بازگشت

فترة بين شكلين من اشكال الحكم


فشت في روح الجماعات فاشية الانحلال و التداعي النفسي و بدأت الحماسة تدخل في دور ركود طبيعي، لانها لم تؤد الي نتيجة حاسمة. و انما كان تفلل الاعصاب و

تحدث فيها زوبعة من الاستياء و اليأس القاتل.

و الجماعات - لانها تتحرك باثر الشعور - فهي سريعة الحركة سريعة السكون، الا

انها تسكن علي قلق فلا تلبث أن تثور. فلم يكن عهد معاوية في الحقيقة الاجتماعية الا فترة السكون مؤقتة. و كان معاوية قصير النظر للغاية في فهم روح الجماعات، حينما لم يعمد الي مداواة بقايا الزوبعة الكامنة في كل نفس، بل علي العكس عمد الي استثارتها بشتي الوسائل؛ و كانت خططه و سياسته استفزازية محضا، فقد نفي خصومه بازدراء، و اهتاجهم بعنف حينما سن بدعة سب علي (ع) و انصاره علي المنابر، و في الناس انصار له كثيرون فلم يبرد الحفيظة بل زاد في اوارها و اذكي اشتعالها و بذلك كتب علي دولته و ملكية بيته الفناء العاجل. و قد ظهرت هذه النتائج سريعا في الثورة علي يزيد ابنه في اخريات ايامه، فلم يجد حفيده حلا سوي الحل الذي سنه الحسن (ع).

فمعاوية لم يكن سياسيا - كما نفهم اليوم - بل مداورا، و الذي يتأمل اسباب نجاحه، يجدها ترجع من اقرب سبيل الي الوقت الذي دخلت عناصره


في الظرف السياسي القائم، فرجحت باحد الجانين؛ فنجاحه جاء عفوا.

و انا كلما تأملت حركاته لم اجد فيه الا سياسيا عاديا للغاية، كان اكبر ما في سياسته انه نجح فقط، فهو من السياسين اليوميين و في رأيي أن اكبر سياسيي الامويين هو عبدالملك بن المروان، و اعتقد أن معاوية لو تعرض لما تعرض له عبدالملك لفشل فشلا ذريعا، فقد اجتمع عليه الخوارج و عبدالله بن الزبير و ثورة عبدالرحمان بن محمد بن الاشعث.

ولي رأي قد لا يوافقني عليه الكثيرون، و هو ان معاوية كان يرمي، من وراء خططه الاستفزازية الي القضاء علي بقايا انصار علي (ع) من الرجالات المرهوبين و الي استئثال شأفتهم، و كانت خطة سب علي مقصودة لهذا الغرض؛ فقد كان يفكر انه - اي السب - سيثير انصاره و هم فلول، و بالاخص الهاشميين كالحسن و الحسين و عبدالله بن جعفر و من اليهم، و بذلك يتسني له القضاء عليهم بحجة مسموعة تعذره عند الشعب، و يؤكد هذا عنفه في اخذ حجر [1]



بن عدي و سواه من الكثيرين، لما اظهروا الاستياء من السب العلني و النيل الخالي من الذوق الديني و الادبي.

كانت خطة يريد بها القضاء علي الهاشميين بالذات، و يختم، بذلك، الصراع


التاريخي الطويل حتي لا تعود له ذيول. فمعاوية اذن لم ينقذه الا اطالة الصراع الذي اوهن اعصاب الجماعات، و ظهور الفرقة في جيش علي (ع) نتيجة للقلق الديني و القبيلة، و علي كل فمعاوية اثبت عدم فهمه البته لروح الجماعات و الجماهير.

و نعود الآن بعد هذا الاستطراد الي ما عرا الجماعة من كلالة و سأم ظاهرين لمسهما الحسن علي كل وجه فلم يجد حلا للموقف الا بان يتنازل، و هو نفسه قد سم و مل ايضا، فكانت اولي تصريحاته بعد ان نزل علي رأي بعض الجمهور المتحمس و سار نحو الشام «ان الجماعة خير من الفرقة» فثارت الحماسة في رأس البعض - و هو الجراح بن سنان - فطنعه بمغول في فخذه فشقه حتي بلغ العظم.

و تنازل الحسن (ع)، رغم اختلاف الرواة في كيفيته و اختلاف النقدة من المؤرخين في اسبابه و محاكمته، يدل علي عزوف الحسن. و زاده عزوفا المفاجأة التي صدمته فبددت عزيمته شعاعا، و هي هرب عبيدالله بن عباس، و كان قائد جنده و من لحمته، فاسود ظنه في الناس. و من ثم يظهر الفرق بينه و بين ابيه الذي لم يتضعضع مع استسلام أخيه عقيل، أو أخيه الحسين الذي ثار حينما فاجأه بعزيمته علي التسليم لمعاوية.

و التاريخ يحدثنا بان هذه المفاجأة كانت عنيفة الوقع علي الحسين، حتي لم يضبط شعوره و انفعال نفسه؛ و كذلك يكون العزوم ذو المضاء. انفجر كما ينفجر البركان تجاه الرأي الذي عقد النية عليه اخوه الاكبر، و نطق بكلمته المدوية التي تجمع الغميزة الي مقال الحق «اعيذك بالله أن تكذب عليا في قبره، و تصدق معاوية» و في رواية «انشدك الله أن تصدق أحدوثه معاوية و تكذب احدوثة ابيك». و هذه كلمة تجمع الي الاستنكار الصارخ، الاستفزاز العميق، و قد جمع فيها الحسين كل قوته و دهائه ليبلغ من اخيه مبلغا يثيره.

و بالفعل استيقظت نفسه


المالة، الا انه غالط شعوره، و انصرف بحماسته الي تعنيف اخيه، فقال: «و الله ما اردت امرا الا خالقتني الي غيره، و الله لقد هممت أن اقذفك في بيت فاطينه عليك حتي اقضي امري.»

و امام جواب اخيه العنيف لم يملك ان يقول له اكثر مما قال «انت اكبر ولد علي، و انت خليفتي و امرنا لامرك تبع، فافعل ما بدا لك» كلمة فيها تسليم المكرة و لكن مع القاء التبعة و البراءة من كل مسؤولية. و كأن الحسين يتجه الي أن الظرف و ان يكن حرجا فلم يفلت كل شي ء من اليد، و في الاستطاعة تدارك ما فات، و استثمار الضعف حتي يصبح قوة ماضية.

و كذلك تكون النفس الكبيرة التي تحمل صاحبها علي ان يكافح و يكافح ما بقيت لديه مادة تغري ارادته.



و اذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الاجسام



نحن لا ننكر هنا أن للحسن عذره في اعلان الهدنة و طلبها نظرا للانحلال و الانهاك الذي اصاب الجماهير، كما صرح بهذا الي عبدالله بن جعفر «قد و الله طالت الفتنة و سفكت فيها الدماء و قطعت الارحام و تقطعت السبل و عطلت الثغور».

و لكنه كان قديرا علي ان يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستثارة و الاحماس و بث روح العزم و الارادة، كما رأينا في القادة الحديديين امثال (نايلون) الذي تولي شعبا انهكته الثورة الطويلة كما انهكت العرب، و زاد هو في انهاكه بالحروب المتتالية المستمرة التي اخذ بها اوربا. و لكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس.



پاورقي

[1] ذکر ابن‏جرير في تاريخه ج 6: ان معاوية لما و لي المغيرة بن الشعبة الکوفة في سنة 41 دعاه و أوصاه بشتم علي و ذمه و العيب علي أصحابه و الاقصاء لهم و باطراء شيعة عثمان و الادناء لهم و الاستماع منهم، فأقام المغيرة علي الکوفة عاملا لمعاوية سبع سنين و أشهرا لا يدع ذم علي و الوقوع فيه و الدعاء لعثمان بالرحمة، و التزکية لأصحابه و المطالبين بدمه، فکان الحجر بن عدي اذا سمع ذلک قال بل اياکم فذمم الله و لعن ثم قام فقال ان الله عز و جل يقول کونوا قوامين بالقسط شهداء لله و انا اشهد ان من تذمون و تعيرون لا حق بالفضل. و لما هلک المغيرة سنة 51 جمعت الکوفة و البصرة لزياد بن أبيه فلما لعن عليا و أطال الخطبة و أخر الصلاة قال حجر بن عدي: الصلاة فمضي في خطبته ثم قال الصلاة، فمضي في خطبته، فلما خاف حجر فوت الصلاة ثار اليها و ثار الناس معه فکتب زياد الي معاوية، فکتب اليه هذا أن شده بالحديد؛ فلما دخل عليه قال له معاوية: و الله لا أقيلک، أخرجوه فاضربوا عنقه، فضربت عنقه؛ و قالت هند ابنة زيد الأنصاري ترثيه:



ترفع أيها القمر المنير

تبصر هل تري حجرا يسير



يسير الي معاوية بن حرب

ليقتله کما زعم الامير



فان يهلک فکل زعيم قوم

من الدنيا الي هلک يصير.