بازگشت

درس و تحليل


يحسن بالدارس أن ينعم النظر كثيرا في هذه الفترة من حياة الحسين (ع)، لانها تفهمنا سر حركاته التي أتاها في أزمان رجولته، فان هذا الوجود الصغير للكائن يطبع عليه وجوده الكبير بطوابع قلما يتحلل منها او ينفصل من آثارها. فتعهد الطفل في هذا الدور هو ما يجعلنا نطمئن اليه و نثق به، فان رعاية غرائزه و توجيهها يحفظ عليه توازنه الذي هو اس الشخصية الكاملة.

و يجدر بي أن انقل تصوير الاستاذ بستالوزي و تمثيله الرائع للتربية، قال:

(تتمثل لي التربية بشجرة مثمرة، بجانب جدول مياه جار، و ما أصلها الا حبة صغيرة اودع الخالق فيها شكل هذه الشجرة و خواصها و أثمارها، فلما غرست و تعهدها الزراع بما يساعد الطبيعة علي عملها ظهرت تلك الحبة في شكل نبات ثم نمت و ترعرعت حتي كبرت و أينعت و أثمرت، و ما هي الا الحبة الصغيرة مكبرة نامية.

و هذا هو الحال في الطفل الذي اودع فيه الخالق تلك القوي التي تنمو و تظهر معه بالتدريب، فتنمو أعضاؤه و ملكاته تدريجا حتي يصبح من مجموعها وحدة. فيجب علي المربي ان يساعد قوي الطفل البدنية و الادبية و العقلية علي النمو الطبيعي، دون استعمال الطرق الصناعية، فينبغي ان ينمي الايمان في الطفل لا بالكلام النظري، بل بما ينشأ عليه الطفل بتصديقه الفعلي و رسوخ الاعتقاد في نفسه).


هذا تمثيل حقيقي لعمل التربية في انماء القوي الادبية و ما اليها، و هي لا تزال تعمل عملها حتي تعود الادبيات ملكات راسخة؛ و بذلك يتحقق الغرض الاسمي من التربية الأخلاقية الذي هو ان تستحيل الأفعال الاخلاقية الارادية افعالا لا ارادية «علي ما يقول لوبون في كتابه: روح التربية».

هذا الغرض التربوي هو الذي اراد النبي (ص) ان يشيعه في نفس الغلام، و كذلك علي (ع) من بعده الذي ما فتي ء يمده بالمعنوية المتدفقة، تلك المعنوية التي لم يكن يدركها انحسار بل هي في مد علي الدوام، و ذلك لأن ايمانه غرس الطفولة و الشباب و الكهولة و الهرم، فأدبيات الاسلام و مثالياته عادت في نفس الاب من الصنف اللاارادي.

و الاسلام، في طقوسه و رياضاته، يرمي الي هذا الهدف العميق، الهدف الذي كان يعمل له اهل اسبرطة القدماء - كما يقول مونتسكيو في كتابه: روح الشرائع - فانهم كانوا يفهمون التربية لا علي شكل أن يكون المرء معها فاضلا، بل علي شكل ان لا يمكن أن يكون الا كذلك. فأعمال الفضيلة عندهم لا تكون شيئا اذا كان يصحبها القصد الأخلاقي، فانها بذلك تكون متكلفة سرعان ما تحور اذا وجدت الدوافع عنها و الجواذب الي منافياتها؛ فالاسبرطي كان يصدق، لا لان الصدق فضيلة و عمل من الأخلاق، بل لانه كذلك ينبغي أن يكون.

فهذا النوع من التربية عند الاسبرطيين هو ما قام عليه الاسلام، فالمسلم الصحيح الاسلامية فاضل عصبا و دما قبل أن يكون كذلك في الميل و الشعور. و للمسلم طبيعة كأنها مشتقة من طبيعة الآلة كيفما اقمتها لا نتج الا ما استوي في تركيبها؛ و تركيب المسلم الصحيح استوي علي مثل من الفضيلة و أعمال من الاخلاق، فهو لا يجاوزها الا اذا لم يكمل تركيبه الاسلامي او نقص منه شي ء افسد علي الآلة حركتها.

فالنبي (ص)، كذلك اراد سبطه، فبارك طفولته و أخذه بضرب من التهذيب العميق الذي كانت له نتائج مثلي بما يدعونه في الفسلفة بالفعالية الصامتة


الكامنة في النفوس. قال [1] بعض كبار النفسيين: (لا نعرف ماهية هذه الفعالية الصامتة حق المعرفة، من ذلك لو قلتم لنفس من النفوس كلمة بسيطة لم تفقه لها معني، لظننتم كلمتكم هذه لم تلبث اذ عاشت أن تلاشت، و لكن يأتي يوم تظهر فيه هذه الكلمة ثانية بعد أن طرأ عليها تحولات غريبة فيراها الانسان قد جاءت حينئذ بثمرات كثيرة لم يكن يتوقعها. فالنفس تحول ما نودعها اياه من الاشياء البسيطة الي أشياء خطيرة رائعة).

فهذه لفعالية الصامتة كان لها عمل في تحويل ما استودع النبي (ص) في نفس الغلام من الوان و تكبيرها، حتي انها لتفيض بالروائع لانها الوان اجتازت [2] عتبة الشعور، و استقرت حيث تعود مؤثرا أعظم فيما يصدر من الانسان مباشر او بوسيلة ما.

نحن لا نشك بأن نصيبه من تربية النبي (ص) لم يكن طويلا، و لكن ليس معني هذا انه لم يكن كبيرا بما ترك من آثاره النفسية عليه. فان الحسين (ع) عايش جده الي ما بعد السادسة من عمره، و لا ريب في انها سن تسمح لصاحبها بأن ينقل الي دخيلة نفسه كثيرا من مشاهداته، يساعده علي ذلك الخلو النفسي. و هذه المشاهدات تركت في نفسه آثارا لها شأنها و لها خطرها. و اذا نظرنا الي ان النبي (ص) علقه و اخاه حتي عدهما ريحانتيه، وقفنا علي مقدار ما زودهما به النبي من آيات تربيته العالية، و ما أغدق به عليهما من هبات نفسه الكبيرة. و الظاهرة البادية في تربية النبي التي كانت لا تخفي حتي كأنها المدار التربوي هي الأخلاق و الاخلاق قبل كل شي ء. و هذا اساس متين، فان الاخلاق عامل تقدم و بقاء، كما ان انحلالها عامل السقوط الآكد، علي ما يظهر من مطول (جيبون) المؤرخ المشهور عن رفعة


الدولة الرومانية و سقوطها. و اظهار روائع التربية النبوية عليه هو ما أوسعناه و انصرفنا اليه في الحلقة الثالثة من سيرة الحسين (ع). و من المستحسن ان انقل هنا ما جاء في [3] مؤلف بستالوزي النفيس فيما يتعلق بالتربية الدينية، لنشخص اثر والدته فيه، قال:

(و هنا أسعي لحل مسألتي في نفسي، فأسأل: كيف تولدت فكرة الله في نفسي؟ و كيف وصلت للاعتقاد فيه تعالي، حتي ارتمي بين ذراعيه و أشعر بنعمته كلما احببته و اعتمدت عليه و شكرته و أطعته؟.

فأري ان هذه الاحساسات - احساسات المحبة و الشكر و الثقة و الطاعة - لابد من وجودها في داخلي قبل أن أشعر بها نحو الله تعالي. اذ يجب أن يكون لدي هذه المحبة و الشكر و الثقة و الطاعة نحو الناس قبل شعوري بالمحبة و الشكر و الثقة والطاعة نحو الله تعالي، من لا يحب اخاه الذي يراه، كيف يمكن ان يحب الله تعالي الذي لم يره؟.

حينئذ أسأل نفسي: كيف وصلت الي محبة الناس و شكرهم و طاعتهم و الثقة فيهم؟. و كيف نمت هذه الاحساسات في طبيعتي حيث تسكن المحبة الانسانية و الشكر الانساني و الثقة الانسانية و الطاعة الانسانية؟ فأجد أن الاصل الوحيد لكل هذه العواطف تأتي من العلاقات الكامنة بين المولود والدته. فالوالدة بما اودع فيها من الغريزة الفطرية مدفوعة الي العناية بمولودها فيبتهج خاطره، و من ذلك تتولد في فؤاده عاطفة المحبة و الثقة و الشكر. يعرف الطل وقع قدمي والدته و يبتسم كلما شاهد خيالها، و يحب كل من علي شاكلتها، و يعتقد ان كل مخلوق مثلها هو مخلوق طيب، فكما يبتسم في وجه والدته يبتسم في وجه كل انسان: يحب كل من تحبه و يعانق كل من تعنهم، و من ذلك تتولد فيه عاطفة الانسانية و الاخاء.

فالمحبة بنت الحاجة و عنها نشأت. و الشكر مولود التغذية، و لولاها لما ازهر في فؤاد الطفل، و الثقة بنت العناية، و الطاعة وليدة القلق، فنري الطفل يصرخ و يقلق


قبل تعلمه الصبر و الطاعة، و مع أن القلق و الصبر متناقضان، فان اولهما يؤدي الي الثاني؛ و من هذا ينتقل الطفل من درجة الطاعة القهرية الي الطاعة الاختيارية التي تنمو مع الزمن بزيادة الادراك و نمو الاختبار.

من ارتباط الطاعة و المحبة و الشكر و الثقة و اتحادها في نفس الطفل يتولد الضمير و به يشرق علي عقل الطفل، لاول مرة في حياته، ثم يرتقي ادراكه فيعلم أن كل ما في الوجود لم يخلق له وحده، ثم [4] يتدرج في سلم الترقي حتي يصل الي اعلي درجات الشعور الانساني، فيدرك انه هو نفسه لم يخلق في هذا الوجود لذاته، و من هنا يبدأ بمعرفة الواجب و الحق.

هذه امهات الفضائل الادبية، و جميعها منبثقة من العلاقات الكائنة بين الوالدة و مولودها. و متي نما و قوي و أنس من نفس القدرة علي القيام بحاجاته، دبت في صدره روح الاستقلال و شعر أن له شخصية مستقلة عن والدته، و بزوال حاجاته الاولي نحو والدته تضعف من نفسه تلك العواصف و الفضائل التي غرستها هذه الحاجات. حينئذ تحدثه نفسه الامارة بالسوء، فيقول (انني لست في حاجة بعد الي والدتي) و هذه الفكرة لابد ان تصطرع في نفسه، بمجرد شعوره بالاستقلال؛ و واجب الام هنا عظيم جدا و الا تهدم عليه بناء المبادي ء الادبية التي آنس بها و هو فطيم، و لا وسيلة لانقاذه من هذا الموقف الحرج الا بتوجيه عواطفه و عقله الي قوة اعظم و قدرة اتم و أوفي من قوتها و قدرتها، مرشدة له بأنه و ان زال احتياجه اليها، الا أن خالقه و خالقها و موجد هذا الكون و الوجود و مبدع جميع الكائنات، هو الذي يجب الاعتماد عليه و الرجوع اليه، و هو الذي يمده بالمساعدة التي تعجز هي عن تقديمها له كلما التمسها منه تعالي، و هو مصدر كل راحة كما انه الذي يمهد له سبل السعادة التي ليس للوالدة اليها سبيل.


بهذه الوسيلة تمنع الوالدة الحكيمة ولدها من السقوط في هذه النقيصة، و تغرس في فؤاده شعورا حيا و مقاصد عالية، و ايمانا ثابتا في الخالق يرتفع بنفس المولود عن مستوي هذه الماديات المحيطة به، فيبتهج كلما سمع من فم والدته اسم ذلك الخالق القوي الرحيم، و يشعر فؤاده نحو الله بذلك الحب و الشكر و الثقة التي كان يشعر بها نحو والدته، فيتطلع اليه تعالي كوالد رحيم.

متي غرست في فؤاد الطفل هذه الفضائل نحوه تعالي، خطا نحو الفضيلة و التقوي خطوة واسعة، لأن الشاب الذي يتطلع الي الله و هو في عنفوان شبابه، كما كان يتطلع الي والدته في سني طفوليته، يقوم بعمل الواجب و الصواب حبا في الله كما كان يعملهما حبا في والدته.

علي هذه الملاحظة الجديرة بالاعتبار، يجب ان تؤسس التربية الاخلاقية، فاننا اذا ادركنا ان عواطف المحبة و الشكر و الثقة و الطاعة هي ثمرة ائتلاف غريزي بين الوالدة و المولود، امكننا ان ندرك ان نمو هذه العواطف و الفضائل يتوقف علي مقدار تشبع نفوسنا و العمل بمبادي ء الاخلاق؛ يجب علي الوالدة ان توقن أنه لابد من يوم في حياة كل مولود في هذا الوجود، تضعف في نفسه تلك الاسباب، و يشعر فيه باستغنائه عن والدته؛ و بدخول هذا الشعور الي نفسه، تضعف هذه العواطف فيه نحوها، و بهذا يتسرب اليه الضعف الاخلاقي الذي يجعله عرضة لأخطار أدبية مخيفة. فالطفل كما لا حظنا فيما سلف يحب والدته و يشكرها و يعتمد عليها مادام هو في حاجة اليها، كذلك هو يحب الخالق تعالي و يشكره و يعتمد عليه مادام يشعر باحتياج اليه؛ و بزوال هذه الاسباب تزول نتائجها، فتضعف العواطف الطيبة في فؤاد الطفل نحو والدته حالما يشعر باستقلاله و عدم حاجته اليها).

من هذا نتبين أن الطفل يتعرض الي دور انتقال خطير، و الام وحدها هي التي تستطيع انقاذه و الاستيلاء علي مشاعره لتوجيهها توجيها آخر يكون اكثر ثباتا، و هذا التوجيه الذي هو من وظائف الام الاولية يتوقف و يتفاوت علي ما استوي في نفسها من ادبيات سامية و أخلاق رفيعة.


و الذي انتهي الينا من مجموعة أخبار الحسين (ع)، أن أمه عنيت ببث المثل الاسلامية الاعتقادية، لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة علي اتم معانيها و أصح أوضاعها، و لا بدع فان النبي (ص) اشرف علي توجيهه أيضا في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال.

فالسيدة فاطمة أنمت في نفسه فكرة الخير و الحب المطلق و الواجب، و مددت في جوانحه و خوالجه أفكار الفضائل العليا، بأن وجهت المبادي ء الادبية، في طبيعته الوليدة، من أن تكون هي نقطة دائرتها الي الله الذي هو فكرة يشترك فيها الجميع.

و بذلك يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة حين أدار هذه المبادي ء الادبية علي شخص والدته، و قصرها عليها و ما تجاوز بها الي سواها من الكوائن. و رسمت له والدته دائرة غير متناهية حين جعلت فكرة الله نقطة الارتكاز، ثم أدارت المبادي ء الادبية و الفضائل عليها، فاتسعت نفسه لتشمل و تستغرق العالم بعواطفها المهذبة، و تأخذه بالمثل الاعلي للخير و الجمال.



پاورقي

[1] راجع کتاب الفلسفة الحديثة ج 1، ص 65 تعريب جميل البحرة. و رأيت في کتاب: درس في الغرائز ان اباالعلاء کفته الحاسة التي بقيت عاملة عنده الي سن الثالثة ان تزوده بخيال تصويري عميق فتأتي له معها ان يتخف الادب بکثير من الصور البصرية الرائعة.

[2] le seuil la conscience للعلامة بوانکاره في الاتية التي لا يشعر بها بحث دقيق.

[3] اسم هذا المؤلف how Gertrude teaches her children اي کيف تعلم جرترود اولادها.

[4] قال بستالوزي، في موضوع آخر من مؤلفه: واجب الام في هذه الادوار عظيم جدا و توفيقها في مهمتهما التربوية يرجع الي درجة استعدادها هي و تهذيبها. و السيدة فاطمة ابنة الرسول الاعظم کانت اوفر ما يکون استعدادا و اسمي يکون تهذيبا.