بازگشت

طموح


روي [1] أن الحسين بن علي قال: اتيت عمر و هو يخطب علي المنبر فصعدت اليه، فقلت: انزل عن منبر ابي و اذهب الي منبر أبيك، فقال عمر: لم يكن لابي منبر. و أخذني فأجلسني معه اقلب حصي بيدي، فلما نزل انطلق بي الي منزله، فقال لي من علمك، قلت و الله ما علمني احد، قال بأبي لو جعلت تغشانا.

فأتيته يوما و هو خال بمعاوية، و ابن عمر بالباب، رجع ابن عمر، فرجعت معه؛ فلقيني بعد فقال لي: لم أرك، فقلت: يا اميرالمؤمنين اني جئت و انت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر، فقال: انت أحق من ابن عمر، فانما انبت ما تري في رؤوسنا الله ثم انتم.

الطموح صفة للنفس الكبيرة تبدو من وراء المظاهر الهادئة أملا قويا يستخفنا في دهشة و اعجاب.

و نظر النفس الطامحة يبدأ من النقطة التي عجز الناس عما وراءها، فالافق الذي يشرف منه اصحاب الطموح، هو الافق الذي يستشرف اليه نظر الآخرين،


و كأنما هم يدرجون في الجو الذي بحلق فيه سائر الناس، و أما جوهم فهو للآخرين مثابة الاماني و الأحلام.

و طموح الطفولة عنوان علي النضج النفسي قبل بلوغ الاهاب، و طفلنا الطموح يري مسجدا طالما كان يجوس خلاله بين يدي جده بادلال، و هذا منبر طالما كان يرقاه، و النبي (ص) يرسل صوته الهادي، حتي ألفه؛ فحن اليه و اختلط الحنين بكبرياء العظيم و طموحه، و انحسر بينه و بين نفسه كل ما هو واقع، فلم ير المنبر الا شرفته التي يطل منها و هي له من دون الناس.

ذهبت نفسه مذاهبها في الجد، و مذاهبها في الطموح، تمدها من ورائهما الطفولة المتطلعة، فرأي أن المنبر نصب للنبي أول ما نجر، و ان المسجد بيت دعوته، و هو يحس بالنبي حيا بين جوانحه، فاعتلي المنبر في غير عبث الطفولة، بل في جد النظر و خيال الطموح.

و نظر من ظاهر النفس الي باطنها فلم يجد الا أشباح الجدود علي شريط الوراثة الممتد، و رأي المنبر و المسجد، و رأي النبي (ص) في مقعده منهما لم يتغير عليه شي ء. فانقلب الي الحس و الواقع فأنكر ما يري و سما به الطموح فقال في جد القول لعمر (ض)، انزل عن منبر ابي و اذهب الي منبر ابيك. و كأنما مس عمر بتيار تأمله، فشمله نوع من انكار الذات، فقال له: «لم يكن لابي منبر».

تراجعت نفس امام نفس، و قالت الحقيقة مقالها علي لسان عمر الحكيم، و دخلا في صموت بقيت الحقيقة تتجاوب فيه بصدي عميق علي همسات الحصي المتخافتة التي كان يقلبها الحسين بيديه. و كان منظرا له مغزاه.

الطفل الذي يقلب الحصي بيديه، لانه محدود بالطفولة، هو الذي تطمح نفسه بسر القلب الكبير لكي يتسنم الذروة التي تنتهي عندها أحلام الناس. منظر رائع هذا الذي يقع بين عبث الطفولة، و بين جد القلب.

منظر كان رمزا لمعني نبوي أعمق، و هو أن أسمي ما تجيش به اماني الناس


في أحلام الشهوات، لا يقابل في منطق الحقيقة العظمي، الا بضحكات الحصي الناعمة ينما تقلبها يد عابثة.

مرت بعمر (ض) خواطر مختلفة في فترة الصموت القصيرة التي جرت بينهما، و لكنه بقي شاخصا تحت وحي نفسي غريب، مبعثه الاعجاب و التساؤل.

كلمة صارمة لم يكن مبعثها البتة سذاجة الطفولة، أو حديث الببغاء «عقله في اذنيه» بل جد الشخصية الكبيرة. فذهب يسائله: «من علمك»، و لما أيقن أنها بادرة من وحي الشخصية الكامنة، انصرف اليه لأنه وجد فيه الرجل الكبير الذي يحاول أن يطفر الي خارجه فقال له: «بأبي لو جعلت تغشانا» يريد بذلك أن يأخذه بسنة الحكم و ينمي عليه شخصيته الملتهمعة من وراء الزمن حتي لكأنها غير محدودة به. و لقد نطقت الحقيقة مرة أخري علي لسان عمر الشهيد «انما أنبت ما في رؤوسنا الله ثم انتم».

و في القصة استصغار و طموح و شخصية، ثلاثة معان اذا انتظمت كانت اكليل غار.

مجد العرب نواة غرسها في الهامات الله ثم أنتم...

و قد نبتت في جراح الكبرياء، حين أجري اليها النمير الصافي الله ثم أنتم...

و التفت علي الرؤوس كما تلتف الغيضة بالأزاهير و النوار، بما روحها الله به من نسمات ثم انتم... و ازدهرت غصون المجد بالفضائل المنظومة و المكارم المنثورة، بما نفخ الله بها من روح ثم انتم...

و مجد العرب و الاسلام يعود كما بدأ، فانما مبعثه علي التاريخ الله ثم انتم...


پاورقي

[1] راجع الاصابة لابن‏العسقلاني ج 2، ص 15. قال ابن‏حجر: سنده صحيح.