بازگشت

مقدمة


لم أقصد في هذه الحلقة الثالثة من سيرة الحسين الي التاريخ الا فيما يدخل في حد تصحيح الرواية أو الخبر، و اما ما وراء فقد أوسعت تحقيقه و درسه في الحلقة الثانية التي خصصتها بالوجه التاريخي المحض و ما يدخله من قرب أو بعد، لكي يتسني للمطلع أن يتصل بالشخصية التي يدور البحث عليها اتصالا تاما يخوله أن يصدر حكما بسلب أو ايجاب.

و حاولنا هناك أن نتفهم حركات الحسين، بالاضافة الي عوامل العصر التي لابد أن تقيد مجاري التاريخ، ان للجماعة أو للافراد.

و هذه العوامل التي هي مصدر ألوان الزمن، نسميها تاريخا حينما تقع في المكان و تحرك الجموع علي ما استنت من اتجاهات وحددت من مذاهب. و بدونها لا نفهم من التاريخ الا أنه تكرار لحركات مبهمة لا تعبر لنا عن شي ء يدخل في حد فائدتنا.

و يكون الغرض من التاريخ قد ضاع، حين لا يتسني لنا أن نصل الجانب الواقعي من الحياة التي نعيشها بالجانب التاريخي، فان الحياة كلمة مؤلفة من الواقع و التاريخ جميعا و ان الجزء الأهم فينا، جماعات كنا أو أفراد، تاريخي محض،


و مادمنا لم نستطع أن نصل ما استوي فينا من الواقعية بما استوي فينا من التاريخية، فلن تكون لنا فائدة من التاريخ.

بيد اننا نشعر بالحاجة الي التاريخ، حتي ليخيل الينا ان لدي الانسان، طفلا و شيخا، حاسة سادسة تاريخية تلح فيه بحاجتها و تشيع في دخيلته اطمئنانا مشفوعا بتلبس للقصة، كأنما هو يسمع حكاية نفسه أو كأنما انتقل عبر الزمن الي حيث يكون الزمان الموهوم و تقوم وقائع الماضي.

و هذا الميل في الانسان يرجع عندي الي ما استوي في مزاج النفس و وحدتها من الجزء التاريخي، فاذا صادف ما يبعثه تحرك بقوته و أخضع المشاعر لمده في نوع من الهيام و الحنين، و في نوع من الاحساس العميق بأنه شي ء يتصل به اتصالا ذاتيا كأنما مر عليه منذ بعيد.

و هذا يبيح لنا أن نستنتج أن الانسان الفطري - أو بعبارة أشمل الانسان الذي لم يكون له تاريخا - يفقد هذا الجزء، و لذلك هو لا يتحسس بهذا الميل أو النزوع.

و عليه ففقر القصة أو عدمها في أدب أمة ما يرجع الي ضعف هذا النزوع، الي عدم توافي الجزء التاريخي فيها و استوائه. و هذا ظاهر لدي عرب الجاهلية الذين لم تكن القصة تستهويهم استهواء يجي ء في درجة شهوات النفس أو الجسد الأخري. بينما نجد القصة بدأت تبرز في أدب العرب الذين استقروا و كونوا لهم تاريخا نوعا ما، كالحيريين في عهد المناذرة، و الشاميين في عهد الغساسنة، فتولد لديهم الميل الي قصص التاريخ. و لعل في الظاهرة الآتية ما يقطع كل ريب في صحة هذا الرأي، و هي أن القصة المركزة لا تكون الا حيث يكون للامة تاريخ منوع.

فالعرب عادوا بعد التاريخ الي تذوق القصة، لانه توافرت فيهم لذة الاستماع التي يبعثها الجزء التاريخي في النفس، و قد قويت هذه اللذة دراكا مع التاريخ، و تقوي كذلك في كل أمة و قبيل.

و نحن نلمس في عصرنا الحالي ميلا أشد الي القصة حتي كادت تتميز باسم


الأدب و تستبد به عما سواها؛ و لقد قال بعض الناقدين: ان الأدب هو القصة في القرن العشرين.

و أما الشعور بكلية الحياة و الشعور بأن التاريخ و القصص يعبران عن معان مشتركة اللذان يعلل يهما عادة الميل الي القصة، فقد تولدا بلا ريب بعد التاريخ. فان هذين الشعورين نتيجة تجربات و مقارنات قام الانسان بها بين نفسه و بين الماضين، و أدرك هذه الصلة و تحقق من كلية الحياة بعدها. فتعليل الميل الي التاريخ و القصص بهذا الشعور التجريدي الكلي، تعليل بالسبب المنفعل دون السبب الفاعل الحقيقي.

و هذا الرأي الذي نعطيه في بواعث القصة و لذتها و تعلق الجمهور بها، حتي وصلت الي درجة أن تصبغ الادب و تسيطر عليه بصبغتها، حقيقي جدا... و انا أشعر بحاجة الي الزيادة من ايضاحه لأنه يصحح جملة الأوهم و طائة الأخطاء الشائعة في الموضوع.

لا ريب في أن الانسان الذي أسلمه التاريخ الي العصور يمتاز بحاسة تاريخية خاصة، تفصله عن الانسان الذي أسلمته الطبيعة الاولي و الذي انبثق من يد الله. و هذه الحاسة تزداد عملا في الانسان بازدياد عمل التاريخ فيه و تنبه العصور في أعماقه، و الميل الي التاريخ أو القصص وليد وجود الحاسة المذكورة و توافرها، و هو أي الميل يتفاوت علي مقدار تفاوت الجزء التاريخي في الكائن البشري. و من الخطأ الظن بأن ميل الانسان الي القصص فطري أو عفوي، بل هو نتيجة تلبد أجيال من التاريخ في جوهره النفسي و مده بايحائها. و هذه الحاسة التاريخية الحية تتطلب غذاءها و تكون في بعض من الشعوب نهمة و نهمة الي حد كبير، و لكن هذا النهم ليس متروكا للعفو و الطبيعة العرقية بل هو خاضع لسنة نسوئية خالصة مادامت الامة قد اتصلت بالتاريخ و اتخذت خطواتها فيه.

و هذا الرأي ينتهي بنا الي تفسير: لماذا كان أدب اليونان فقيرا من القصة في جاهليتهم؟...


و لماذا أثروا بالقصة بعد التاريخ؟

و لماذا كان أدب العرب كأدب اليونان فقيرا منها في الجاهلية، ثم أثري بها بعد التاريخ حتي بلغت قمتها في الف ليلة؟

و لماذا بلغ نهم الحاسة التاريخية بعد ذلك في الجمهور العربي الي درجة لم يثبت أمامها نحو من الادب و الفن، كما تشهد بهذا قصة حب علي بن آدم و البخلاء و رسالة الغفران و الزوابع و التوابع وحي بن يقظان و المقامات و أحاديث ابن دريد الاربعون و مصارع العشاق، و أعطت عصور النهم قصص عنترة و أبي زيد الهلالي و الملك سيف؟

و لماذا زاد الميل الي القصة في الأدب الاوربي الحديث عنه في القرون الوسطي؟ و نحن انما نحصر نظرنا في الادب دون أن نلتمس أنحاء أخري، لأن الادب أكثر استجابة الي رغبات الجمهور و تطلع المحيط، و هو الي ذلك يتلون بمختلف الالوان و يحفظ بتلونه تراوح العوامل التي أثرت فيه.

فعدم وجود أدب القصة في أدب العرب الجاهلي، معناه عدم ميل الجمهور اليها أو ضعف هذا الميل عنده التابع لضعف الجزء التاريخي في مزاج النفس و وحدتها.

فما ذهب اليه اذا مؤرخو الآداب من اسناد خصائص و استعدادات مزاجية لبعض الشعوب دون بعض اقتضت ذلك، خطأ محض. ناهيك أنه تعليل غارق «بأوهام الكهف [1] و السوق» علي ما يسمي ذلك «بيكون» في منطقه الجديد، كما أنه تعليل يعطي في كل مثال [2] رأيا و لا يقوم في قانون يبين العلاقة الموحدة


بين حادث السبب و حادث الأثر.

و القصة علي أي حال و باطلاق لا يمكن أن تنشأ الا في أمة اجتمع لها تاريخ منوع و مر بها زمن كان كفيلا بتزويد الافراد بحاسة تاريخية تجعلهم يتذوقونها و يميلون اليها.

و هذا الرأي الذي نقرره يكشف، عدا الخطأ المذكور، عن كثير من الأوهام التربوية التي جنحت الي القصة كأسلوب للاطفال بتعميم خاطي ء. بل لابد لسلامة التطبيق من مراعاة مرور الزمن و قيمة هذا الزمن في توفير الحاسة التاريخية في الوسط المشترك للطفل و تفاوتها. و قد ينتهي بنا هذا الرأي الي اخضاع الأسلوب التربوي للقصة لمن هم فوق الطفولة، اذا كانت الحاسة فيهم أكثر تحكما و اقتيادا.

كما يدلنا علي السبب الصحيح لاخفاق أدب القصة لدي بعض الشعوب، و السبب في عدها نسيجا أعلي عند بعض الشعوب الأخري، و أيضا يدلنا علي أن العناصر التي تلزم لتذوق القصة تتفاوت الحاسة المذكورة. و القصة في نظري لا فن لها و لا عناصر قاعدية الا نسبية فقط، فهي محدودة بالزمن و المكان و الكائن. و المحاكاة أو الاحتذاء و هم و بعد عن فهم ما ثبت في جوهر النفس المتحول الذي يمسح الفن بتهاويله و يمد الادب بالحياة و الروح.

فالدعية الخفية فينا الي التاريخ و القصص التي نحس بها ظامئة علي الدوام متطلعة علي الدوام، هي وليدة ما استحال في جوهر النفس من أشياء الماضي المتلبد، و تمدد في بنائه كهلاميات عاملة حية. و اذا ثبت أن فينا جانبا تاريخيا، فلا منقلب لنا عن أن نتفهم وقائع الماضي كتاريخ، و أن نتصل بالمشاعر التي سيطرت فيه كعرض و قصص، و بذلك يظل التاريخ مادة حية شاعرة.

و استواء الحياة في الحاضر انما يقوم علي دوافع الماضي و جواذب المستقبل، فلا فلا جرم أن كانت بنا حاجة الي التاريخ التعليلي من حيث نتصل بالمؤثرات


الحقيقة، و داعية الي التاريخ الوصفي من حيث نري الصور المختلفة التي طفت علي سط الحياة المحتجبة.

و نحن في هذه الحلقة نحاول عرض حياة الحسين في شي ء من القصص الواقعي الذي لابد أن ينبه فينا كامن الحس بما يبث من الايحاء الصامت، و يهيي ء جوهر النفس لما سماه «تولستوي» عدوي الشعور،و هو ذو أثر بعيد فعال في تكوين الشخصية الممتازة.

و قصة حياة الحسين لا تدعنا نخرج بتأمل سلبي تختلط فيه الدهشة بالاعجاب فقط، بل تزودنا بما يدعونه «الاشتراك في الوعي» أي بتأمل ايجابي يجعل فينا اشتراكا في الصفة الشعورية.

و كذلك تستحيل النفس الانسانية استحالة أخري بما أسميه «عدوي التاريخ». فعلينا لذلك أن نعرف كيف نستثمر التاريخ مثل قوة تنصب في شرايينا و عروقنا، و كيف نحول تياره المبعتر في اللج الباهت ليزيد حياتنا حركة، و حاضرنا اندفاعا و مضاء.

و الحسين شخصية ايمان و مبادي ء، و شخصية دعة و سلام، و لقد أرانا في كل جانب ألوانا.

فكان جزء من تاريخه عقيدة، و الجزء الآخر جهادا؛ فكتب الخلود له، و كتب علينا أن نأتم به لنجرب ايماننا في الجهاد و جهادنا في الايمان.

و أية شخصية هي أحفل من شخصيتنا التي ندير الحديث عليها بمعنوياتها و فعالياتها، و أيها أحظي بآثارها، فلم يكن لنا معدل عن أن نتوخاها و نستفيد منها في الذكري، كما استفدنا منها في الحياة.

و لست أزعم لنفسي شيئا من الفضل و ان جهدت في تفهمها زمنا غير يسير، فانني كلما أوغلت فيها رأيتني أحوج ما أكون الي ابتداء درسها مرة أخري بمعني جديد. و كذلك ستظل ينبوعا يرده الصادي و هو يجد في كل رشفة معني و لذة و نكهة، ثم لا يحور معناها و لذتها و نكهتها في مذهب احساسه و شعوره.



پاورقي

[1] يعني بالکهف شخصية الفرد التي تکونها الطبيعة و البيئة و التغذية و التربية. و لما کانت تلک العوامل مختلفة باختلاف الافراد کان لکل انسان نزعته الخاصة و اخطاؤه الخاصة. و يعني بالسوق عقلية الوسط و لها اوهام تنحل في تفهم الافراد و تعقلهم.

[2] من مثل تعليل فقر الأدب العربي من القصة بعدم استعداد العرب الطبيعي لها، و تعليل القص عند بعض الأدباء العرب في العهد العباسي بالتأثر الأدبي و الدموي، و تعليل ظهور الف ليلة بالمزاج الأدبي الخليط، و تعليل القوة و الضعف في القصة عند الأمم المستعدة لها في مزعمهم بتعاليل شتي لا تستند الي تعليل يقوم علي مؤثر واحد.