بازگشت

يوم القران


مضي، بين يوم المدينة و هذا الليل الذي استيقظ فيه النبي علي ذكري ناعمة كرجع الحنين و منعشة كلمسة الحب و شائقة كوقع الأمل، أيام ان شئت تحسبها بأسابيع [1] فذاك و ان شئت تحسبها بأشهر فقد تصيب.

انجرد النبي من الليل و يده تمسح النوم عن جفونه التي أخذها رقاد هني ء رافه بأحلام الغد، و كانت نفسه تجيش بذكري محببة اليه قريبة منه حتي لكأنها ترجع الي أمس النهار الذي لم يفصل عنه يوم و غد.

و هي ذكري ما كانت تمر في خاطره الا و تجيش بها نفسه و يشملها اطمئنان و رضي، علي أنها لم تكن تعبر مجازها في خياله الا و تترك علي مقلتيه دمعة متبخرة و أخري تذوب في خفقة رقيقة و زفرة غير طويلة. ذكري يحركها عنده طيف ابي طالب الذي كان يتراءي له و يلم به احيانا، و غدا بعد يوم المدينة كثيرا ما يراوحه. و كان الطيف يبدو بعد هذا اليوم مزدهيا تلفه من نواحيه نشوات، و متلفعا باشراقة تشيع عليه من أقطاره، و هي تعبر عن زهو المكافح الميت بمجد المكافح الحي.


كانت تمر عليه في طيف ابي طالب صور متحركة سريعة، تتصل بغار حراء و مكة و دار الاعداد و الدعوة «بيت الارقم» فيحس بالحنين العميق.

و تمر به صور ما لاقي

و تمر به صور الاوثان المنضدة التي تحداها في سخرية و هاجمها في تحطيم، فيحرق الأرم.

و تمر به صور ما لاقي من عنت اجماعي و هو ماض في كفاحه لا يحفل و لا ينثني و لا يتردد، معتقدا الظفر رغم الجموع، و النجاح رغم تأشب الباطل و سورته. و كذلك المصلح الحق ينقطع الفكر بينه و بين العقبات، ليقول كلمته و يسمع صداها، و دائما يكون مزلزلا مرعدا.

و يبدو ابوطالب من ورائه يدفع عنه و يشد ازره و يحمي حماه، فيشمله رضي بأنه أدي رسالته و شهد نجاحها في الخلق و الانشاء.

و تمر به خديجة في هالة الحب الزوجي الاقدس، و في صورة من مقام المرأة و أثرها في حركات البعث و الانقلاب، فيعروه حزن صامت و تقدير خفي و اكبار يظهر أثرهما في مركز المرأة من التشريع الخالد... و تزوي تلك الصور و تثبت هذه الحقيقة:

نجاح الحركات الخلاقة بدعائم ثلاث: رجل المبادي ء الذي يعمل بقواه المعنوية و الفكرية مجتمعة، و المرأة التي تعمل بروحيتها المشعة و عواطفها الواعية، و رجل الداع الذي يعمل بكل وسائله باخلاص...

و تنتقل به الذكري و لا تنقطع، الي الهجرة، فيمر به علي و تضحيته الرهيبة في التزمل عنه، فيرنو في دهشة مكبرة.

و يمر به غار أبي ثور و صاحبه الباسل أبوبكر، و الطريق المروع و هما ينهبان الأرض نهبا، فيشعر بأسي و ينكمش علي خاطر أن يغدو صانع المجد طريد المهد.

و تمر به يثرب و جهوده في تثبيت العقيدة و استثمارها في بناء قواعد الدولة الجديدة، فيثغر في ابتسامة عريضة هادئة.


و تمر به سلسلة المعارك التي كان أهمها بدر، و يري الجمعين و قد تصافا للقتال، و يري أبطاله علي درجاتهم، و يري عليا صاعقته المدخرة تنقض في كل مجال، و يشهد النهاية الظافرة، فيهزه في مظهره الوقور سرور بعيد الغور... و تزوي تلك الصور أيضا و تثبت هذه الحقيقة:

ان أباطالب كان أسد محمد و رسالته في دور التأسيس، و لم ينفض يده من الحياة الا بعد أن قدم، في فتاه علي، أسد محمد و رسالته في دور التشييد و الاعلاء..

قام النبي و قد عزم علي أمر أرضي به ضميره و حبه معا، و خرج و و يشعر أنه أدي حقا. و مرت به فاطمة و هي تخطر لبعض شأنها، فقبلها قبلة اجتمع فيها شعور جديد أحست معناه غامضا مبهما، و لكنه استنبه فيها شيئا لم تدر كنهه الا أنه مبهج علي أي حال.

لم يفصل النبي عن حجراته بعيدا حين أقبلت أسماء بنت عميس علي فاطمة تزورها، فأنست اليها كما لو كانت تنتظر لقاءها بلهفة و صبر نافذ... و المرأة تتكشف الي المرأة بحقيقتها العارية، و تظهر المرأة الي المرأة بكل ذاتيتها، و ليست تعطي الرجل الا نصف معناها و يبقي النصف الآخر مجهولا غامضا و يذهب في غموضه أبدا. فنحن نفهم المرأة نصف فهم لأنها لا تنكشف لنا الا نصف انكشاف و لا يخرجها من صدفتها للعراء الا الحب، و المرأة اذا تفتحت أنوثتها و نضجت، حنت حنينا مبهما فانها تجد نصف معناها في الرجل و النصف الآخر في الولد، و هي تريد أن تحل لغزها فيأخذها هذا الحنين.

أقبلت أسماء اقبال من فهمت شيئا و تريد المزيد، و قالت لها: مررت بالنبي و هو في بهجة ضاحكة زادت شعاعا علي ما كنا نعهده بعد يوم المدينة و ان كانت لا تفارقه، حتي لقد خيل الي أنه غرم علي أمر فشاع سروره علي محياه البهي. و لا يبعد بي ظني أنك وقفت عليه، فقد أعلم أنه يستروح فيك روح النبوة و ما هو بغريب، فانك ولدت له بعد مبعثه و قد استحالت النبوة في معناه و غدت له ذاتية، فأنت ذكري من ذكريات الوحي الأولي.


استوت فاطمة و قد تألقت في عينيها اشراقة من حلاوة هذه الملاحظة، فقد كانت تعزو ما يلقاها به النبي من احتفاء و احتفال الي محض الحنان الأبوي. و ألقت في ابتسامة مفترة: اذن فأنا شي ء منه كالوحي أو كالنبوة، و طيف سماوي في خيال أبي عندك يا أسماء.

قالت أسماء: و أنا و ايم الله ما جلست اليك الا شعرت بروحانية هذا الطيف المتألق و جماله، و شملتني سكينة لا أحد دها الا بما تترك في نفسي من اطمئنان لاذ رغيب. و لا تحسبيني من هذا الشعور كما قيل «تخيل ثم خالا» بل هو واقع نفسي كالري علي الظمأ أو كالأمل الندي.

قالت فاطمة: يسرني أنك تحبينني هذا الحب، و لكن ما وجه الأمر الذي عزم عليه أبي علي ما انتهي اليه حدسك؟ فقد طاف بنفسي شي ء كالذي طاف بنفسك، و انه عراني احساس غامض حين قبلني أبي في هذا الصباح قبلة جديدة المعني، و بث في قبلته الي جانب الحنان الذي عودنيه شعور من يخشي فراقي، و كان في بهجته المشرقة نفسها التي لم تزايله حين مررت به.

و كانت حجرات النبي تشرف علي المسجد فرأتا شبحا لم تتبيناه جيدا، يدخل مسرعا و يخرج سريعا، فاشرأبت أسماء تنظر و أطلت من قريب، و علمت أنه أبوبكر عرض عليه شيئا فلم ينبسط اليه. و لم يغادر بعيدا و يتواري حتي جاء عمر فساره بشي ء لم تتبينه أسماء أيضا، فلم ينبسط اليه و ظهرت عليه حركة اعراض غير خافية. و ما جاوز المسجد حتي أقبل علي فتلقاه ببهجته التي لحظتها عليه ساعة أبصرته أول النهار، فساره طويلا و النبي ينبسط اليه و يحتفل به، فقام و علي ثغره ابتسامة عريضة لم يجتهد في اخفائها و انما تركها تنطلق الي منتهاها.

فانقلبت الي فاطمة تقص عليها ما رأت، و مر بخاطرها، و قد ضمت قدميها للجلوس، شي ء اطمأنت اليه في تفسير ما شهدت و غمغمت: لعل... لعله أن يكون.

و عرض لها ما ثبت هذا الخاطر عليها، فقالت بينها و بين نفسها: لذلك.. لذلك لم يكاشفها بالأمر الذي عزم عليه.


و رأت أسماء أنها أحرجت حينما قالت لها فاطمة: لعلك وقفت من الأمر علي جليته أو علي ما يتصل به. فأدارت الحديث بلباقة الي وجه آخر البسته شكل المفاجأة لتكسب اهتمامها بما تريد أن تصرفها اليه.

فقالت: نسيت شيئا كنت أريد أن أخبرك به و قد ذكرته الآن. فبدا الاهتمام علي وجه فاطمة و أصغت في كثير من التلهف و الشوق الي هذا النبأ الجديد... فواصلت تقول:

سمعت الناس في طريقي هذا الصباح يقولون: ان عبدالله بن سلام حبر اليهود أعلن اسلامه و كاشف به. و كان نبأ شديد الوقع علي اليهود حتي لقد باتوا يخاطب بعضهم بعضا بكلمات مختلطة امتحانا لحواسهم التي بدأوا يشكون في سلامتها، فان ابن سلام رمز ديني من رموز اليهود، و عجيب أن يميل الي دين أبيك. و توقع الناس أن يكون لهذا الصدي الذي أحدث أثر كبير في الاضعاف من سلبية موقفهم ازاء الدعوة الجديدة، كما تدارك اليهود خوف عميق من أن يفضح لأبيك سر الروحية التي يجتهدون في جعلها لغزا. و لكن رغم ما أحدثه اعتناقه الاسلام من صدي عكسي عنيف و وقع مزلزل، لن يؤثر في سلبية اليهود الا أثرا ضئيلا علله ابن سلام بما في طبيعتهم من «البهت».

كما أن القومية اليهودية وحدها قامت علي الدين الموروث و الكنيس الرمزي في هذا الشكل حسب، و بعبارة أصح ان القومية اليهودية كنيس فقط و لا شي ء وراء هذا التقليد الديني. فهم لا يتمسكون بدينهم رغم الكوارث بحكم صحته، بل بحكم أنه قاعدة قومية تكفل وحدتهم، فاليهودي لا يرفض مبدأ لأنه فاسد أو ليس بصحيح بل لأنه لا يتفق و مثله القومي الذي يجب أن يقبله بدون مناقشة. و هو قد يعتقد عدم صلاحيته كطب للروحية البشرية و لكنه يقبله علي أي حال، لأنه الضمانة الأكيدة لسلامة الوحدة اليهودية. فاليهودي لا يعمل عقله في مثله بل لا يحب أن يعمل عقله، مادامت هذه المثل تحفظ عليه وحدته العامة التي تتصل ببقائه، فلو فرض و اتسع اليهود كمجموع بشري يعيش علي شتي الأمم لاتباع أي المبادي ء التي تروق لهم لذابوا و غمرتهم اللجة. فمعتقدهم الديني الموروث حفظ


وحدتهم و بقاءهم أمة و كقبيلا من البشر يمتاز بخصائصه، و حفظ اتصال تاريخهم، و بذلك كان لهم عنصرا أوليا كالارض بالنسبة الي غيرهم من ذوي القوميات الخطيرة في الزمن.

قالت أسماء: بهذا يعلل ابن سلام سلبية اليهود الصليبة و ليس ازاء الاسلام خاصة بل ازاء كل المبادي ء و كل الاديان، حذرا من تفسخ وحدتهم و تبعثرهم في الأمم... قد يري يهودي يروج لمبدأ و آخر يروج لمبدأ ثان و لكنهما لم يؤمنا البتة بما يروجان له، و انما يفعلان ذلك بما في طبيعتهم من عنصر الفوضوية و محبة اشاعتها في كل مجتمع، ليتسني لهم العمل و النجاح.

و بينا هي في حديثها دخل النبي فهبت اليه فاطمة و تبعتها أسماء و وجت اذ ذاك فرصة مكنتها من اذنها، فانطلقت قدما وراء خاطر سنح لها عند الخروج، بأن أنسا خادم النبي الذي لا يكاد يفارقه عنده من خبر المسجد هذا الصباح شي ء كثير. فقصدت اليه، و كانت أمه احدي صويحباتها، و ما ظهرت في الباب حتي استقبلتها أم أنس بالخبر كبشري فذة، و كان فيما روت لها عن ابنها:

«أن أبابكر أقبل الي النبي فقعد بين يديه، فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي و قدمي في الاسلام و أني... و أني..

قال: و ما ذاك؟

قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه... فرجع أبوبكر الي عمر، و هو يقول: هلكت.

قال عمر: و ما ذاك؟

قال: خطبت فاطمة الي النبي فأعرض عني.

قال: مكانك حتي آتيه فأطلب مثل الذي طلبت.

فأتي عمر النبي فقعد بين يديه، فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي و قدمي في الاسلام و أني... و أني..


قال: و ما ذاك؟

قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه...

فرجع الي أبي بكر، فقال: انه ينتظر أمر الله بها... قم بنا الي علي نسحثه أن يطلب مثل الذي طلبنا.

فأتياه و هو يعالج فسيلا له، فقالا: انا جئناك من عند ابن عمك بخطبة... فقام يجر رداءه حتي أتي النبي فقعد بين يديه.

فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي و قدمي في الاسلام و أني... و أني..

قال: و ما ذاك؟

قال: تزوجني فاطمة... فأشرق وجه النبي، و قال: فما عندك؟

قال: فرسي و بزتي.

قال: أما فرسك فلابد لك منها، و أما بزتك فبعها.

فغادر و باعها بأربعمائة و ثمانين و جاء بها حتي وضعها في حجر النبي، فقبض منها قبضة.

فقال: أي بلال. ابغنا بها طيبا [2] «.

شاع الخبر في المدينة سريعا كما يشيع الاريج العابق في كل مكان مع النسم الندي، فكانت أسماء لا تمر بمحلة من دور الانصار الا و تري المرأة تميل الي المرأة و تقول لها في بشر ظاهر:

أما بلغك النبأ؟ علي خطب فاطمة، و بارك النبي العقد. و انه لنعم الحدث. ليس لهذه السيدة المصطفاة الا هذا السيد المصطفي. هي ربيبة الوحي و الرسالة، و هو ربيب الوحي و بطل الرسالة.


و في استدارتها صوب منزلها سمعت رجلا يسمر الي آخر في ناحية من الحي و يقول:

ان النبي لم يزوج عليا، و انما كرم البطولة الخالدة المظفرة في شخص البطل الخالد المظفر، و ان من حق البطولة تكريمها، و ما فات النبي أن يكرم البطولة بأعز ما عنده و أقرب ما هو الي قلبه، فان فاطمة قلب النبي مصورا في انسان املاكي أو ملاك انساني. و ليس في هذا القرآن معناه بل معني التكريم، فان محمد في حقيقته رسالة و دعوة و هو المبتدأ، و ان عليا في حقيقته ايمان و اجابة و هو الخبر، و لا شك في أن فاطمة رابطة الاسناد.

و ما فات أسماء أن تسمع ما رد به الآخر و كان من المهاجرين الاولين، كما تقول. و أيضا لقد كرم النبي بهذا القران بطولة أخري هانئة في أبديتها المشرفة الواعية، انه كرم أباطالب النصير البر و المجاهد الأول.

قال الانصاري: فهذا القران اذا تكريم مزدوج ضاعف معناه، و أخلد بهذا اليوم يوم تكريم البطولات، انه ليستخفني بمعناه الكبير... رنت أسماء في الظلام و أحدت بصرها كمن رأي شبحا، فاذا شخص يقبل عليهما و اذ تبيناه هتفا جميعا: أهلا بك سلمان.

و كان سمع بعض الحديث، و وقف منذ حين علي الخبر، فقال:

انه جدير أن يستخفك يا هذا، انه تكريم لأكبر مما كنا نصنع نحن الفرس في جاهليتنا: من اقامة تمثال جامد تخليدا للبطل. فان محمدا منح تمثالا حيا أسمي تخليدا للبطولة الحق؛ فكل ما في عمل الفرس و غيرهم أنه تخليد بمقدار ما في الحجر من القوة علي البقاء و لكن الفناء، في طبيعته. و هذا تخليد بمقدار ما في الروح من القوة علي البقاء، و لكن الابدية في طبيعتها.. و أغرق ثلاثتهم في تأمل صامت طال عليهم، و جعل أسماء لا تنتظر و تلج المنزل.

أخذها الليل بنوم هادي ء تخللته أحلام بهيجة استيقظت منه علي لذتها،


فخفت الي حجرات النبي بقدم شاعرة تحت قصد غير شاعر، و كانت فاطمة تتحينها أيضا و تنتظر منها شيئا. فان أباها الليلة أخذ بها في أحاديث شتي كما تشاء الابوة، و لكنها لم تفصح لها عن شي ء يضع حدا لتساؤلها، بيد أنها تريد أن تعلم، و من لها غير اسماء؟

بدرتها فاطمة: لعلك أتيتني اليوم بخبر اسلام كعب الاشراف و فلان فلان..

فابتسمت أسماء و أدركت انها تريد أن تعلم علم ما كان بالامس.

فقالت: كأنه لا يهمك كثيرا اسلام هؤلاء...

قالت: بلي يهمني و لكني لحظت بالامس أنك حدت عن حديث بحديث.

قالت اسماء: كان الامر يتعلق بابن عمك علي... و أفاضت في اطرائه مثل معجبة اتصل بها اعجاب و حب.

قالت فاطمة: و قد شعرت أنها تحيد أيضا... و ما أنا من هذا الآن؟

قالت أسماء: أولست تحبينه و تعجبين به؟ و ليس من أحد اليوم ال و هو يحبه و يعجب به، ثم لا يمل الحديث عنه؟

قالت فاطمة: بلي، اني لأحبه بحب أبي له و أعجب.. فقاطعتها أسماء: و انك سوف تحبينه بحب قلبك و حب أبنائك أيضا..

جمدت فاطمة ساعة، و صبغها لون قد يكون أزهر و قد يكون ناطقا. ثم قالت بعد لأي: حسبك لقد فهمت الآن، فهمت كل شي ء. انه يحبه و يحبه الي حد كبير و لكن... و ضغطت علي كلامها و أخذتها اطراقة مفكرة لم تحاولها أسماء صرفا عنها، و رأت حسنا أن تنصرف و تتركها الي خواطرها و أفكارها.

بعد أيام من حوارهما أدناها النبي اليه، و أعلمها في أحاديث بين الحنان و الاشفاق... فمرت فاطمة في سبات و اجم، و كان طويلا غالب فيه عواطفها مغالبة شاقة، و قالت في جهد من مشاعرها:


«يا رسول الله! زوجتني برجل فقير لا شي ء له.

فقال النبي: أما ترضين يا فاطمة، ان الله اختار من أهل الأرض رجلين جعل أحدهما أباك، و الآخر بعلك [3]

و كان لكلمة النبي في أذن فاطمة معني كما تحمل الالفاظ، و في قلبها معني آخر هذه الفاظه: ان الغني ليس شيئا في المال و هو اصطلاح زائف اخترعه مكر الشهوات في عقل المدنية المدخول، و انما الغني شي ء في المعني الانساني الذي هو ناموس خالد يدور عليه التفاضل في ظل الوجود. فالزهرة تكون أبهي و احب و أغني بما فيها من المعني الزهري الذي هو الجمال و العبير و ليس بما يعلق عليها و هو خارج عن معناها. و الضوء يكون أغني بما فيه من المعني الضوئي كذلك. و الاسد يكون أغني بما فيه من المعني الاسدي، و هكذا كل شي ء يكون غناه علي مقدار ما فيه من معناه... فالغني ذاتية مطلقة ثابتة، و المال نسبية مضمحلة و لا تكون شيئا اذا لم تكن الشهوات كل شي ء، و لا تجد قيمتها الا في مدي مساف الغرائز و مساقطها.

و المرأة تستكمل معناها بانسانية الرجل دون بهيميته و ما يزين هذه البهيمية و يكملها، كما يستكمل الرجل معناه بانسانية المرأة دون بهيميتها و ما يكملها. و المال مكمل للبهيمية الطائشة، و ليس شيئا وراءها أو بعيدا عنها. و لن تشعر المرأة بذاتينها و تعتد بكبرياء معناها اذا كان المال شاريا و الرجولة من ورائه كسيفة خائبة و بائرة متوارية، و انما يأخذها احساس عميق بأنه لم يضم به معني الي معني بل حيوانية مبذولة وجدت ضعفها الي حيوانية باذلة وجدت قوتها. فتذهب تلك ذاوية و يأخذها تلاش سريع، و تذهب هذه منتفخة و يأخذها جبروت سريع، و ينتهي المال و قد عمل عمله بأنه الصق عبدا برب، و لم يضم انسانية الي انسانية تجدان وحدتهما، بل تباين علي مثل الطير في مخلب الطير تكون الدعابة منه نهسة يشعره فيها بهوانه، و انه في مكان النهاية من فمه. و تكون نهاية زواج المال استرقاقا أو افتراسا في شعور القلب، و تكون في شعور المجتمع اختلالا في توازن


الاسرة يصيبها بالفساد و يتجاوز بأثره الي توازن الجماعة فتختل و تضطرب. و في كلمتي: زواج و قران رائحة هذا المعني، بيد أن الاولي قصد فيها الي الروح و أحساسيسها، و الثانية قصد فيها الي الواقع الاجتماعي و ارتساماته. فزواج المال ليس فيه معناه، و انما فيه معني العقد الذي هو احتيال بقانون.

و الانثي اذا لم تنر فضاء الرجل النفسي فما تزيد عن انها جسد فقط، و الرجل اذا لم ينر فضاء المرأة النفسي فما يزيد عن انه جسد فقط، و الزواج في حس الروح فضيلة تكمل فضيلة، و نور يمده نور.

و كان معني اختيار علي الي جنب النبي جمع كل الانسانية فيه، و جاء معه علامة علي أن الانسانية بكل ما ثبت فيها لن تنحرف عن النبوة الجديدة بكل ما ثبت فيها. فكانت فاطمة منهما بين مصدر اشراق النور و مجلي انعكاسه، و موجات الشعاع تمور متألقة في جو نفسها المتسامية ابدا.

و مر في نجوي قلبها، ان أبي يقول في تعبير آخر، ظهرت حقيقة الخلق في عالم الابداع الالهي بمظهرين: مظهر النبي الكامل، و مظهر الانسان الكامل، و حبيب الي نفسي أن يكون حظي هذا الانسان.

«و أمر النبي أن يجهزوا فاطمة فحمل لها سريرا مشرطا بالشرط، و قال لعلي: اذا أتتك فلا تحدث شيئا حتي آتيك... فجاءت مع أم أيمن حتي قعدت في جانب البيت و علي في جانب، و جاء رسول الله فقال:

- ههنا أخي؟

قالت أم أيمن: أخوك و قد زوجته ابنتك!

قال: نعم...

و دخل رسول الله البيت، فدعا بماء، فقال فيه ما شاء الله ان يقول، و دعا فاطمة فجاءت خرقة من الحياة تعثر في مرطها، فنضح عليها و قال لها:

- اني لم آل ان انكحك أحب أهلي الي، اللهم اني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم...


و رأي رسول الله سوادا وراء الباب، فقال:

- من هذا؟

قالت: أسماء.

قال: أسماء بنت عميس؟

قالت: نعم.

قال: أمع بنت رسول الله جئت كرامة؟

قالت: اي و ايم الله... فدعا لي دعاء انه لأوثق عملي، ثم خرج فمازال يدعو لهما حتي ضمه منزله» [4] .

يظل الزمان حقيقة موهومة، لولا بعض الاعمال الخالدة التي تؤرخه...

و تكون هذه الاعمال أكبر من الزمن، لأن حقيقته بعض هباتها...

فيوم علي و فاطمة، أكبر من الزمن و أخلد من التاريخ!...

أثبتت النبوة معناها الخالد في روحية الانسان علي وجه...

و أثبتت النبوة ذاتيتها الخالدة في دم الانسان علي وجه...

فيوم علي و فاطمة، بداءة حياة النبوة الخالدة في الدماء!...

كانت النبوة ستظل ذكري فقط...


و لكن شاء الله أن تكون حياة أيضا...

فيوم علي و فاطمة، ابقاء لحياة النبوة علي الدهور!...

تضع الحقيقة الكبري خصائص معناها في النواة، لأنها تريد البقاء...

و النواة لا تختلف في خصائصها، الا اذا كان لناموس الوراثة الطبيعي أن يختلف...

فيوم علي و فاطمة، يوم بروز النواة عن مثل خصائصها في شكل آخر!.

تذهب النواة التي هي مخزون الخصائص، تتم دورتها و تعطي أشياءها...

و النبوة فكرة السماء المصلحة في محيط البشر...

فيوم علي و فاطمة، طبع لعقلية النبوة في عقل الناس!...

اجتمعت في علي قابليات لا حد لها...

و اجتمعت في فاطمة اشراقات لا حد لها...

فيوم علي و فاطمة، يوم نظر النبوة الي نفسها في المرآة!..



پاورقي

[1] سکتت الروايات عن تقدير المدة بين وقعة بدر و اقتران علي بفاطمة.

[2] راجع کتاب الرياض النضرة للمحب الطبري ج 2، ص 180 الي 184.

[3] راجع کتاب الرياض النضرة للمحب الطبري.

[4] راجع کتاب الرياض النضرة 2 ص 181 و 182.