بازگشت

انقلاب


نستقبل في عهد الدولة الاموية تجديدا يشمل الاوضاع كافة و يتصل بجوهرها، حتي بات منه المجتمع العربي في شكلية لا عهد له بها، ثم لا تتصل بالعهد الغابر الا اتصالا خفيا فيه كثير من الغموض. فهيئة الحكم و طريقة الاجراء و الادارة و قاعدة العمل العام، لم تعد كما كانت.

و نحن قدمنا - في فصل القديم و الجديد - ان الميل الي التجديد و اعتناق اشيائه ظهر في اوائل عهد عثمان اي في اوائل حكم الامويين، ضرورة الاحتكاك بنظم الامم المختلفة التي غمرها الاسلام و صهرها في بوتقته، و لكن هذه النظم لم تزل فيها حيوية و صلاحية للبقاء، و الامة الجديدة ساذجة بعض الشي ء او في حكم الساذجة، لذلك افسحت لنفسها مرة اخري بان تعيش.

و الامويون، نظرا للاستعداد النفسي الذي لم تصقله العقيدة كثيرا، كانوا اكثر جنوحا الي محاكاة هذه النظم التي هي جديدة بالنظر الي العرب، فلما آنسوا من انفسهم القوة، و جمعوا مقدرات الحكم في ايديهم، و عطلوا حرية الشعب، و قضوا علي رقابته، مالوا بكليتهم الي فرض النظم المقتبسة، و اتصل هذا التجديد بالشعب، فسرعان ما تغير و تحلل و طلب الحياة في الهواء الطلق كما يقولون.

و ساعد الشعب علي سرعة التحلله أن أكثر رجال القديم ذهبوا ضحية الصراع


الثوري العنيف، فالجمهور الباقي يتألف من الشباب وحدهم و خليط من الامم المنحلة، فكان لديه الاستعداد التام لحركة انقلابية من هذا النوع. فالادبية الاسلامية اذا اصيبت بانحراف كبير، ان لم نقل ان الحياة العامة خرجت عن قاعدتها. و هذا ما يعلل تفشي المجون في مهبط الوحي، و انتشار الحياة اللاهية المفتونة هنا و هناك. و لعل في درس حياة يزيد و صنوف اللهو التي دخلتها، و هو في بيت الملك او الخلافة - يشاؤون تسميته -ما يوقفنا علي مدي التجديد الجارف و الانحراف الذي شمل الدولة الاموية او قام معها اول ما قامت،

الي ان توارت في استخفاء ابدي. و في رسالة القيان للجاحظ اقاصيص كثيرة ترينا الوانا من العهد الجديد الذي هو انقلاب و ليس تجديدا فحسب بالمعني المفهوم من هذا اللفظ.

امام هذا التجديد الذي انحرف بالحياة عن سنتها الخاصة التي وضع النبي (ص) طريقتها، و ثبتت في نفوس افراد كثيرة و جماعات كذلك، وقف الحسين (ع) كمنتقد و متهم، و كان يرفع الصوت بالانتقاد الصريح في المناسبات التي تعرض؛ فحينما قتل عدي بن حجر كتب الحسين الي معاوية كتابا سيظل علي التاريخ سجلا لعبث السلطة، و انتقاد الشعب الذي يأبي الا ان تكون له الرقابة الممنوحة له من قبل الله.

و من الخير اثبات هذا الكتاب بنصه لانه يدلنا علي اكثر الاشكال التي اصطنعتها السياسة الاموية طريقة لها، قال [1] :

(اما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه انه انتهت اليك عني امور انت لي عنها راغب، و انا بغيرها عندك جدير؛ و ان الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد اليها

الا الله تعالي.

(اما ما ذكرت انه رقي اليك عني، فانه انما رقاه اليك الملاقون المشاؤون بالنميمة


المفرقون بين الجمع؛ و كذب الغاوون. ما اردت لك حربا و لا عليك خلافا، و اني لا خشي الله في ترك ذلك منك، و من الاعذار فيه اليك و الي اوليائك القاسطين: حزب الظلمة.

الست القاتل حجر بن عدي اخا كندة و اصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم و يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و لا يخافون في الله لومة لائم؛ ثم قتلتهم ظلما و عدوانا، من بعد ما اعطيتهم الايمان المغلظة و المواثيق المؤكدة، جرائة علي الله و استخفافا بعهده.

أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي ابلته العبادة فنحل جسمه و اصفر لونه؛ فقتلته بعدما امنته و اعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

او لست بمدعي زياد بن سمية المولود علي فراش عبيد ثقيف، فزعمت انه ابن ابيك

؛ و قد قال رسول الله (ص) الولد للفراش و للعاهر الحجر، فتركت سنة رسول الله (ص) تعمدا و تبعت هواك بغير هدي من الله، ثم سلطته علي اهل الاسلام يقتلهم و يقطع ايديهم و ارجلهم و يسمل اعينهم و يصلبهم علي جذوع النخل، كأنك لست من هذه الامة و ليسوا منك.

او لست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه زياد اليك، انه علي دين علي كرم الله وجهه، فكتبت اليه ان اقتل كل ما كان علي دين علي؛ فقتلهم و مثل بهم بأمرك، و دين علي هو دين ابن عمه (ص) الذي اجلسك مجلسك الذي انت فيه، و لولا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء و الصيف و قلت، فيما قلت، انظر لنفسك و لدينك و لامة محمد، و اتق شق عصا هذه الامة و ان تردهم الي فتنة. و اني لا اعلم فتنة اعظم علي هذه الامة من ولايتك عليها، و لا اعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة محمد (ص) افضل من ان اجاهرك، فان


فعلت فانه قربة الي الله، و ان تركته فاني استغفر الله لديني و اسأله

توفيقه لارشاد امري.

و قلت، فيما قلت، اني ان انكرتك تنكرني. و ان أكدك تكدني. فكدني ما بدا لك. فاني ارجو ان لا يضرني كيدك و أن لا يكون علي احد اضر منه علي نفسك، لانك قد ركبت جهلك و تحرصت علي نقض عهدك. و لعمري ما وفيت بشرط، و لقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح و الأيمان و العهود و المواثيق، فقتلتهم من غير ان يكونوا قاتلوا و قتلوا. و لم تفعل ذلك بهم الا لذكرهم فضلنا و تعظيمهم حقنا، مخافة امر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل ان يفعلوا، او ماتوا قبل ان يدركوا، فابشر يا معاوية بالقصاص و استيقن بالحساب، و اعلم ان الله تعالي كتابا لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الا احصاها، و ليس الله بناس لاخذك باظنة و قتلك اولياءه علي التهم، و نفيك اياهم من دورهم الي دار الغربة، و اخذك للناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب و يلعب بالكلاب، ما اراك الا قد خسرت نفسك و تبرت دينك و غششت رعيتك و سمعت مقالة السفيه الجاهل و اخفت الورع التقي، و الاسلام).

هذا الكتاب سجل للدماء التي سفكها الامويون، و هو صرخة في وجه العبث و التلاعب و التجاوز، كما انه بيان لحقوق الشعب التي لا يمكن التغاضي عنها مهما كلف الامر، و ايضا يكشف لنا عن جانب من الاسباب التي دعته للخروج علي يزيد فيما بعد.

علي انه لم يستبح الخروج علي معاوية، وفاء بعهده، رغم نقض معاوية للعهد، و لانه لم يستهتر استهتارا مكشوفا لا يترك للنفس عذرا.

و لله كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة (كأنك لست من هذه الامة و ليسوا منك) هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف، و قديما قال الصابي (ان الرجل من قوم ليست له اعصاب تقسو عبيهم) و هو اتهام من الحسين (ع) لمعاوية في وطنيته و قوميته، و اتخذ من الدماء الغزيرة المسفوكة عنوانا علي ذلك.


و ليس بعد هذا السجل الذي يلصقه الحسين بمعاوية، ما يحملنا علي الشك في النتيجة التي قررناها في مقدمة [2] الحلقة الاولي و هي (ان نظام الحكم في عهد الملوك الامويين لم يكن الا ما نسميه في لغة العصر بنظام الاحكام العرفية. هذا النظام الذي يهدر الدماء و يرفع التعارف علي المنطق القانوني و يهدد كل امري ء في وجوده. و في هذا العصر اذا كان يتخذ في ظروف استثنائيه و لحالات خاصة، يراد بها الارهاب و اقرار الامن، فقد كان في العهد الاموي هو النظام السائد. و في الحق انه لا يمكننا ان نسمي هذا سلطة قضائية البتة بل ننكر بكل قوة ان يكون في العصر الاموي سلطة قضائية بالمعني الصحيح، الا في فترات لا تلبث حتي يكون التيار من ورائها طاغيا. و اكبر الشواهد علي هذا أن الخليفة او حكومته تأتي ما تهوي بدون ان تتخذ لمآتيها شكليات قانونية علي الاقل، مما يشعر باحترام السلطة للقانون.

و ان من المهم أن نتحقق من عدم الوجود السلطة القضائية في ذلك العهد، و ان نزن الاجراءات الحكومية جميعها بهذا الميزان الذي يعرفنا اكثر ما نحن في حاجة الي معرفته بين يدي الدراسات الاموية.)

و يناصر هذه النتيجة السياستان التقليديتان اللتان اصتنعتهما الدولة الاموية في دوريها:

الدور الاول: يبتدي ء بمعاوية الاول و ينتهي بتنازل معاوية الثاني. و كانت سياسة هذا الدور التقليدية هي سياسة زياد بن ابيه الدموية.

الدور الثاني: يبتدي ء بمروان و بالاحري بعبدالملك و ينتهي بمصرع مروان الجعدي، و كانت سياسة هذا الدور التقليدية هي سياسة الحجاج القائمة علي الحديد و النار. و قد لفتنا الي هذا التقسيم تصريح عمر بن عبدالعزيز الذي ذكره القالي في الامالي و هو (ماذا فعل الحجاج حتي يؤتم به، ذاك زياد الذي جمعهم


جمع الذر). و هاتان سياستان نعلم من اخبارهما شيئا كثيرا، و لا اظن كائنا من كان يقول: ان القضاء كانت له حرمة فيهما.

عند قسطنطينية ذكر ابن عساكر: أن الحسين وفد علي معاوية، و توجه غازيا الي

القسطنطينية في الجيش الذي كان اميره يزيد بن معاوية، و هي الغزوة الثانية.

هذا مثل جديد يضيفه الحسين (ع) الي جملة الامثال الرفيعة التي ضربها في انكار الذات و تناسي الحفيظة بسبيل الخدمة العامة و بسبيل ايجاد آفاق جديدة للمبادي ء. فالحسين يدعي للجهاد ضد عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، و هي مغامرة جريئة و خطوة لها خطر، فيجيب، و لكن تحت قيادة من؟.

تحت قيادة يزيد الذي كان يسمع الحسين من اخباره المستهترة شيئا كثيرا؛ و لكي تعلم مبلغ استهتاره و تماجنه نذكر ان زياد بن ابيه نصح لمعاوية اذا شاء ان يستقيم له امر ولده، و ان يضع حدا لمباذله و للشائعات المتزايدة من حوله، فليبعثه في الغزوات و ليبعده عن حياة القصر المشبوبة بالفتون.

فحمله معاوية حملا [3] علي الخروج في هذه الغزوة، و انتزعه انتزاعا من اخضان الحريات المستهترة، علي انه لم يذعن الا بان يجمع اليه في المعسكر ناس ممن يملأون اذنيه بصدي الشهوات و يخلقون له جوا ذا نسب قريب بالجو الذي فارقه علي كره.

فبلاه الحسين (ع) و شهده عن قرب، و خبر ميوله و اهواءه كما لو وضع


عليها اليد، فانكشف له من نزعات نفسه و نزغاته ما جعله عنيفا في الحملة عليه لدي اية مناسبة.

تكبر النفس بالعقيدة حتي لا تري الا اياها...

و تحول احلام النفس و شهوات الغرائز في مذهب سمو العقيدة...

فالحسين (ع) احال غرائزه الي ما يساعد عمل العقيدة فيه، فأنكر الذات و مضي الي الجهاد...



پاورقي

[1] راجح الامامة و السياسة لابن‏قتيبه ج 1 ص 284. و اخبار الرجال لأبي‏عمر الکشي. و اختيار الرجال لأبي‏جعفر الطوسي ج 32.

[2] راجح الحلقة الأولي (سمو المعني).



[3] راجح الکامل لابن‏الأثير ج 3 ص 197. فقد ذکر ان معاوية سير جيشا الي بلاد الروم فتثاقل عنه يزيد فأصاب الناس في غزوتهم جوع و مرض شديد فأنشأ يزيد يقول:



ما ان أبالي بما لاقت جموعهم

بالفرقدونة من حمي و من موم‏



اذا اتکأت علي الأنماط مرتفقا

بدير مران عندي أم‏کلثوم‏



و هذا في الغزوة الأولي التي لم يذهب بها.