بازگشت

لمحة


اوفي الحسين في عهد أبيه علي الثلاثين من عمره، و استوي رجلا ناضجا مل ء برديه استبسال و عزيمة و تعلق بالاصلاح و مضاء في حركة التطهير التي يتطلبها الوضع الجديد الذي رسم خطته علي (ع).

و الاب العظيم أشرف علي الثورة و هي تمور و تؤج و تندلع بنيرانها المسجورة، حتي اذا أحكم خطتها و جمع اليه الخيوط ليحركها بحسب الأدوار، تقطعت في يديه.

عندها أدرك انه لم يتم من الثورة الا فصلها الاول، و ان التغلب علي الاحزاب التي كشفت الثورة عن شرتها، و التي ستعمد الي الصراع الطويل لن يتم الا بضربات سريعة قاسيد، و رأي انه لن ينجح الا باعجالهم قبل أن يتأشبوا فيستعصي القضاء عليهم، و وقعة الجمل عينت لمن سيكون الفوز، و لذلك استسلم الامويون بعدها واحدا بعد واحد و اسقط في ايديهم و أشرفت الثورة علي النهاية التي يسدل من بعدها الستار.

بيد أن جيش [1] علي (ع) الذي كان قبليا في مزاجه العقلي و الذي أفسدته


الحزبية و الثورة، و خالفت بين خطواته الحيرة الدينية الراسخة، تحطم علي الصخرة النفسية التي لم تعمل فيها المبادي ء الادبية الاسلامية الا عملا قليلا.

حملت عائشة راية الثورة من جديد، كما حملت راية الاستقزاز علي عثمان. و التاريخ لا يحدثنا لماذا خرجت علي علي (ع) و لم تر بعد من سياسته شيئا ما. و دعوي انها خرجت طلبا بدم عثمان توهيم، لأنها لم تكن جاهلة بالشريعة التي تقضي (أ) بترك الامر الي الحاكم المركزي، فان لم يكن فلولي القتيل، و ليست من أوليائه. (ب) بأخذ المباشر دون المسبب.

فلم تخرج عائشة اذا طلبا بدم عثمان بل لشي ء آخر، و هو ما لم يذكره التاريخ صراحة. و الذي يستقيم عندي في هذا الامر أن الحزبية بلغ من نفوذها مبلغا عظيما حتي عدت الي زوجات النبي (ص) فكانت ام سلمة (ض) من حزب المحافظين أي حزب علي، و عائشة (ض) من حزب طلحة و الزبير - كما ذكرت في مقدمة الحلقة الاولي - و كانتا كذلك في عهد النبي (ص)، فقد كانت ام سلمة زعيمة طائفة من نسائه و عائشة زعيمة طائفة أخري، و لا ريب في أن هذه الحزبية ولدت في نفسيهما حزازة تاريخية تقريبا اتصلت بمسلكها العام؛ ففوز علي يحفظ عائشة لانه فوز لام سلمة، اضف الي هذا موجدتها الخفية علي علي (ع)

تناهي الي سمعها نعي عثمان و فوز علي، و هي في طريقها من مكة الي المدينة - التاريخ يذكر هنا رواية ساذجة بتراء فيقول انها رجعت الي مكة من فورها و لا نعلم سببا لرجوعها - و صحة الخبر عندي انها و هي في الطريق لقيت طلحة و الزبير، و هذان حملاها علي الرجوع و سهلا عليها الخوض في معمعة اجتماعية طاحنة، حتي اذا هبطوا مكة وجدوا فلول الامويين، ففكر طلحة و الزبير باستغلالهم فرتبوا الامور هكذا:

يعصي بالشام معاوية، و هم يعصون بالعراق حتي اذا استقروا حاصروا الحجاز و انتزعوا السلطة من علي (ع). فهم علي ذلك كله فنشط لتسديد الضربات السريعة و هو واثق من نفسه كل الوثوق فلم يستمع للناصحين ذوي النظر السطحي، لأن كل تأخير يفضي الي خسران القضية المعلقة.


و من ضيق النظر [2] التاريخي ذهاب طائفة من المؤرخين الي أن وقعة الجمل كانت وقعة عرضية علي هامش الصراع، لأننا حينما ندقق في أسباب التأشب علي حكومة علي، نجد ان الشام و البصرة كانتا علي تفاهم تام. و يهشد لهذا ما ذكر ابن الاثير [3] في «الكامل» (من ان الخارجين فكروا بالذهاب الي الشام فقيل لهم قد كفاكم معاوية الشام، فاستقام الرأي علي قصد البصرة) و انما بدأ علي (ع) بالبصرة، لأن خصميه طلحة و الزبير و من ورائهما عائشة أكثر تأثيرا في الجمهور العربي من معاوية الذي يسهل القضاء عليه بالنظر الي انه لا يتمتع بشي ء من الثقة. فاذا أمهلها و قصد الشام استشري أمرهما و حبطت القضية من أولها، و بالقضاء عليها يخلص من أشرس خصومه، و أعتقد أن معاوية لم يلجأ الي خوض العراك الا ليظفر من علي بالمطمع الذي يلاعب نفسه، و لكن عليا لا يرغب البتة بأن يبقي نكأة في جسم الدولة، فأبي الا القضاء عليه، و هو نظر موفق جدا؛ و علي ضوء علم السياسة هي الخطة الواجبة. بيد أن عليا أتي من قبل الجيش من حيث لا يحتسب، فان جيشه هو الجيش الذي كانت تستخدمه الدولة في الفتوح، فهو منهوك، و زادت الثورة في انهاكه، فمال بعلي كرها الي التحكيم بخلاف جيش الشام فكان قليل الجهود في الفتح الاسلامي، فهو متماسك و لم تمسه الثورة فتنهكه، و هذا يظهر من تقاعد الجيش كلما طلبه علي (ع)، حتي قال مقاله الحكيم (ما غزي قوم في عقر دارهم الا ذلوا).

في فصول الثورة تكشفت نفسيات الاشخاص، و مدي احتكامها بمنطق الضمير و الدين و الأخلاق، فعائشة زوج النبي القوامة الصوامة تخرج و تسفك الدماء، و طلحة و الزبير اللذان صحبا النبي (ص) امدا طويلا ينقضان البيعة، و أبوموسي الاشعري يخذل اميره في مقعد القضاء و التحكيم، و معاوية يعبث بالقرآن -


كتاب الله الاقدس - فيرفعه علي الاسنة خدعة حطيطة، و الجموع تتفرق من حوله حينما لم يخولهم من الاموال الا ما خولهم اياه الدستور الذي ثاروا لأجله.

ولدت هذه المشاهد في نفس علي (ع) أسي مريرا ظهر جليا في خطب النهج - هذه الظاهرة لا تدع شكا في صحة نسبة النهج الذي يعبر أحسن تعبير عما يجب أن يصدر من فؤاد علي وسط هذه الزوبعة العاصفة - حزت علي نفسه هذه الفرطات المؤلمة، و لذعته كثيرا، فانصرف الي تثقيف الجمهور بروح الاسلام من جديد، و تقديم المثل الاعلي للمسلم الصحيح في شخصه، و ما فتي ء يضرب علي هذه النغمة حتي خر صريعا و هو ينادي الناس الي الصلاة الي الفلاح في غلس الليل.

و كان هذا ايذانا بأن فجر الاسلام المثالي قد ذهب مع الامس، و فجر الغد سوف يكون ملطخا أبدا بالدماء و الاباطيل الحمراء...

أطلت الشمس علي الدم القاني و هي في خدر امها - كما يقول بشار - فجذبت الغمام اليها، كأنها تشيح بوجهها أن تري منظر الهول الممدود في انسان المبادي ء الفضلي...

أبت الأقدار الا أن تمنحه و سام الشرف في ظل كلمة الله التي جاهد لها و خر صريعا دونها، و هي مل ء قلبه و فمه.

جاء في الشريعة أن السحر وقت تجلي الله، فينفح الرحمات و يهب البر و الخير و المحبة، و كان باطل الانسان يقظان أيضا في شكل افعي تنفث معناها، و في عين الله، التوت علي عنق الداعي (حي علي الصلاة، حي علي الفلاح) ثم استدارت علي يده كي تطفي ء مصباح [4] (ديوجين) كأنها ترهب أن يفضحها، فرأي الله و أبصر..


نطق الحق بصوت الليل، هاتوا أبنائي و خذوا أبناءكم، فان الباطل الي التراب يصير، و الحق يجنح صعدا نحو السماء...

ازدوج صوت علي (ع) حينما تخددت هامته بيد فاجرة، مع صوت المؤذن: الله اكبر الله اكبر، و كان لهما قرار واحد ثم صمت الفجر كأنه يتسمع...

صدق (ماكس نورداو) حينما قرر بقاء الاحيل دون بقاء الاصلح، فان الاصلح لا يدوم طويلا في دنيا الاباطيل...

مر انسان بانسان و قال له شيئا، فبكي احدهما و ضحك الآخر، ثم مضيا معا يضربان في كل مكان، كأن كلا منهما يتمم علي الآخر معناه. هذه صورة من حياة الارض فهنيئا لك بالسماء مهد المثالية ايتها المثل...


پاورقي

[1] يقرر هذا ان عبدالله بن الزبير استقامت له الأقطار و حاصر الشام ثم تفلل لان مادة الجيش کانت قبلية بخلاف جند الشام النظامي.

[2] يذهب الأستاذ العبادي المؤرخ المصري الي أن وقعة الجمل من الحوادث العرضية. و هذا عندي أخذ بظاهر الروايات التاريخية الساذجة.

[3] راجع الکامل ج 3. و شرح النهج لابن أبي‏الحديد ج 1 ص 81، و العقد الفريد لابن‏عبد ربه ج 2. و ابن‏الصباغ في الفصول المهمة.

[4] لمصباح ديوجين معني رمزي هو الدلالة علي الحق و الفضيلة و الانسانية الصالحة؛ و هذا هو المقصود هنا.