و لا أدري كيف أطوع الفاظ اللغة لتعبر عنها...

فصلت منذ بعيد و أنا دهش بالأذان الذي يعدولي مذكرا الحياة بقاعدتها،و الانسانية بأنبل مثلها الخوالد، و يصغي الوجود كلمة الله في فم الانسان كأنه يشهد.

و علا ضجيج الناس بالتكبير، و كانا قد بلغا باب المسجد فانتظما في صفوف المصلين، و عاد الكون الي صموته يصغي الي صوت النبي المرسل في اذن الفجر يقرأ:

«الحمد لله الذي وهب لي علي الكبر اسماعيل و اسحق ان ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي ربنا و تقبل دعاء».

في حقل البشرية الشائك، غرس النبي نواة...

عملت فيها النواميس، فبرزت زهرة لم تتفتق عنها الاكمام...

و مسحها النبي بيديه كلتيهما، فنورت بين أصابعه...

و ماست فواحة تملأ الحقل بالعبير، حتي ليخيل ان الحقل زهر كله!..

قصدت اليها من بعيد، افعي فاحمة لماعة الاديم...


و كانت تفح فحيحا لاهبا، و يؤج من فيها الحمم...

و التفت عند أصل الزهرة، و تكورت كعقد القضاء...

و في هدأة الليل، حين كان الكون في سبات قضمتها...

و عادت و قد عاد الحقل شوكا ملهبا، و غدت زهرة الحقل ذكري رمز سعيد!..

زهرة كانت من صنع النبوة في افتنانها و سموها...

و النبوة شعلة في الحياة، و شفق في الفكر لا يتناهي مداه...

و زهرة الحقل نثرها باطل الانسان، و لكنها اجتمعت في الذكري الخالدة...

فقد غرستها نبوة صناع و النبوة، لا تحور...!

زهرة وضعت فيها اللانهاية أسرارها...

فلبثت رغم باطل الانسان و لن تدركها نهاية...

و حار الباطل الي رماد في زوبعة الرياح...!

تحول الباطل، فكان ظلال الحياة...

و تحول الحق، فكان شمس الحياة...

و أخيرا، و بعد حين، ضاع الظل في الشمس!



پاورقي

[1] لا ريب في ان الصلاة عقد «کونترا» بين الله و الانسان. و اذا تأملنا الفاتحة نجد فيها شروط عقد متبادل. و علي ضوء هذه الملاحظة ينکشف لنا سر تکرار الصلاة اليومية علي الشکل المعروف في الاسلام و جعلها ليلية و نهارية. و هذا السر هو تجديد العقد و توکيده حتي لا تضعف فعاليته و حتي لا تمر بالمرء ساعات فتور و استرخاء يخل فيها باحکام العقد فيظل بذلک دائما طرفا في عقد جديد. و کما هو معروف علي البحث أن الضمير و الوجدان و العقائد تتولد من التکرار و التلقين، و الصلاة صيغة تلقين و عملية تکرار معا. هذا فهمنا للصلاة في الاسلام من ناحية عملية. و أما هي من ناحية فلسفية فانها أصح طريقة و اسلوب، و اصح شکل و صيغة لما يسميه (ساندرسون) أحد علماء النفس التطبيقي معبد الرؤيا، هذا المعبد الذي يتأمل فيه المرء منفردا و يخشع مستغرقا متفکرا، و هو يري أنه لا صلاح للفرد و بالتالي للجماعة الا بمعبد الرؤيا، او ساعة التأمل اليومية و قد ضمنها الاسلام علي شکل مدهش من التکرار في صخب النهار و في هدوء الليل، و کأن الاسلام بصلاة النهار ينتزع الانسان انتزاعا ليغرقه في التأمل و الاشراق و لو لحظات.

[2] توجد الفاظ في اللغة لم تستحجر بما اغدق عليها الشعور حتي لتتصل بما وراء القوي الواعية و تحرکها رأسا بدون ان تمر في الفکر کالفاظ الجنة و النار في حس المتدينين، فهي الفاظ تکمن فيها روح، و يمکن لنا ان نسميها لغة روحية و تضم کل الالفاظ التي تملک خيالا و ذکري کالفاظ القومية و الحب. و هناک الفاظ تتصل بمواطن الحياة و تؤثر متخطية الفکر ايضا او تمر به مرا سريعا، و هي الفاظ الغرائز و ما اليها و نسميها لغة حيوية. و ما بقي من الفاظ اللغة الآخري، فهي الفاظ فکر لانها تؤثر عن طريقه و نسميها لغة آلية مستحجرة.