بازگشت

في عهد أبي بكر


الذي في معرفتنا من أخبار الحسين (ع) في عهد ابي بكر (ض) قليل للغاية؛ و الشي ء المحقق انه كان في التاسعة من عمره، و انه رزي ء بامه، و هو رزء أحس بعظيم وقعه، و كان له بلا ريب رجع عميق في نفسه الغضة اللدنة، و أنه شهد اباه اذ أقام أمدا ليس بالقصير علي خلاف ابي بكر، و أنه انطوي علي شعور طفل مغيظ محنق حين أخذ ابوه بسياسة العنف و الشدة، علي ما اجمعت عليه الروايات، فقد كان بيته - في لغة هذا العصر - مراقبا [1] ؛ فهذا الضرب من السياسة كان له أثره في موطن شعور الحسين. لذلك نتعلق في هذه المرحلة من حياته بدراسة تربوية نفسية.

رغم الفلسفات المختلفة في الاسلوب الي حد التباين التي تدرس اسرار النفس و الحياة، و هي: نظرية الحيويين [2] و نظرية المعضونين


الفيزيولوجيين [3] ، و نظرية الحيويين البيولوجية [4] و نظرية الروحية الحديثة [5] يتفق العلماء علي الاعتراف بأثر البيئة في البناء الروحي للكائن، و برابطة الجبر الكلي بين لون التفكير و البيئة.

و البيئة ذات تأثير مادي علي النفوس؛ و هذا التأثير يؤدي الي شكلين من الخضوع، ينحصر الاول منهما في الاستسلام شيئا فشيئا لعادات و أحكام استسلاما غير مدرك و متنوع الدرجات، فترسخ هذه في الزمن خلسة و تبقي في مأمن من روح النقد، و يصور الاستسلام احيانا للانسان الخطأ صوابا و الظن حقيقة ثابتة و الباطل حقا، فقد يضعف هذا التأثير روح العدل عند القاضي ان قيده المشترع بتطبيق قانون عرف انه مخالف للعدل، و تهيج البيئة الخمار فيدمن الخمر، كما تحرض أنواع البيئات افرادها علي الاخذ بأنواع معينة من الشعور و التفكير و الحركة. و أما الشكل الثاني و هو مكمل للاول فينحصر في ان الخاضع لتأثير ما ترفض نفسه كل تأثير من نوع آخر، الا اذا كان للتأثير الجديد تيار شديد جارف.

و بيئة الحسين اخذنا عنها صورة في درس الطفولة، و الذي خرجنا منه هناك أن بيئته كانت ينبوعا جري بأرفع عقيدة مثالية، هذا الينبوع الذي انقلب سريعا الي محيط خضم جرف في طريقه كل مثالية لكل امة.

فالحسين من هذه الوجهة غذي بلبان العقيدة و نمت أعصابه علي نميرها، و كان


ميراثه العقلي منبثقا منها. فلم يكن قبليا، لأن القبلية قد هوي بنيانها، و لم يكن ذا عصبية في غير عصبية الدين، و كان متشبعا بمبادي ء المثل الاعلي بمقتضي النشأة. و هذه نتيجة طبيعية للبيئة ذات الطابع الخاص، و لا نعلم تأثيرا جديدا كان له ذلك التيار الجارف حتي يقوض ما بنت البيئة الاولي من هيكل قدسي في نفسه. و الذي يقف علي ما جاء في كتاب ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي [6] يقف علي لون التربية الروحية الزاهدة التي اخذ بها الحسين (ع) و هي متمثلة في كلمة واحدة من خطبة أميرالمؤمنين علي (ع) و هي (لولا ما اخذ الله علي العلماء أن لا يقاروا علي كظة ظالم و لا سغب مظلوم، لا لقيت حبلها علي غاربها و لسقيت آخرها بكأس اولها و لألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز).

و من الخير ان نذكر طرفا من وصيته الي الحسن (ع) و هي تعبر احسن تعبير عن المسحة التربوية التي مسح بها ابناءه، قال: (اوصيك بتقوي الله و لزوم امره و عمارة قلبك بذكره و الاعتصام بحبله، و اي سبب أوثق من سبب بينك و بين الله ان انت أخذت به.

أحي قلبك بالموعظة و أمته بالزهادة و قوه باليقين و الرضي، و عليك بأخبار الماضين فانك تجدهم قد انتقلوا عن الاحبة. فأصلح مثواك و لا تبع آخرتك بدنياك و امسك عن طريق اذا خفت ضلالته، فان الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الاهوال. و أمر بالمعروف تكن من اهله، و انكر المنكر بيدك و لسانك و باين من فعلك بجهدك، و جاهد في الله حق جهاده و لا تأخذك في الله لومة لائم، و خض الغمرات للحق حيث كان و تفقه في الدين و عود نفسك التصبر علي المكروه، و نعم الخلق التصبر، و الجي ء نفسك في الامور كلها الي الهك فانك تلجئها الي كهف حريز.

و اعلم يا بني ان احب ما انت آخذ به الي، الأخذ بما مضي عليه الاولون من آبائك، و الصالحون من اهل بيتك).


هذه وصية تعرفنا شيئا كثيرا من الالوان التي كان يمزجها الوالد الحكيم و يصبغ ابناءه بها. و هي وصية ذات وحدة لا تعدو المثالية، و ظاهرة لا تخفي و هي الانتفاء من زخارف الدنيا التي مردها الي التراب، ثم لا يبقي منها الا أسراب في احلام و أحلام في اسراب. و ان من الثابت علميا أن لكل شخص فلسفة خاصة به منشؤها المزاج و البيئة، فلسفة تحدد في نفسه ادراك العالم و الله و الروح و الخير و الشر و الحق و الواجب. و من شأن التركيب الانساني، أن يحول العارض العضوي الي عارض نفسي يهتز به المخ اهتزازات خاصة. و قد أوضح هذا أصاب النظرية الميكانيكية [7] .

فالبيئة التي مالت به و تحكمت بأحاسيسه و مشاعره كانت نقية و بالغة في النقاوة، و الآن نعود الي فهم مقدار العناية التي بذلها والده العظيم بتخليقه و الحيلولة بينه و بين جموح نفسه بقساوة، اذ حور المبادي ء الادبية الاولي التي تكونت عنده علي الشكل الذي ذكره بستالوزي؛ و من الضروري ان نذكر تمام الفصل الذي اثبته في كتابه: (كيف تعلم جرترود اولادها)، قال:

(فالطفل كما لاحظنا فيما سلف يحب والدته و يشكرها و يعتمد عليها مادام هو في حاجة اليها، كذلك هو يحب الخالق تعالي و يشكره مادام يشعر باحتياج اليه، و بزوال هذه الاسباب تزول نتائجها فتضعف هذه العواطف في فؤاد الطفل نحو والدته حالما يشعر باستقلاله.

و في هذا الدور من الحياة يظهر العالم للناشي ء في مظهر جديد، لم يدركه و هو طفل، فينظر اليه بعين جديدة، و ينخدع قلبه بمناظره و مسراته، فيناديه العالم و لسان حاله يقول: «اقبل علي الآن يا بني فأنت لي»؛ فلا يسع الانسان، في ذلك الدور حين تضعف في نفسه عاطفة الطفولة و تدب في صدره قوة الشباب و شهواته، الا اجابة


ذاك النداء و الاقبال علي العالم، فتتبدل فضائل النفس و تموت، ان لم يتدارك الوالد الامر، و ينتشله في هذا الموقف الحرج من السقوط؛ و ذلك لا يتم الا بتوجيه عواطف الطفل التي يشعر بها الي الخالق تعالي و ربط حلقة الاتصال بينه و بين الله.

ايها الوالدان! يسعي العالم بكل طرق الغواية لينتزع الطفل، فان لم يوجد في هذا الوقت من يستطيع تغليب عواطفه الشريفة علي شهواته فقد ضاع لا محالة - نعم ان العالم يعمل علي ان يختطف الطفل، فيصبح زخرف العالم و مسراته هي والدته الجديدة، و شهوات الجسد و الاستسلام لهوي النفس معبوده و سيدته.

ايها الناس! يجب عليكم في هذا الدور، و هو دور انتقال الطفل من عهد الصبوة الي الشباب، حين تزول من نفسه عاطفة الطفولة و تزهو نفسه و ترقص طربا بهذا العالم و مسراته، و يشعر باستقلاله و استغنائه؛ في هذا الدور، حين تضعف في فؤاده تلك العواطف الشريفة و يتسرب الي نفسه حب العالم و تلعب بقلبه مظاهره و تمتلك لبه مفاسده، ينسي كل المبادي ء.

نعم في مفترق هذين الطريقين يجب عليكم ان تبذلوا الجهد لتحويل عواطف الناشي ء حتي تبقي الحياة الانسانية الادبية ماثلة بينه و بين نفسه، و بزوالها تزول روح الله من قلبه. فالعالم الذي يتطلع اليه الشاب اليوم بعيني شبابه هو غير ذلك العالم الذي أوجده الخالق في فطرته الاولي، بل هو عالم أفسدته يد الانسان و صيرته مفسدة لمشاعره الخارجية و عواطفه الداخلية، هو عالم مملوء بشباك الشر لا قتناص نفس الشاب؛ فالشاب، مع ما فطر عليه تركيبه البدني و لرجاحة كفة البدن في هذا الدور من العمر علي كل قوة اخري فيه، نراه سريع الانقياد لشهوات الجسد تؤثر فيه و تتغلب علي نفسه المؤثرات المادية علي اختلاف انواعها و أشكالها، فنراه يصبو الي ملذات هذه الحياة يزهو بزهوها و ينخدع بسرابها.

لذلك يكون من الخطل في الرأي و النقص الفاحش في نظام التربية ان يهمل شأن تربية الاخلاق في هذا الدور، و لا يبذل الجهد في تقوية عنصره الروحي الذي لا معدي عنه للتغلب علي قوة بدنه و شهوات جسده، و الا فالشاب لا


محالة منحدر في تيار هذا العالم، تلعب به امواج مطامعه و مفاسده و تجرفه آثامه، و بذلك يقضي علي نفسه و أخلاقه قضاء مبرما. بهذا الاهمال تضيع من نفس الانسان ملكة التعقل و التنبه الاخلاقي التي تحفظه من السقوط، و توصد في وجهه ابواب الفضائل و مكارم الأخلاق، و تسير به شهوات الجسد في طريق بعيد يقطع كل اتصال و يفصم كل رابطة بين العقل و الضمير، و بانفصام عروة هذه الرابطة تنقطع كل علاقة بين الانسان و خالقه، و في قطع هذه العلاقة الشريفة الضربة القاضية علي نفسه التي هي المميز الوحيد للانسان عن الحيوان، بهذا يصبح الانسان حيوانا عالما مفكرا.

يجب ان نضع للتربية نظاما يكفل نمو العقل و العواطف نموا متساويا يؤدي الي الموازنة في القوي و المحافظة علي العنصر الاخلاقي، و يمنعه من السقوط الادبي و محبة الذات التي تنشأ عادة من تغلب قوة الجسم علي قوة العواطف و الضمير.

و هنا نسأل كيف الوصول الي تغليب المبادي ء علي الشهوات، و حب الاحسان علي الاغراض و الميول؟ فنقول: الجواب في التركيب الطبيعي للانسان. و طريق الوصول الي هذا الهدف أن نسير مع منهاج ذلك التركيب الطبيعي، فنجعل اساس التربية اخضاع العنصر الجسدي الفاني الي العنصر الروحي الخالد، و كلما نما البدن و اشتد اخذنا زمامه و سرنا به تحت ارشاد مبدأ سام يجري علي وفقه و يعمل علي منهاجه؛ و يرجع هذا المبدأ السامي الي قاعدتين:

(1)تقديم تربية العواطف و تهذيب القلب علي انماء العقل و تقوية الفكر.

(2)التأمل في القانون الطبيعي الذي يخضع له الانسان في نموه، فتسير التربية بموجبه و لا تقف في وجه ذلك القانون الطبيعي الذي رأي الخالق انه احسن أسلوب يسير عليه الانسان في نموه. ألا تري ان الطفل يبدأ نموه بتمرين حواسه الخمس، و انه يقضي زمنا طويلا في هذا النمو، قبل ان تساعده الطبيعة علي تنبهه العقلي، و تمهد له سبيل النمو الفكري. لذلك تراه يقضي جزءا كبيرا من عمره خاضعا لعواطفه و أحاسيسه قبل تحكيم نفسه.)


هذا فصل في قصة التربية الدينية كما يراها العلامة بستالوزي؛ و فيه نقاط ذات أهمية و قيمة. و قد أنبهنا الي دور الانتقال او التحول الذي يدك ماضي الناشي ء الصاعد في الاخلاق، ليبنيه بناء آخر مشتقا من الوان الحياة المترفة و نأمتها المغرية.

و المربي المذكور يحصر اهتمامه بتنمية العواطف عن طريق الدين، و يراها أقوم طريق يعطينا النش ء المنتخب. و الآن نستقبل الحسين (ع) في هذا الدور: دور الانتقال فنجده مغلوبا بتربية دينية نادرة من حيث ما اجتمع فيها من ينابيع مثالية أول ما تفجرت، فارتوي و لما يجاوز الينبوع منبثقه، فلم يتغير بشي ء مر عليه في مجراه، لانه لم يبعد عن منبعه بعد.

فالعهد الرسولي السابق كان يلتمع من فوق برج الحياة و يرسل أشعته أبعد ما تصل، و الحسين تغمره كل شعاعة و كل بارقة.

و سنأتي في فصل: «تاريخ مقارن» من هذا الكتاب علي تبيان الفرق التربوي بين الحسين (ع)، و يزيد الذي كان ذا تفكير قبلي لانه نشأ في محيط القبلية في بني كلب حتي دور الشباب، و كان ذا عصبية لأنه غذي بروح النزعة الاموية، و كانت مسحة تربيته مسيحية بعد ما ترجح لنا أن أستاذه من نساطرة الشام، و كان مستهترا لانه لم يأخذ في دور التحول و الانتقال بشي ء من التربية الدينية التي دل عليها بستالوزي.

و كان ميراثه العقلي فقيرا من الروح المثالي تركز في الجماهير. و هذه نتائج طبيعية جدا، لا مجال لمناقشتها الا اذا حاولنا قلب الحقائق و تحررنا من المنطق الواقعي.

و هنا لا نغفل ما تركت الارزاء المجتمعة التي تناولت نفس الحسين (ع) في اكثر ما تكون غضارة ولدانة، فهو قد شعر بفراغ مرير حين اصيب بجده العظيم، و زاد هذا الفراغ اتساعا و دكنة حين تناولته الاقدار بأمه الرؤوم، و انحنت نفسه علي حفيظة - اذا ساغ لنا أن ندعوها كذلك - حين وضع بيت ابيه تحت المراقبة الشديدة و انتهكت حرمته بدون لباقة، حتي لقد بقي ابوبكر متأثرا و نادما ندما عصبيا علي ما


فرط منه، فقد فتش بيت علي (ع) فتيشا دقيقا حذرا من أن يكون قد أعد العدة لاحداث انقلاب يطيح بالحكومة القائمة. و السيدة فاطمة قبضت يدها عن ابي بكر فلم تبايع، و تأثر الهاشميون حركتها فلم يبايعوا.

فهذه الاحداث الهامة لم تمر علي الحسين مرا ساذجا بدون أن تترك آثارا لها خطر. و المحقق، بمقتضي عمل الفعالية الصامتة، انها مست مشاعره بأثر غامض: أثر يجعله ينقم و يتشجع علي الانتقاد؛ و سنورد قصة بادرة وقعت من الحسين في عهد عمر توضح لنا صدق ما نقول. فنفسه كانت مفعمة بشي ء خفي مجهول، الا انه يميل به دائما الي الانتصاف، خصوصا و شعوره مرهف دقيق الاحساس.



پاورقي

[1] ذکر الطبري في «التاريخ» ج 4 ص 42 ان ابابکر قال: وددت اني لم اکشف بيت فاطمة و لو انهم غلقوه علي الحرب.

[2] النظرية الحيوية (Le vitalisme) تعتبر الحياة سلسلة من العوارض، و المادة سلسلة اخري؛ و يقول انصارها بتضامن السلسلتين و تباين منشأيهما. و هذه النظرية تفرعت من المذاهب الروحية و اشتهر بها شتاهل و لوردا. ان مبدأ الحياة علي آراء علماء مدرسة مونبيليه يخالف مبدأ الروح و مبدأ الجسم، و لهذا تنوعت العوارض التي تظهر في الانسان الي انواع ثلاثة و هي العوارض الطبيعية الکيماوية و هذه تنشأ من قوات الجسم المادية، و عوارض المفکرة و هذه تنشأ من الروح، و عوارض الحياة و هذه تنشأ من القوة الحيوية.

[3] نظرية التعضون الفيزيولوجي (L organicisme) و انصارها يعتبرون ان مبدأ الحياة و مبدأ المادة شي‏ء واحد، فهم يرفضون النظرية الميکانيکية اذ لا يعتبرون الحياة نتيجة نهائية لحرکات منشؤها ما للمادة من الصفات العامة بل يقررون أن الحياة ناشئة عن صفات خاصة سموها الصفات الحيوية و يتصف بها نوع معين من المادة.

[4] النظرية الحيوية البيولوجية (neovitalisme)انصارها يعتبرون مبدأ الحياة مختلفا عن مبدأ المادة.

[5] النظرية الروحية الحديثة (animisme) انصارها يقررون وجود روح و خضوع المادة لها، و يقولون بوجود قانون مطلق نافذ الحکم علي العالم المادي و ما الحالات العقلية الا حالات تطرأ علي الروح. و عندهم الروح بمثابة قوة عالية مهيمنة توجد حرکة القوات المتعددة و تدفعها نحو غاية واحدة؛ و بهذا يفسرون ما يوجد بين الحياة العقلية و الحياة العضوية من التوافق.

[6] کتاب جليل في موضوع للمحب الطبري.

[7] اصحاب هذه النظرية لما وجدوا تعادلا بين العمل الميکانيکي و القوات الاخري، اي وجدوا نسبا معينة بينها، مدوا درس الميکانيک علي عوارض القوة، و قرروا ان الرابطة بين المخ و النفس ليست رابطة التعادل «رابطة الضرورة» فقط، بل ان المخ هو الاساس المادي، و النفس هي مظهر من مظاهر المادة.