بازگشت

المجاهد الشاب


الازورار و الاعراض لم يحملا الحسين علي مقاطعة اجراءات الحكومة القائمة بل نراه يمضي بحماسة الي التضحية في سبيل مجد الدولة مطرحا كل خصومة نفسية أو شخصية، لأن هناك مبدأ يقدسه و يعمل في سبيله و قد صار أهلا للعمل و وجد فرصة للخدمة. فمضي ملبيا نداء الحكومة غير متوان عن عمل الواجب، فانه و ان كان يكبر خصومته هو أكثر اكبارا للمبادي ء العامة، و هذا نضج لا شك فيه.

و نحن لا يخالجنا شك في أن الحزبية اذ ذاك كانت قد شملت المجتمع العربي الاسلامي، و كان الحسين منتسبا الي حزب أبيه المحافظ كما أريناك في فصل الحزبية. و رغم هذا لم يتأخر عن التضحية المندوب اليها في سبيل المجد القومي و الديني بعيدا عن الحدود.

و هذا عنوان عن الاستعداد النفسي لتناسي الحفائظ في سبيل الخدمة العامة التي هي فوق سائر الاعتبارات و أقدس من كل شي ء آخر. و كذلك تكون العقلية الناضجة و العقيدة المختمرة التي تضع اختلافاتها و حزبياتها و عنعناتها دون [1] الهدف الأسمي بمراحل كبيرة.

و هذا درس يجب أن نستفيده من الامام الشاب في مراحل جهادنا اليوم بسبيل استعادة مجدنا المفقود، فهو يعطي الشباب درسا نبيلا و أمثولة رائعة في فهم الحزبية و أين يجب أن توضع، و في أي المناسبات يحمد العمل بوحيها. و سنري، بعد حين في عهد معاوية، كيف يلبي ايضا في الحملة علي القسطنطينية، رغم الظلامة التي انقلبت حزازة نفسية عنده بما أجرت الحوادث من دماء غزيرة عزيزة عليه.


ذكر [2] ابن خلدون انه، في سنة ست و عشرين، عزل عثمان اميرالمؤمنين، عمرو بن العاص عن مصر، و استعمل مكانه عبدالله بن ابي سرح أخاه من الرضاعة، و كان عثمان في سنة خمسة و عشرين أمر عبدالله بغزو افريقية، و أمر عقبة بن نافع علي جند و عبدالله بن نافع علي جند آخر، فخرجوا الي افريقية في عشرة آلاف و صالحهم أهلها علي مال يؤدونه و لم يقدروا علي التوغل فيها لكثرة أهلها. ثم ان عبدالله بن ابي سرح استأذن عثمان في ذلك و استمده، فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به. فجهز العساكر من المدينة و فيهم جماعة من الصحابة منهم الحسن و الحسين و ابن الزبير و ابن عباس و ابن عمر و ابن عمرو بن العاص و ابن جعفر و ساروا مع عبدالله بن ابي سرح سنة ست و عشرين و لقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة ثم ساروا الي طرابلس، فنهبوا الروم عندها، ثم ساروا الي افريقية و بثوا السرايا في كل ناحية، ففتح عليهم، و رجع الجيش بعد مقامه سنة و ثلاثة أشهر.

و ذكر [3] ابن جرير الطبري: انه في سنة ثلاثين استعمل عثمان، سعيد بن العاص علي الكوفة، و في السنة نفسها غزا سعيد بن العاص طبرستان من الكوفة و لم يغزها أحد قبله. و كان الاصبهذ - و صوابه الاصبهيد [4] علي ما ذكره الراغب الاصبهاني - صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر علي مال. فغزاها سعيد و معه ناس من أصحاب رسول الله منهم الحسن و الحسين و عبدالله بن العباس و حذيفة بن اليمان، فسألوا الامان فأعطاهم علي أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن. فقتلهم جميعا الا رجلا واحدا، و حوي ما كان في الحصن.

عرفنا، فيما سبق، ما احتكم بنفس الحسين (ع) من ترتيبات عالية، و ما قام


عليه قلبه من مبادي ء فضلي لا يتغاضي البتة اذا انتهكت، و هو متقيد بحدود المثل القرآنية و السياسة النبوية لا يحيد عنها.

فلا عجب اذا رأيناه يستنكر استنكارا صارخا، استنكارا ديمقراطيا نبيلا علي أمير الجند و هو بينهم جندي، حين أعطي عهدا و نكث به، و غدر بمستأمنين؛ و المسلون - كما جاء في الحديث - عند شروطهم.

و انتقلت حركة هذا الانتقاد الي المدينة، فأثار الضمائر و أسعرها، و زأرت العدالة علي لسان علي (ع) زئيرا رهيبا، زئيرا يقض المضاجع و يقلق المستنيمين الي هذه السياسة التي نعتها بسياسة الجبروت، و نعت سعيدا هذا بالجبار. و الاسلام دين الرحمة فليس فيه جبروت علي المستضعفين، و المسلمون رحماء، فليس فيهم الجبار علي الضعفاء. و هذه الظاهرة المدهشة التي صبغت فتوح العرب الاولي، هي الخلة الحميدة للفتح الاسلامي وحده.

بادرة من أميرالمؤمنين، تدلنا علي لون سياسة الامويين و اتجاههم الحكمي، و تضع أيدينا علي موضع الختل و العبث الطبيعيين، و عدم الاعتداد بأي شي ء في سبيل المطامع الشخصية. هذا الامير يطمع بما في الحصن و يعجز عن فتحه عنوة، فاستدرج أهليه الي الامان و لكنه انقض عليهم ليظفر بغنائم الحصن كاملة. و سياسة كهذا تحفظ المتشبعين بقضايا الحق و الواجب و العدالة. و انما توجد الديمقراطية الصحيحة، حيث توجد الرقابة الشعبية المخلصة التي تشعر الهيئات الحاكمة بوجود الشعب و حياة الدستور.

و في هذا درس نبيل حين يرتسم أمام نواظرنا الحسين الجندي أو النفر، يصارح أمير الجيش بأن هذا غدر و نكث لا يجوزان في منطق القانون. و الفتح الاسلامي الذي يعمل علي نشر فكرة و يدعو الي تهذيب الانسانية و الاجتماع، لا يتفق هذا الصنيع مع أهدافه الرئيسة الصميمة.

و بعث الامة لا يتم الا بالتقاء الطبيعة المؤمنة بالطبيعة المجاهدة؛ فمضي الحسين الي الجهاد ليفسح لكلتا الطبيعتين في نفسه...


قيام المرء بالعقيدة وحدها، قيام بنصف الحياة، فمضي الحسين الي الجهاد كي يعلن عن نفسه بأنه حي كامل لا جزء الحي:



قف دون رأيك في الحياة مجاهدا

ان الحياة عقيدة و جهاد



العقيدة بدون جهاد كالجهاد [5] بدون عقيدة، لا يزيد هذا عن أن يكون وحشية و ترويعا و قطع طريق، كما لا يزيد ذاك عن أن يكون ضميرا في نفس الميت، و كل منهما يعبر عن معني لم يتم، و يرسم شكلا ممسوخا. فمضي الحسين الي الجهاد في افريقية ناظرا الي الغرب الاقصي، كما مضي الي الجهاد في طبرستان ناظرا الي الشرق الاقصي، ليقول ان حدود العقيدة أن لا تكون في حدود...

خرج الحسين (ع) بروح المسجد الي الكفاح ليمزج بها روح العالم، و يتولد من بين هذا اللقاح هيكل الفضائل الحي الذي يقوم علي مثل حدود المسجد و قواعده...


پاورقي

[1] اذکر اني قرأت في کتاب «عشر سنين في لندن» ان الرجل ضمه مجلس جمع أفرادا من کل الأحزاب في انجلترا، فتناقشوا علي أفضل الخطط التي يحسن انتهاجها؛ فکل مال الي تأييد خطة حزبه و کان نقاشا عنيفا کادوا يخرجون منه الي التدافع بالمناکب؛ و في هذه الغمرة قام أحدهم، و قال: باسم التاج و المجد البريطاني اهدوا وليعد کل منکم الي مقعده فاستصاخ الحضور الي صوته و کأن لم يکن من شي‏ء. هذه حادثة تظهر لنا فهم ذوي النضج للحزبية و انها شي‏ء دون الهدف الأسمي.

[2] راجع تاريخ ابن‏خلدون ج 2، ص 128 و 129. و ذکر دخول الحسين و أخيه الحسن المغرب فيمن دخله من الصحابة أحمد بن خالد الناصري السلاوي في کتابه: الاستقصا لأخبار المغرب الاقصي ج 1، ص 39.

[3] راجع تاريخ الطبري ج 5، ص 58 - 57. و ابن‏خلدون ج 3، ص 135 و 136.

[4] ذکر الراغب الأصبهاني في محاضرات الادباء ج 1، ص 76 ان الاصبهيد هو صاحب الجيل و هو الصواب.

[5] لفظ الجهاد لا يطلق الا اذا صاحبته العقيدة، و اطلاقه هنا من باب التجريد.