بازگشت

يوم المدينة


كنت تري الناس في المدينة يروحون أفواجا و يغدون أفواجا، و الغبطة تملأ جوانحهم بهذا الحدث المجيد. و هم و ان لم ينصبوا «قوس النصر» حقا، فقد كان معناه في قلوبهم الطافحة بكبرياء العقيدة و كبرياء المعني، و في عزائمهم الطافحة بكبرياء الذاتية و كبرياء المجد. و كان الناس يختلطون و يتحلقون في كل مكان، و علي أفواههم كلمات ضاحكة بسر المرح المنشور، فقد كان هذا اليوم يوم الظفر ببدر [1] .

غدت المدينة، منذ هذا اليوم، بلد الدولة بعد أن لبثت زمنا و هي بلد العقيدة، و فازت بتجربتها الرائعة و خطت أبهي سطر في مجد العرب و مجد الانسانية جميعا. فلم يكن هذا النصر تسجيلا لهزيمة فريق و ظفر آخر، بل كان تسجيلا لظفر الانسانية الجديدة المحررة علي الانسانية الرعية العتيقة، انسانية الأغلال و القيود و انسانية الاستعباد الوحشي المنكر.

كان هذا الظفر في حقيقته ظفر الفكرة الجديدة و العقلية المتطلعة، و ظفر


المثالية و الأخلاق علي المادية الصارمة و الاباحية الجامحة، و كان يوم تحرير الانسان من شتي العبوديات الدينية و الاجتماعية، و يوم تجديد الانسان و انشائه انشاء آخر.

غدت المدينة في أبهاتها و أمجادها الحفيلة بلدا جديدا، فلم تعد «يثرب القديمة» التي كان كغيرها وكرا من أوكار الفكر البالي و العقلية الجامدة، التي لا لون لهما سوي ذلك اللون القاتم و كان يشيع في جزيرة العرب، و لم تعد البتة بعد اليوم مركزا للنظام الاجتماعي المتأخر الموروث من شرائع الغاب و فيه الطبيعة البربرية، و كان يشيع بشتي مظاهره في كل العالم القديم. فالشعب ضحية الطبقات و هؤلاء جميعا ضحايا فرد مستبد يلاشي كيان الأمة في كيانه، و يحول تيار النشاط في الشعب الي ما يغذي أطماعه و يشبع ميوله و رغباته.

غدت المدينة، منذ هذا اليوم، مركز الفكر الناهض المشع و النظام الاصلاحي في كل حقل من حقول الاجتماع، و مركز الدونة الجديدة الجديدة التي بدأت تنزع الأغلال السابغة عن كل انسان في كل مكان. و كذلك امتدت و انطلقت كما يمتد و ينطلق خيط النور سريعا سريعا حتي انتظمت معظم العالم القديم.

لبثت المدينة أياما مديدة و هي غارقة ببهجاتها، منتشية بما أحرزت من نجاح،فقد حملت شعلة الاصلاح و غدت رسول المدائن و الأمصار، و هي لن تتنازل عن رسالتها الي العالم مهما كلفها تبليغ هذه الرسالة من تضحيات دامية و وثبات حمراء.

احتضنت المدينة عقيدة خالدة و نظاما اصلاحيا خالدا، ثم ألفت حزبا خلاقا فدولة محررة. و كان من حظ بلاد العرب أنها شهدت لأول مرة تجربة نظام محمد الاجتماعي، و قد نجحت في حدودها و نجحت خارج حدودها، و فيها القدرة علي النجاح دائما...

كان في أفواه الناس حديث واحد كله الاعجاب، منذ تسني لفئة قليلة مؤمنة، أن تحطم حملة كاملة جهزتها مكة و تمزقت شعاعا. و خطورة النصر ترجع الي أن المعركة لم تكن من نوع المعارك التي تحدث كثيرا و تقع كثيرا، و انما كانت


صراعا بين مبدأين و عقليتين و حياتين، و قد انتهي بغلبة الاصلح منهما في كل أولئك جميعا... فشاع في الناس كافتهم نوع من الفرح العقلي كالذي يحس به رجل الفكر و هو يجهد جهده بسبيل المعرفة، و نوع من الفرح النفسي كالذي يستخف المكافح الظافر و الآمل الواجد.

و كان يمر بين جموع الناس رجلان يهوديان مطرقين في تأمل في أكثر تطوافهما، و أحيانا يأخذان بأطراف الحديث الخفيض الهامس و هما: مخيريق [2] و عبدالله بن سلام.

قال مخيريق: لشد ما يدهشني و يروعني هذا الظفر الذي أحرزه محمد و حزبه، فقد كان ظفرا سريعا و ناجحا و لا ينشب أن يتخطي حدوده الضيقة و يشمل الجزيرة كلها بنظامه الاصلاحي القويم و تعاليمه الواعية الأخاذة، حتي لقد بلغ من مدي فاعليتها أنها تحقق لنفسها الانتشار السريع دون ما دعاية و تبشير.

قال ابن سلام: لكأنك - يا مخيريق - تحس بما في نفسي و تنطق عن لساني، فاني دهش كدهشتك و مروع كارتياعك، و ما أحسب محمدا الا مفضيا الي منتهي عظيم جلل، و كل ما يبدو لي ينذرني بهذا المنتهي ان لم يكن أقل ما سيبلغ اليه.

و محمد واثق كأشد ما يكون، فقد أوجد مادة حية و صححها تصحيحا معنويا، و ولد فيها قوي لا حد لها و غذاها بتعاليم تفاعلت مع نفسيات العرب تفاعلا يكفي أن يكون بينهم وحدة في الصفة العقلية و الشعورية، كما غرس في قلوبهم طبيعة الايمان الصحيح الذي يزدري هبة العاصفات، و حرر أفئدتهم من الأساطير


و الأوهام و بلور عليهم الفكر و عودهم النظام و ألزمهم الطاعة و كلمة التقوي، فكانوا أحق بها و أهلها. و ليس يخطئني ظني في أنه لن تقوم لشريعته شريعة، و لن يثبت لقومه قوم:

قال مخيريق: هيجت و ايم اله في نفسي حديثا طالما كنت أذوده عن لساني ذيادا حتي لا يجري به و لا أراني الا مفضيا به اليك.

نظرت في شرائع العالم و نظمه علي اختلاف ألوانها و قلبتها علي شتي وجوهها، فانتهيت الي أنها تتناصر علي سحق قوي الأفراد و الجماعات و استغلالهم استغلالا أنانيا صارما. و هذه الشرائع و النظم متعاونة فيما بينها من أجل هذه الغاية التي لا تتفق بحال و الحرية الذاتية للبشر، فسبيلها القضاء علي الكفاءات و القابليات التي هي عنوان امتياز الانسان، ليحولوا دون أن يتم النشوء دورته، و بذلك يستسلم لهم القطيع.

و لقد بات المجموع البشري من تأثير هذه الأدوار في روحية مريضة للغاية، و انكفأت الجماعات تهوي في أتون التنازع الساحق، حتي لكأن البشرية في دور احتضار لا تلبث معه طويلا أن تنقلب هامدة لا حراك فيها.

فلم يعد في الأديان ما يروي ظمأ النفوس، بل علي العكس غدت الأديان مادة الظمأ، كطالب الري بالحنظل فانه لا يروي و لكنه يزيد شعورا بالحاجة الي الري. فالأديان الذاوية الكسيفة، و «الهرطقات» المستطيرة، و الأوضاع الاجتماعية الفاسدة، و النظم الاقتصادية التي أذكت نضال الطبقات بشرته المفظعة، و التداعي الاخلاقي، و يقظة الاباحية الطامسة، كل ذلك أعد العالم بقصد و دون قصد الي انتظار كلمة البناء العالمي. و لا أظن محمدا الا ذلك البناء العالمي الأعظم، و لا أظن دولته الصغيرة في حدود المدينة الا نواة تلك الدولة العالمية العامة التي ستصهر في بوتقتها الفوارق الملية و تستعلي علي الاجناس و الشيع، فالاسلام عقيدة و دولة و جنسية.

عرف محمد سلسلة الارباب المترابطة في نسق، و عرف ان البشرية لن تتحرر من هذه العبوديات المركبة المتداخلة التي تؤلف خطرا علي الفكر البشري


و بوارز الامتياز الانساني، و تغل النشاط الحيوي بما ترزح به ككابوس ضاغط و جاثوم مروع الا بعمل عنيف، و عرف أن حجر الاساس في بناية العبوديات الشامخة هي الطبقة الروحية التي تسوق الجموع الطائعة بما تسيطر به علي مناطق اللاوعي و مراكز اللاشعور. فأعمل معوله الاقدس في بناية العبوديات الراسخة التي شهدت من نوع تلك العواصف شيئا كثيرا، فمزقت رياحها المتناوحة المزمجرة و بقيت في محلها شامخة راسخة. لكن محمدا عرف سر ثباتها فسدد ضربته الاولي الماضية الي هذه الطبقة و ربوبيتها [3] و تحداها في نوع من السخرية و الاستفزاز المثير، و ما هو الا أن تزلزل حجر الاساس و خرت صروح الربوبيات التي سخرت بالزمن مذرورة متناثرة في حالة تبعثر و تراكم.

ثم وقف محمد فوق أطلالها شامخا يعلن حرية الانسان [4] و حقوقه في الاستقلال [5] الذاتي، و يعلن حرية [6] العمل و الانتاج و الجهد، و يقرر مبدأ [7] المسؤولية المسؤولية الشخصية في الحقوق و الجزاء و نظرية الجزاء للحق العام [8] ، و ينزع أغلال الفكر. فمحمد حارب الربوبية في شخص الاوثان الجامدة، و حارب الربوبية في شخص الاوثان الاجتماعية الحية، و بذلك حرر الفكر و حرر المجتمع.

و المدهش - يا ابن سلام - في منهج محمد الاصلاحي انه قام علي الزلزلة


الفكرية، ليعد النفس التي خلصت [9] من وراثاتها الي اعتناق كل مبدأ صالح، مهما بدا نابيا و المبادي ء السائدة، و يفسح للافراد و الجماعات سبيل التفكير المنطقي الهادي ء الخالي من شوائب الافكار الاولي و نزغاتها. و كذلك لم يعمد الي تصحيح الأوضاع القائمة و تغييرها فقط كما عمد المصلحون من قبل، بل قصد الي تصحيح فكرة الحياة أولا ليضمن روحية جديدة يتوقي معها الردة و الانتكاس اللاشعوريين، و كانا آفة كل اصلاح خرج عن يد المصلحين السالفين.

أولئك كانوا يصححون الأوضاع و يشيعونها في المجتمع، و روحية الجماعة لم تزل غارقة في الاوحال و الأمراض و لم تزل تالفة أشد ما يكون التلف. فلا تلبث الاوضاع أن تفسد بفساد روحية الجموع و يقع الانتكاس في المجتمع و تعاوده الحمي، و يكون المصلح لم يزد عن انه نجم التمع فجأة ءثم ابتلعه خضم الليل الحالك... و لكن محمدا لم يكن من طراز هؤلاء، فقد صحح فكرة الحياة و روحية الجماعة أولا ثم صحح النظم و الأوضاع، و بذلك ضمن سلامة المجتمع أبدا، و وقي الكائن الاجتماعي من الانتكاس و الحمي.

فمحمد لم يصنع أمة في عداد الامم بل صنع أمة في عداد الرسل الي كل كل الامم، و أكبر ظني أن امته ستنطلق في جسم العالم المتداعي كما تنطلق العصارة و فيها الحرارة و الحياة و الحركة. فهذا اليوم - يا ابن سلام - بداءة دنيا جديدة و أول يوم من تاريخ عالم جديد، فقد استدار الزمان و بدأ يخط دورة أخري كما أراد محمد أن تكون، و كذلك يفرض المصلح نفسه علي الزمن.

قال ابن سلام: أراك - يا مخيريق - تتكلم كلام من استهوته رسالة محمد و ما أبرئك، و مع ذلك فاني أنصفك بأنك. تجاوز المنطق في دائرة أولها الفكر


و آخرها الحس. و لقد شاءت لي الظروف أن أجتمع ببعض من أتباعه، و هو و ان لم يكن له جلاء منطقك و دقة تحليلك فقد غمرتني روحيته و لعبت بي تياراتها، و ما أحسب نفسي أقل انجذابا منك.

و أذكر اني سمعت آية [10] تدعو الي الايمان العقلي من قرآن محمد، و ما هي الا أن تمددت في قلبي و عقلي جميعا، فتمددت لها نفسي و أخذت طريقها الي ما وراء القوي الواعية، و مضت تفعل فعلها تارة في الفكر و تارة في مذاهب الشعور، حتي انتهت بتركيز فلسفتها علي و تركيزي عليها، و اذا بي أحس احساسا وجدانيا بأنها فلسفة ينبغي أن أعهدها في أول ما أعهد من قضايا العقل، و اذا بي احس احساسا عقليا بأنها كل المنطق حتي لم يعد لي معدل عن أن تكون مقدمة الفكر.

و العجب - يا مخيريق - ان محمدا عالج قضايا الدين و العقل و الحياة و الاجتماع، و أعطي حلولا هي ما ظلت الانسانية تائهة عنها و عبثا تندشها. و لعل أعظم ما يستوقفني و يغريني حله لمعضلة الاديان فهو لم ينقضها بل صححها من الطفيليات العالقة عليها، فان في كل دين قضايا الحق الاولي و قد تناولها كل قبيل بنوع عقليته و ما ثبت فيها فلونها بلونه، و مازال يلبسها و يضيف اليها و يحمل عليها حتي اختفت قضايا الحق وراء أستار صفيقة، و غدت كاللباب تحجبه قشور قاسية. و الذي يثبت في عقل الجماعة مظاهر الأشياء دون حقائقها المحجوبة، فوقف ايمان الجموع عند حد المظاهر و عمل التاريخ عمله في هذا الايمان فتحجر عليها، رغم أن هذه المظاهر و الأشكال ليست سوي انعكاس من وراثات القبيل.

و لكن محمدا استطاع باعجاب أن يكشف قضايا الحق الاولي و أن يبصر مكانها في كل دين رغم كل الاستار الصفيقة، فأعلن للناس علي اختلافهم وحدة الاديان و ان قضايا الحق الاولي واحدة في كل دين، و هي لا تتغير الا اذا تمني لناموس الطبيعة أن يتغير، و أعلن أن ما يتوهمه الناس لبابا هو قشور فقط، و بضربة حطمها، و أعطي تحديده الدقيق للدين الجديد. فكان عمله و جهاده فقط في


تجريد قضايا الحق مما ران عليها و علق بها، أو رد الناس الي حقائق دياناتهم، التي أفسدها النضال الطبقي و القومي و أفسد كل مجتمع من ورائها، رغم أن الاديان ما جاءت الا لمحو هذا النضال.

و كما قلت - يا مخيريق - ليس من الممكن للمصلح، اذا أراد البناء المكين، أن يتجه الي العقل الملوث المنحرف و الفكر الغارق بالأوهام و يحمله رسالته، بل لابد من مهاجمة هذا العقل و هذا الفكر حتي اذا تطهرا اتجه اليهما من جديد و ذهب يبني، و بعبارة أصح ذهب يخلق، و كذلك فعل محمد و كان له ميزة علي المصلحين، و ينبغي أن نعرف أن محمدا لم يكن مغامرا يتستر بخطة الاصلاح، و انما كان مصلحا دفع المغامرة في طريق الاصلاح. و بينهما أن أولهما أناني بلحمه و دمه، يطلق العاصفة كعملاق و يدفع الجموع الي التواثب فوق القمم، و زلة في العاصفة تترك الجموع في فضاء الهاوية طيورا تحوم في المنحدر السريع السحيق، و دائما ينتهي بالتهديم ليقف من بعد علي أطلال الأشلاء مسخا جاحظا متقلصا. و ثانيهما يري في شعوره و ضميره، يضبط العاصفة و يصرف مخزونها فيما يعود علي المجتمع بالانشاء و توفير القوي و الطاقات، و دائما ينتهي بالبناء ليقف و أتباعه من بعد علي القمم.

قال مخيريق: لله كم تفعل العقيدة في النفوس، فانها تصنع من الضعف قوة و قوة لا حد لها. ألا تري أصحاب محمد كيف غدوا، بفضل العقيدة الخلاقة، قوة لا تتصل بالضعف بعد أن كانوا ضعفا لا يتصل بالقوة... و هذا صحيح فان الفكرة تصنع الحياة و الحياة تصنع القوة، فلا قوة بدون فكرة تقذف الطاقة و الحياة جميعا.

بلغني و انا مما بلغني في عجب، اخالك تعرف فتي قريش و طالما شاهدته هنا في المدينة، و هو من ينعتونه بحامي الاسلام «علي بن ابي طالب»، بلغني انه كان من استبساله و تفانيه في نصرة مبادي ء هذا الدين الجديد، ما جعله في بدر الكبري أمة من الابطال كأنها تنطلق في كل مجال اذا انطلق، فمن كل وجه علي،


و من كل صوب علي نفسه، حتي لأجد علي كل لسان: ان فتي قريش هزم الجموع من قريش.

قال ابن سلام: أذكر اني أعرفه و أذكر أن له سيماء ناطقة بالصلابة و العزم القصي، و رغم حداثته فقد قذف في روعي أنواعا من التجلة و أنواعا من الاسر، حتي لا حسبني بت مأخوذا عن نفسي ساعة بشي ء لا أفهم كنهه و هو ما يسمونه سحر الشخصية.

و أذكر أن حديثه اليوم علي كل لسان، و هم يشفعونه باعجاب طائف ممدود، (أليس الذي فعل الأفاعيل بقريش)، هذه عبارتهم التي لا تكاد تسقط من حديث أحد عنه، حتي غدت تقليدية و طبيعية. قال هذا، وسكت مطرقا و يده تداعب جبهته كالذي يريد أن يتذكر شيئا أقدر انه خطير، و علي فجاءة نقر جبهته نقرة شاع سرورها في مقلتيه و أساريره.

قال: يا مخيريق سأخبرك خبر فتي قريش يوم تزمل في فراش محمد ليلة الهجرة ايهاما عنه... قال مخيريق: اذكر اني سمعت شيئا من ذلك... و مضي ابن سلام في حديثه: انها مغامرة يظنها البسطاء دون استبساله في معركة بدر، لكنها عندي من وجهة العقيدة أعظم شأنا و قد لا يعد لها موقف. فان الاستبسال قد تولده حماسة المشهد و أصوات الجموع المائجة، و قد تولده خيلاء الذاتية في موقف لا مفر من الظهور فيه، و كثيرا ما بدلت هذه المشاهد نفسية الجبان، كما لا تدل علي أثر العقيدة دائما.

و لكن تلك، هي مغامرة العقيدة المجسمة، فقد كانت تعريضا للنفس دون تذرع، بأسباب الدفاع، و بكل هدوء، فليس فيها انفعال عنيف ينسي المرء ذاته و يدفعه الي عدم المبالاة دفعا قسريا، و هي مغامرة ان كانت تعبر عن شي ء فانما تعبر عن نسيان الذات علي كل حال، بفاعلية العقيدة وحدها التي طغت علي كل المشاعر و استبدت بها. ان التضحية رهيبة - يا مخيريق - دائما، و لكنها أرهب ما تكون في المواقف الهائدة التي لا تثير الاعصاب بشعور غير عادي.


ان محمدا عرف كيف يجعل النفس العربية مؤمنة ذات آفاق في الايمان، فكانت بذلك قوية ذات آفاق في القوة. خصوصا و ايمان محمد يجعل المرء لا يري في حدود الايمان و يري الايمان في حدود كل شي ء، كتلك الفراشة التي أسلمها المصباح اليه فهي لا تحول عنه و ان كان في ذلك أنها تحول عن الحياة. و بهذا صغرت الدنيا و الحياة و فكرة متاعهما في قلب أصحابه، لأن عقلهم لم يعد ينبعث من حدود غرائزهم بل من حدود تعاليمهم. و الاعتقاد نفسه غريزة طبيعية، و بين الغرائز كما بين سائر الأشياء تناحر علي الظهور و البروز، و أكثر ما تتم الغلبة للغرائز الدنيا لانها أدخل عضويا في تركيب الكائن الحي، و لا تتم الغلبة لهذه الغرائز البتة الا و تشد اليها العقل و القلب، فيفسد العقل و ينحط القلب.

فعمل المصلح ينحصر في تنشيط غريزة الاعتقاد لكي تسيطر بروح الايمان الجديد، و هي تشد العقل و القلب اليها يصل العقل و يسمو القلب، حتي الغرائز الدنيا تصبح دنيا بمعني جديد. في لا تنبعث في شهوة الجسد بل في شهوة الروح المركزة بالايمان، و ان شهرة الروح الشعور بذاتيتها العليا في الفطرة و الأخلاق و الاجتماع، و لا يزال الايمان يعمل عمله حتي يجعل في الغرائز عقلا و في الشهوات ارادة و أخلاقا. فمحمد صح نفوسا و أوجد مادة مؤمنة تنطلق كما ينطلق القدر الواقع الي مصيرها و غايتها، و هي بهذا الشعور مجتمعة كمثلها متفرقة، فقلب الجماعة شعور متجاوب بين قلب و قلب.

و يعجبني في فتي قريش أنه يملكه ايمانه حتي في أحرج ما تكون رهبة النفوس، و قليل هم الافراد الذين يملكهم الايمان، و هذه ميزة أصحاب محمد، بينما الآخرون يحاولون أن يملكوا الايمان، وفاتهم ان الايمان اما أن يكون كل شي ء في النفس و اما أن لا يكون شيئا فيها، و الفرق بينهما كالفرق بين من يصرفه الايمان و بين من يتصرف به.

قال مخيريق: لشد ما تفعل العقيدة في النفوس، و لله أنت يا محمد كم هي أخاذة تعاليمك... قال هذا، و سكت يفكر في أمر يبدو مهما، و لبث طويلا يحاول أن يجد النقطة التي يبتدي ء منها الحديث، فاطرد ممعنا يقول:


يسرني اننا متفقان في الفكرة و الميل، و لكن ما الذي يحول باليهود عن محمد رغم ما يعلمون أنه سيغمرهم لا محالة، فاذا طاولوه كان لهم منه يوم كيوم «بختنصر»... و كان مجرد ذكر بختنصر كافيا لبعث آلامه القومية الدفينة، فتغشته سحابة حزن و لكنه و اصل حديثه:

أعرف أن قومنا شردوا مرارا و اضطهدوا مرات و من شعوب مختلفة، فحقدوا علي كل امة و تآمروا بكل مجتمع، و بثوا روح الانتقام في كل تصاريفهم متخذين كل شعب هدفا، غير مفرقين بين قبيل و قبيل. و بذلك أخطأوا في عدم تحديد التبعة الذي اكسب نفوسهم صفة الغل السحيق و أفقدهم رغبة التعاون مع الآخرين، وصفة التبادل المخلص حتي مع قوم لم يكن منهم الا الاحسان اليهم، كهؤلاء العرب الذين احتضنونا بينهم و أحلونا محل أنفسهم و اختصونا بأنواع من العطف في هجرتنا الاولي [11] و الثانية الي جزيرتهم.

قال ابن سلام: ان ما ذكرته سبب، و لكن وراءه أسبابا أكثر فاعلية فيما أعتقد، حتي لقد جعلت روحية اليهود من سوء أثرها البارز في كل دور معضلة اجتماعية؛ و عناصر هذه الروحية كما أحس:

أ - المادية: التي استهوتهم استهواء فظيعا و حللت معنويتهم الي درجة جعلتهم لا يتورعون عن استخدام أسمي مثالياتهم و مثاليات من يحلون بينهم بسبيل المطامع، و لا يعوقهم عنها أنها دنيئة أحيانا. فكان لهذا أثر في توليد صفة الجشع و الشره و الافتراص، و حين تكون المادية هي مثالية الامة فقد باتت خطرا و شكلت معضلة دائما.

ب - طبيعة التطفل: حق للفرد أن يجني ثمرة جهده، و حق للجماعة أن تجني ثمرات جهودها، و أما ان يجني المرء ثمرة جهد الآخرين فهذا عدوان منكر. و الحياة قائمة علي الجهد فمن لا يجهد لا يحي. هذا منطق الطبيعة، و خفف المصلحون من حدته بالتعاون الذي يحفظ توازن الطبقات، علي شكل ما تري في تعليم محمد


الجديد في نظام الزكاة و الصدقات و الكفارات. و اليهودي من طبيعته انه لا يبذل جهدا يوازي الفائدة، بلي يسعي الي أن يستحوذ علي أكبر فائدة بأقل مجهود. و هذا لا يأتي الا عن طريق التطفل علي جهد الآخرين و استغلالهم. فتولدت بينهم طبقات المرابين و المضاربين و ما شاكلهم، و هؤلاء جميعا يشكلون في النظر الاجتماعي بيئة طفيلية شديدة الخطر علي سلامة أي مجتمع كان.

فاليهود طفيليون يمتصون المجتمع بشتي الطرق و الوسائل كالهوام التي تطلب حياتها علي جسم حي، و لذ لهم هذا الطريق الهين فألفوه و افتنوا في أشكاله مستفيدين من الوسائل الخاصة بكل عصر.

ج - الفوضوية: عرف اليهود أن وسائلهم للامتصاص لابد أن تنكشف ما دام المجتمع في حالة من الهدوء، فأخذوا أنفسهم بايجاد أسباب الاضطراب و الفوضي، تارة باختراع مذاهب دينية و محافل سرية، و آونة ببث مبادي ء اجتماعية حديثة، و أخري بتزيين الحروب. و ثبتت هذه الفوضوية فيهم طبيعة حتي غدوا مادة الفوضي و الثورات في كل مجتمع.

من هذه العناصر تألفت الروحية اليهودية.

و اليهودي قد يصلح اذا ارتد الي الارض، و فارق صفة التجواب التي تجعله لا يخلص لأمة مهما عاش بينها، و استرد مثاليته الضائعة. ألست تلاحظ معي ان «بني قريظة «المزارعين أكثر ميلا للتعاون مع محمد و دولته الجديدة من «بني قينقاع» المرابين؟

قال مخيريق: بلي نعم ما تلاحظ... و مضي ابن سلام في حديثه: و لست أتردد البتة في أن هذه الروحية البغيضة هي التي تحول بين اليهود و محمد الذي حارب هذا الخليط المنكر في روحيتهم.

قال مخيريق: ألا تجيبني الي أمر قد يحقق فكرة انقاذ الشعب اليهودي التائه، و انتشاله من أوحال المادية الصارمة التي لا تلبث أن تقضي عليه و تحطمه؟ فأنت


حبر اليهود و لك محلك و مقامك ولي منزلي و مكاني، فتنضم و أنضم الي حزب محمد، فنضعضع من قوة موقفهم السلبي تجاه الحركة التحريرية المنقذة، و لابد أن نترك بينهم أثرا يكفل لنا عددا ان لم يكن اكبر عدد، خصوصا و نفسية الجماعة سريعة التردد سريعة الاستسلام.

قال ابن سلام: هذا ما فكرت فيه، و عقدت العزم عليه، و كأن القدر ساقك لتشجيعي...

و علي ذلك افترقا... فمضي مخيريق في الطريق المؤدي الي المسجد، مركز الدعوة و الدولة... و تمهل ابن سلام حتي يجعل لدخوله صدي أوسع انتشارا و أشد وقعا. و لكنه ظل شاخصا في اكبار لتصميم مخيريق الذي هو دليل النفس الكبيرة، و في اعجاب بمنطقه الدقيق الذي هو دليل الفكر النابغ...

الاسلام عقيدة و عمل و حياة و نظام...

و له في الأفراد و الجماعات تفاعلات علي أنحاء أربعة...

تتفاعل العقيدة فيه مع الاوهام العالقة بالفكر، فيغدو فكرا جديدا بمنطق جديد...

و يتفاعل العمل فيه مع الجهد المبدد، فيغدو جهدا منتجا...

و تتفاعل الحياة فيه مع الحياة المغللة الكاسفة، فتغدو طلقة شامخة...

و يتفاعل النظام فيه مع النظام المحموم، فيغدو انسانيا صحيحا...

و الاسلام بعد ذلك فكرة و اعداد،

و بينهما تتولد علي الدوام الامة و الدولة و المجتمع...



پاورقي

[1] مناسبة هذا الفصل من حيث ما ورد في الروايات من أن زواج علي بفاطمة کان بعد وقعة بدر الکبري، فمهدنا بهذا الفصل لفصل يوم القرآن....

[2] هو مخيريق النضري الاسرائيلي. قيل من بني‏قينقاع و قيل من بني‏القيطون. و ذکر الواقدي و البلاذري أنه کان عالما و أسلم. قال لليهود يوم احد: ألا تنصرون محمدا و الله انکم لتعلمون أنه نصرته حق عليکم بمقتضي المعاهدة. فقالوا: اليوم يوم السبت. فقال: لا سبت. و اخذ سيفه و لحق بالنبي فجرح جراحا قاتلة، فلما حضره الموت قال: أموالي الي محمد يضعها حيث شاء. راجع الاصابة لابن‏حجر العسقلاني ج 6، ص 73.

[3] قال تعالي (تعالوا الي کلمة سواء بيننا و بينکم ان لا نعبد الا الله و لا نشرک به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) سورة آل عمران.

[4] قال تعالي (فحشر فنادي. فقال أنا ربکم الاعلي، فأخذه الله نکال الآخرة و الاولي) سورة الذاريات. و قال (فاستخف قومه فأطاعوه) سورة الزخرف. و قال (لست عليهم بمصيطر) سورة الغاشية. و قال (ربنا انا اطعنا سادتنا و کبراءنا فاضلونا السبيلا) سورة الاحزاب.

[5] قال تعالي (لها ما کسبت و عليها ما اکتسبت) سورة البقرة. و ينبغي ان يلاحظ ان القانون العام يخضع للقانون الادبي.

[6] قال تعالي (و ان ليس للانسان الا ما سعي. و ان سعيه سوف يري. ثم يجزاه الجزاء الاوفي) سورة النجم.

[7] قال تعالي (و کل انسان ألزمناه طائره في عنقه) و قال (و لا تزر وازرة وزر اخري) سورة الاسراء.

[8] قال تعالي (و لکم في القصاص حياة يا اولي الالباب لعلکم تتقون) سورة البقرة.

[9] قال تعالي (و اذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو کان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون) سورة البقرة. و في هذه الآية تحرير للعقل من الوراثات و دعوة الي نقدها علي ضوء المنطق و الفکر المجرد، و بذلک قضي القرآن علي الوراثات کأساس للفکر و حکم العقل بها فلم يشجب القديم الموروث مرة واحدة بل القديم الذي يصطدم بالمنطق في سنة النشوء و جاء تحريره للعقل من حيث انه قضي عليها کأساس للفکر.

[10] قال تعالي (قل هذه سبيلي ادعو الي الله علي بصيرة انا و من اتبعني) سورة يوسف.

[11] راجع کتاب: «تاريخ اليهود في جزيرة العرب» للدکتور و لفنستون.