بازگشت

دفاع


كنت لا تسمع الا نأمة طويلة تنذر بخطر رهيب، و كان الناس يتحلقون هنا و هناك في شرود و توثب، كأنما هم ينتظرون كارثة دامية ستقع بعد حين قريب. و وفدت جموع الغرباء من شتي الأقطار، و علي وجوههم سطور الثورة الحمراء التي تلاعب نفوسهم حتي لكأنها مقروءة بوضوح، و تجمهر هؤلاء في طرقات المدينة ينادون بالاصلاح أو الانقلاب، و بعدوي الشعور انقلبت المدينة كأنها مجاز تدفقت فيه السيول الجارفة، و انعقدت أصوات الجموع في صرخات لم تعد قائمة في مقاطع مفهومة، فقد غدت و زمجرة صارخة داوية. و عرت الناس رهبة الجمهور الثائر فوقعوا تحت سبات مشدوه من الشعور المبهم.

دخل النزاع بين الشعب و الهيئة الحاكمة في دور عنيف لم تعد تنفع فيه وساطة الحزب المحافظ، لأن المرجل قد حمي، و لم يبدر من جانب الهيئة الحاكمة بادرة تخفف غلواء الجمهور، و تساعد الحزب المحافظ علي النجاح. فان الجمهور الثائر


لم يعد يثق الا بنفسه، و الثورة تبعث الثورة كما أن الأسي يبعث الاسي، فاشتعلت حتي أصبح من المتعذر اطفاؤها، فتنحي (ع) و حزبه من طريق الجمهور المحطم و هذا طبيعي.

فان الظرف من وجهة النظر النفسي دقيق جدا، فكل مصادمة لرأي الجمهور يعدها خيانة لأنه واقع تحت تأثير شعور عنيف - كما يقول بنيامين كيد - يسيطر علي كل مناطق التفكير و يصبغها بلونه الداكن، و من ثم لا يعود للتعقل الهادي ء أثر ما في حركات التوجيه.

أخلي الحزب المحافظ الطريق لامرين: [1] .

(1)ان من العبث الوقوف بعد في وجه الثائرين، بل ربما أدي الي عكس النتيجة، و استفحلت الثورة استفحالا قاسيا بحيث تنقلب ثورة للثورة دون قصد آخر، فتعم الفوضي الطائشة و الفتنة المريرة.

(2)أن تري الهيئة الحاكمة بنفسها عنف الجمهور الثائر، فتغير خطتها و تجيب المطالب في الحين الذي تكون الثورة لا تزال مدفوعة بقصد معين مفهوم، و أي تأخر في النزول علي رأي الثائرين يجعلهم يندفعون بغلواء الشعور و ينبهم القصد من الثورة و هنا الخطر، اذ تخرج الثورة من نقطة الدائرة الي محيطها و تتدفق متخطية الحواجز و الجسور، كالفيضان حين تنوء الحواجز عن ضغطه فلا يطرد في الاقنية و المجازات.


كانت الحواجز بيد الهيئة الحاكمة فلم تنشط و تخف الي رفعها و لو قليلا بحيث تنفس عن الجمهور، بل عمدت الي احكام الحواجز حتي تم الطغيان. و قد اقتنعت الهيئة الحاكمة أخيرا حين رأت جد الجمهور الثائر، فكتب عثمان الي علي كتابه المشهور:

(بلغ السيل الزبي، و جاوز الحزام الطبيين.



فان كنت مأكولا فكن انت آكلي

و الا فأدركني و لما أمزق)



لا يحدثنا التاريخ عن الأثر الذي كان للكتاب في علي (ع)، و لكنني مقتنع بأنه طرب جدا لهذه النتيجة التي أقنعت الحاكم الأعلي بعد لأي بوجوب الاصلاح و تعديل السياسة. فقد آذنه عثمان بوضع كل المقدرات في يديه و توجيه السياسة العامة علي الشكل الذي يراه، فعمد الي العمل السريع قبل الاستفحال، فبعث بحسن و حسين ليحافظا و يحولا دون امتداد الثورة من قريب. و لكن تصريح عائشة، في هذه المرحلة الدقيقة المستعرة، حيث بلغ الجمهور قمة الشعور الحماسي، الي مروان بالكلمة [2] الحمراء:

«وددت لو انه مقطع في غرارة من غرائري، و اني أطيق حمله فأطرحه في البحر» دفعت بالثورة عن نقطة ارتكازها و أججتها، و كانت أسرع من حركة علي (ع) الذي نظم الامور لفل الثورة بترضيات الجمهور؛ و وقعت الكارثة قبل وصول علي الذي كان بعيدا عن المدينة. و دفاع الحسين (ع) و غيره لم يغن الا غناء قليلا.

و سيطر الثائرون علي الموقف سيطرة مطلقة حتي حالوا دون دفن عثمان الشهيد، و تم انتخاب الخليفة علي ايديهم. غير ان عليا أراد أن يضع حدا لتسلط الثوار،


فاتخذ خططا دقيقة مبنية علي نظر عميق - كما قدمنا في بحث الثورة - قبل أن تدور الثورة علي نفسها و تدخل في التفافات جديدة و تخلق أزمات و تيارات مزعجة. فعزل و ولي، و مضي في سياسة من شأنها رد الأمن الي نصابه و وضع حدا للانتهازية و الأطماع التي بدأ يفكر فيها الجمهور المندفع، فجهز البعوث للقضاء علي المتمردين المتنمرين، و كانت سياسة رشيدة حازمة تدل علي بعد النظر، حين بناها علي الحركة السريعة و أخذ الأمور من أقرب طريق، لولا ما اجتمع في المحيط العربي من عوامل القبلية و القلق الديني و اصطباغ النفوس البدئية بالطماعية.

تأخذنا الدهشة كلما فكرنا بموقف علي (ع) من عثمان (ض)، فقد كان له رائدا متطوعا باخلاص، يغار عليه و يخطط له الخطط القويمة متناسيا كل حفيظة و كل موجدة و متناسيا ان الامويين داوروه مداورة لاسقاطه و انتخاب عثمان. و لا بأس من أن نذكر طرفا من أساليبه في الاشارة عليه لنري بجلاء مدي العاطفة الشريفة التي كانت تغمر فؤاده الكبير و قلبه النقي الطاهر الذي لا يفيض الا بالاخلاص للناس جميعا. هذه الصفة التي انتقلت الي فتاه الحسين (ع) و ظهرت منه في كل مناسبة مادام الخليفة غير متجاوز تجاوزا مكشوفا، فقد قرر الخضوع لمعاوية أيضا، لأنه لم يكن مستهترا مبالغا في الاستهتار. و هذا يظهر لنا - و هو الذي خبر يزيد عن قرب يوم كان أميرا علي الجيش في الحملة علي القسطنطينية - لماذا خرج علي يزيد؟.

يذكر التاريخ مثلا كثيرة من أساليب علي في نصح عثمان و ننتزع منها هذه الأمثولة الرائعة، دخل عليه يوما، و قال له:

(الناس ورائي و قد كلموني فيك، و و الله ما أدري ما أقول لك، و ما أعرف شيئا تجهله، و لا أدلك علي أمر لا تعرفه. انك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك الي شي ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بأمر دونك فنبلغكه. و قد رأيت و سمعت و صحبت رسول الله (ص) و نلت صهره، و ما ابن أبي قحافة بأولي بعمل الحق منك، و لا ابن الخطاب بأولي شي ء من الخير منك.


فالله الله في نفسك، فانك و الله ما تبصر من عمي و تعلم من جهل، و ان الطريق لواضح بين.

فاذا اعتذر عثمان بأنه يقتفي أثر عمر. أجابه علي اجابته الموفقة اذ يقول: سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولي فانما يطأ علي صماخه، ان بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به أقصي الغاية؛ و أنت لا تفعل، ضعفت و رفقت علي اقربائك.

فاذا ذكر له عثمان أن معاوية كان ممن ولاه عمر مدة خلافته كلها، و انه اقتدي كذلك بعمر في توليته، ابان له علي (ع) الفرق بين العملين، فقال: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر، من (يرفأ) غلام عمر؟ قال نعم.

قال علي: فان معاوية يقتطع الامور دونك، و أنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك و لا تغير علي معاوية.)

هذه أمثولة من أمثولات كثيرة كلها ترينا موضع النبل و الاخلاص و انكار الذات من نفسه الوضية بشعاع الضمير.

كان للحزبية التي شهد الحسين (ع) من حركاتها الكثيرة، و الثورة التي خاضها دفاعا عن الخليفة، ما أجج نزعة الاصلاح في نفسه قبل أن ينتقض ما بناه النبي (ص) بتنقص النظام الاجتماعي. و كان يري في أبيه المصلح المنتظر، كما يري ذلك كل الذين تلاعب نفوسهم أفكار الاصلاح، و يري في الحزب الاموي انه مصدر التبلبل و الدس بسبيل أطماعه، فجزم أن لا استقرار مادام للامويين سلطة [3] أو شبه سلطة، و أجمع علي أن يخدم هذه الفكرة في ظل حكومة أبيه و في كل حين.


و هو و ان يكن خضع علي مضض لمعاوية، فقد كان ينتظر انفراج الأزمة الاجتماعية بوفاته، و رد حق الجمهور المغتصب، و لكن لما رأي أن الحزب الأموي دخل في مداورة جديدة لنقل مقدرات الحكم الي ابنه، و في هذا زيادة علي الاغتصاب للحق العام، عبث بالادبية المثالية للاسلام، فكان طبيعيا أن لا يقر هذا الوضع مهما كلف الأمر. و بالأخص اذا نظرناه من الوجهة القانونية البرلمانية التي تقضي بأن هذا، في جوهره، تلاعب بالدستور الانتخابي المتواضع منذ و عهد الخليفة [4] الاول و الدستور الديني الموحي به.

و اذا كان الانكليز ينظرون الي ضحايا الدستور الذي قرر حقوق الشعب، حاول الملوك التلاعب به، نظر القداسة، و اعتبروهم مجاهدين سجروا أنفسهم بسبيل الحرية العامة. فان أول ضحية من ضحايا الدستور و حرية الشعب، في الاسلام، لم يكن غير الحسين (ع)؛ فنحن أجدر بأن ننظر اليه هذا النظر. ان (كرومول) بقي محترما من الانجليز - رغم انه انقلب ديكتاتورا - لأنه قاد ثورة الحرية و ظفر بخصوم الجمهور الطغاة.

بهذا النظر يجب أن ندرس الحسين و نفهم حقيقة حركته التي أذكاها ضد يزيد الطاغية.



پاورقي

[1] و يوجد هناک أمر آخر ذکره المؤرخون و هو أن مروان کان يوغر دائما صدر عثمان علي علي حتي أجمع لا يقوم دونه، و قال قولته المشهورة: (ما رضي مروان منک الا بتحرفک عن دينک و عن عقلک مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به، و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا في نفسه، و ايم الله اني لأراه سيوردک ثم لا يصدرک، و ما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتک، اذهبت شرفک و غلبت علي أمرک) و لقد تأثرت امرأة عثمان نائلة ابنة الفرافصة بنصح علي (ع) حتي قالت لزوجها (اتق الله و اتبع سنة صاحبيک من قبلک فانک متي أطعت مروان قتلک، و مروان ليس له عند الناس قدر و لا هيبة و لا محبة، و انما ترکک الناس لمکان مروان منک فأرسل الي علي فاستصلحه فان له قرابة منک و هو لا يعصي).

[2] بعد أن هدأ علي ثائرة الناس اذ أعطاهم عن عثمان مهلة ثلاثة أيام، و انتهت و اجتمع الناس علي بابه مثل الجبال قال عثمان لمروان: أخرج فکلمهم فاني استحي أن أکلمهم. فخرج مروان اليهم، و الناس يرکب بعضهم بعضا، فقال: ما شأنکم قد اجتمعتم کأنما قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه، کل انسان آخذ بأذن صاحبه. جئتم تريدون أن تنزعوا ملکنا من أيدينا، اخرجوا عنا! الي آخر هذه الخطبة المملوءة حمقا و رعونة؛ و قد کانت شرارة شديدة الأثر في الهاب نار الثورة.

[3] قد أريناک، في الحلقة الأولي، ان مثل هذا الرأي کان عند عامة أهل المدينة و کثيرين کعبد الله بن الزبير، فقد طرد الأمويين من الحجاز أجمع و نفاهم خارج الحدود، لأن لهم مداخل بين الحشا و الصفاق. راجع الأغاني ج 1، ص 6 ترجمة أبي‏قطيفة.

[4] اتخذ الناس طريقة العمل الانتخابي منذ الخليفة الأول قانونا، و يظهر هذا من رد عبدالله بن الزبير علي معاوية اذ أعلن رأيه في يزيد، و طرح الثقة في اجتماع الحج الذي هو البر لمان الأعظم في الاسلام، و قال له: ليس لک أن تفعل الا کما فعل النبي (ص) اذ جعل الانتخاب عاما أو کما فعل أبوبکر انتخب رجلا من عرض الناس أو کما فعل عمر جعلها في ستة. راجع ذيل الأمالي لأبي علي القالي.