بازگشت

متارك نفسية


مثلما تركت هذه المشاهد في نفس علي (ع)، تركت في نفس الحسين؛ فقد رأي، من أطماع الناس و أهوائهم و أنانيتهم التي بلغت غايتها، شيئا كثيرا، حتي لراعه ما يري و يشهد. لم يكن يظن في من حوله الا الخير، و لكن الناس فجأوه بسرائرهم و مطويات نفوسهم، فلم ير فيها الا سوادا ود كنة قاتمة:



ان شئت أن يسود ظنك كله

فاجعله في هذا السواد الأعظم



أدركه الاسي من مصير الناس، و أدركه الاسي حينما أحس بالضوء الذي أرسله النبي (ص) من مصباحه الوهاج يتخافت في و مضات. و شعور الاسي في نفس العظيم لا يستحيل يأسا بل عامل بعث جديد، فنشط الي الجهاد و الجهاد العنيف حتي كان قائد الميسرة في وقعة الجمل.

و كان كأبيه يعتقد أن المجتمع لن يصلح الا اذا لقح بعصارة جديدة، و بترت منه الزوائد و أبعدت عنه الطفيليات، و كانت هذه عقيدة كل أنصاره أيضا، و بذا ارتجز [1] عمار بن ياسر في صفين، قال:




نحن قتلناكم علي تأويله

كما قتلناكم علي تنزيله



ضربا يزيل الهام عن مقيله

و يذهل الخليل عن خليله



فحركة علي (ع) كانت في جوهرها حركة بناء، و ليست بحركة تخريب - كما يشاء طائفة من المؤرخين نعتها - و نحن حينما نحللها نحاكم المؤرخين الي المبادي ء، فان حركة علي كان لها برنامجها الواضح، بينما لا نعلم لحركة معاوية برنامجا ما، سوي ما كان يلوح به من الثأر، هذه النزعة الجاهلية الخالصة التي بري ء منها الاسلام في خطبة الوداع التشريعية. و ان كان يتداركني العجب من شي ء، فمن أولئك المؤرخين الذين يأخذون الحسين (ع) بحركته ضد يزيد، فقد نعتوها بانها مهدمة مفرقة و لم تكن مادتها سوي اهل بيته، و لشد ما يسهل الاحاطة بهم فتتفلل. و يغفلون عن التعليق علي حركة معاوية ضد امام الحق علي (ع)، و كانت مادتها جيشا كثيفا، عدا عن انه لا يختلف اثنان في ان عليا كان ولي الامر و رجل الجدارة و الاستحقاق. و في الحق انه - ان كان في الحركات الخطيرة التي صادفها التاريخ الاسلامي في دوره الاول من ضر - فحركة معاوية كانت جماعه و مصدر كل تهديم و انحلال و تفلل اصاب تاريخ الدولة الفتية.

فالحسين من بعد هذه المشاهد كلها و مصرع ابيه استبد به شعور انبعاثي يدخل في عناصره الاصلاح و الحفيظة و الانتقام، الي ما استقام في تربيته من محافظة و غيرة علي مبادي ء القرآن و ادبيات الاسلام، اضف الي هذا وصايا ابيه، و خصوصا وصيته اليه التي جاء [2] فيها:

يا بني اوصيك بتقوي الله عز و جل في الغيب و الشهادة، و كلمة الحق في الرضي و الغضب، و القصد في الغني و الفقر، و العدل في الصديق و العدو، و العمل في النشاط و الكسل، و الرضي عن الله تعالي في الشدة و الرخاء.


يا بني ما شر، بعده الجنة، بشر؛ و لا خير، بعده النار، بخير؛ و كل نعيم، دونه الجنة، محقور؛ و كل بلاء، دون النار، عافية.

اعلم يا بني أن من ابصر عيب نفسه شغل عن غيره، و من رضي بقسم الله تعالي لم يحزن علي ما فاته، و من سل سيف البغي قتل به، و من حفر بئرا لاخيه وقع فيها، و من هتك حجاب غيره انكشفت عوارت بيته، و من نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، و من كابد الامور عطب، و من اقتحم البحر غرق، و من اعجب برأيه خل، و من استغني بعقله زل، و من تكبر علي الناس ذل، و من سفه عليهم شتم. و من دخل مداخل السوء اتهم، و من خالط الانذال حقر، و من جالس العلماء وقر، و من مزح استخف به، و من اعتزل سلم، و من ترك الشهوات كان حرا، و من ترك الحسد كان له المحبة من الناس.

يا بني عز المؤمن غناه عن الناس، و القناعة مال لا ينفد، و من اكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، و من علم ان كلامه من عمله قل كلامه. يا بني الطمأنينة قبل الخبرة، ضد الحزم اعجاب المرء بنفسه و هو دليل علي ضعف عقله. يا بني كم من نظرة جلبت حسرة، و كم من كلمة جليت نقمة، لا شرف اعلي من الاسلام، و لا كرم اعلي من التقوي، و لا معقل احرز من الورع، و لا شفيع انجع من التوبة، و لا مال اذهب للفاقة من الرضي بالقوت، و من اقتصر علي بلغة الكفاف تعجل الراحة و تبوأ حفظ الدعة، الحرص مفتاح التعب و مطية التعب وداع الي التقحم في الذنوب، و الشر جامع لمساوي ء العيوب.

و كفي ادبا لنفسك ما كرهته من غيرك، و من تورط في الامور من غير نظر في الصواب فقد تعرض لمفاجأة النوائب التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، من استقبل وجوه العمل و الآراء عرف مواقع الخطأ، الصبر جنة من الفاقة، في خلاف النفس رشدها.

يا بني! ربك للباغين من احكم الحاكمين، و عالم بضمير [3] المضميرين، بئس


الزاد للمعاد العدوان علي العباد، في كل جرعة شرق، و في كل كلمة غصص، لا تنال نعمة الا بفراق اخري، ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم، و الموت من الحياة، فطوبي لمن اخلص لله تعالي علمه و عمله و حبه و بغضه، الويل الويل لمن بلي بحرمان و خذلان و عصيان، لا تتم مروءة الرجل حتي لا يبالي أي ثوبيه لبس، و الا اي طعاميه اكل.)

هذه وصية اجدر ما تكون بالوصف الذي اعطاه اياها ابومنصور الثعالبي (اعجاز في ايجاز). و هي تجمع شيئا كثيرا من فلسفة الاخلاق و الحب و البغض، و فلسفة الالم و اللذة التي هي مدار المذهب الاخلاقي الحديث. و انا كلما تأملت قوله (ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم) تمثلت (ارثر شبنهاور) و فلسفته التي كشف عنها في مؤلفه العظيم (العالم كارادة و تصور).

و قد جعل فلسفته قائمة علي اساس تصور الارادة و القوة بمفهوميهما، و هو يقول انه لا يمكن تصور العالم الا في أحد الافكار، فالارادة قوام عالم الحوادث. و هذه الارادة تبدو بمظهر الميل الي الحياة، الا ان هذا الجهد مصحوب بالالم؛ و من اقواله ان خير ما يعالج به الالم هو العفاف و الزهد. و قد دون علم اخلاق قائما علي الرأفة و الشفقة، و علي أساس مماثلة الموجودات بعضها بعضا. و هو [4] كأنه ينقل الي الاجنبية فلسفة علي (ع) الاخلاقية، أو كأن عليا يترجم الي العربية فلسفته.

و بذلك وجه الحسين وجهة سبقت محيطه و عصره بكثير، و اقامت فيه امثولته الاصلاحية من شتي نواحيها.


الزاد للمعاد العدوان علي العباد، في كل جرعة شرق، و في كل كلمة غصص، لا تنال نعمة الا بفراق اخري، ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم، و الموت من الحياة، فطوبي لمن اخلص لله تعالي علمه و عمله و حبه و بغضه، الويل الويل لمن بلي بحرمان و خذلان و عصيان، لا تتم مروءة الرجل حتي لا يبالي أي ثوبيه لبس، و الا اي طعاميه اكل.)

هذه وصية اجدر ما تكون بالوصف الذي اعطاء اياها ابومنصور الثعالبي (اعجاز في ايجاز). و هي تجمع شيئا كثيرا من فلسفة الاخلاق و الحب و البغض، و فلسفة الالم و اللذة التي هي مدار المذهب الاخلاقي الحديث. و انما كلما تأملت قوله (

ما اقرب الراحة من التعب، و البؤس من النعيم) تمثلت (ارثر شبنهاور) و فلسفته التي كشف عنها في مؤلفه العظيم (العالم كارادة و تصور).

و قد جعل فلسفته قائمة علي اساس تصور الارادة و القوة بمفهوميهما، و هو يقول انه لا يمكن تصور العالم الا في أحد الافكار، فالارادة قوام عالم الحوادث. و هذه الارادة تبدو بمظهر الميل الي الحياة، الا ان هذا الجهد مصحوب بالالم؛ و من اقواله ان خير ما يعالج به الالم هو العفاف و الزهد. و قد دون علم اخلاق قائما علي الرأفة و الشفقة، و علي أساس مماثلة الموجودات بعضها بعضا.

و هو [5] كأنه ينقل الي الاجنبية فلسفة علي (ع) الاخلاقية، أو كأن عليا يترجم الي العربية فلسفته.

و بذلك وجه الحسين وجهة سبقت محيطه و عصره بكثير، و اقامت فيه امثولته الاصلاحية من شتي نواحيها.



پاورقي

[1] راجع تاريخ ابن‏الوردي ج 1، ص 159.

[2] راجعها في کتاب الاعجاز و الايجاز لأبي‏منصور الثعالبي ص 33. و في کتاب ينابيع المودة ص 519.

[3] بعض الناقدين الأدبيين يشکون بهذه الوصية لوقوع مثل هذا اللفظ فيها، فان الضمير بمعني القوة النفسية الخاصة و موطن الوجدان لا يعرف بهذا المعني زمن علي؛ و نحن نقول ان خطأهم ناشي‏ء من فهم الضمير بهذا المعني، و الا فهو هنا بمعني المضمر، و لا شک بأنه کان معروفا بهذا المعني اذ ذاک.

[4] عقدنا فصلا هاما في المقارنة بين الفلسفتين في کتابنا الکبير عن علي (ع) الذي سنخرجه عما قريب.

[5] عقدنا فصلا هاما في المقارنة بين الفلسفتين في کتابنا الکبير عن علي (ع) الذي سنخرجه عما قريب.