بازگشت

درس و تحليل


يحسن بنا ان نعرض الآن الي درس ناحية هامة من نواحي طفولة الحسين (ع)، و هي الوراثة و مكانها عنه.

يظهر للباحث في قانون الوراثة بأنها علي صنفين: وراثة تاريخية، و وراثة تأثرية او انفعالية؛ و نعني بالاولي انتقال الصفات النفسية التي للاجداد الي المولود، و بالثانية انتقال انواع الشعور التي تتأثر بها الام الي الجنين؛ و هذا الصنف من الوراثة ثابت الأثر، و هو قانون طبيعي تخضع له جميع قوي الانسان و مداركه المادية و العقلية و الادبية. و الامثلة علي هذا كثيرة، و نذكر منها علي سبيل الايضاح ما يأتي:

كان الفيلسوف [1] هوبس الانكليزي يعلل ما فيه من خلق الجبن، بما لاقته أمه من الأهوال في أثناء حملها به، حينما كانت العمارة الاسبانية المسماة ارمادة الشهيرة تهدد انكلترا، و تطوف حول سواحلها، و كان ما يتحمله اهلها من صورة اغارة الاعداء عليهم يلقي الرعب في القلوب.


و روي [2] احد العلماء ان والدة فلا كسمان النقاش المشهور، كانت مولعة بالفنون الجميلة و خصوصا النفش و التصوير، و كانت مدة الحمل تكثر من مشاهدة الرسوم و النقوش التي أبدعها أشهر الفنانين، فلما رزقت ولدها فلا كسمان ظهرت عليه و هو صبي ميول فطرية الي النقش و التصوير، و لما بلغ اشده أبدع أجمل التماثيل و أعظمها.

و نحن، علي ضوء قانون الوراثة بصنفيها، نجتهد في أن ندرس الحسين (ع) و نفهم طباعه الثابتة و التي هي في حكم الثابتة.

ذكرت في فصل التدين [3] ، من هذا الكتاب، أن آل هاشم مالوا، منذ أقدم التاريخ، الي التخصص بالشؤون الدينية، فكانوا يشرفون علي المناسك في الجاهلية و يتولون اعمالها بين ايدي الناس. و كان لهم بحكم هذا التخصص تربية خاصة تتصل اتصالا وثيقا بابداع الضمير الديني، و اذكاء الشعور ذي اللون التألهي. و بالفعل نري اكثر رجالاتهم في الجاهلية يضفو عليهم شعور من هذا القبيل، فهاشم و عبدالمطلب و ابوطالب، ثلاثتهم علي لون واحد من الاخذ الديني و الانتزاع الاجتماعي. و قد كملت الوراثة الدينية بالنبي (ص) اذ كان مظهرا للمضير الديني علي أتم أشكاله و أكمل أوضاعه.

فالحسين كان اذا غنيا - ما في ذلك شك - بما تراكب في دمه من الوراثات الدينية المتصلة علي طول حبل النسل الممدود في أعماق الماضي البعيد.

و لقد كان لهذه الوراثة بواد ظاهرة في كل تصريفاته الخاصة و العامة، و عليه فان من الواجب أن ندرس مآتيه علي ضوء هذه الوراثة الدينية النبيلة، و علي ضوء ما تضفي من أحاسيس تنزع بصاحبها الي المحافظة و التمسك بأهداب المثل، و ايقاع الجهود بسبيل صيانتها.


هذا أثر الوراثة التاريخية في الحسين (ع). و الآن نتناول آثر الوراثة التآثرية فيه؛ نعلم أن السيدة فاطمة وضعت الحسين و لها من العمر عشرون [4] سنة تقريبا، و كانت - كما جاء في مناقبها - عملا برا و معني صالحا، فهي لا تفتأ جاهدة علي اعمال التقوي. و في سنة ثلاث للهجرة التي كان فيها الحسين جنينا، وقعت غزوة أحد، و هذه أحدثت أبلغ الاسي و أعمقه في النفوس عامة، و نشرت علي الوجوه نوعا من الكآبة، و مسحتها بسهامة قاتمة، بسبب ما اصاب المسلمين، حتي لقد دخلت الوتيرة و الذحل كل بيت، و النبي (ص) اصيب بعمه حمزة (ض).

و هذا يشعرنا بأن السيدة فاطمة جزعت من نتائج هذه الغزوة التي لم تكن في جانب جيش ابيها، و أدركها الاسي العميق و الحزن المرير لفقد حمزة. و معني هذا ان الانفعالات التي تأثرت بها ورثتها لجنينها، و هي:

(1)اخذ النفس بأعمال البر و التعلق بحبائل التقوي.

(2)غلبة الشعور بنوع من الاسي، فقد كانت هذه الظاهرة واضحة عند الحسين في حياته. و لذا نراه قليل المرح قليل العبث كثير التفكير بمستقبل الامور وسط هذه الزعازع الناشبة و العالقة بأطراف المجتمع، و كان يميل في تفكيره الي نوع من اليأس.

(3)نضج السخيمة عنده علي الناكبين عن طريق الهدي، فان السيدة فاطمة لا شك أنه قد ملك مشاعرها تحرق شديد للانتقام من اعداء ابيها و لو في التمني، و هذا الشعور ورثه الحسين، و شاءت الظروف أن يكون أعداء جده الذين و تروه في احد، هم اعداؤه يوم استقبل الامويين بالكفاح و قد و تروه ايضا.


فالحسين، من هذه الناحية، كان مثقلا بمتارك الوراثة التأثرية و متلبدات الوراثة التاريخية؛ و هو، من بين هاتين الوراثتين، كانت له سيرته الخاصة و نهجه الخاص الذي ينزل منه منزلة الطبع لا يحور عنه و لا يحول.

و لقد ساعد هذه الوراثة علي اتباع خطتها، لون التربية في الطفولة، و مشاهد الرجولة الكبيرة الاهمية، و مروره بعدة ثورات لها خطرها، كالثورة علي عثمان و ثورة الخوارج علي ابيه و ثورة أهل المدينة التي كانت تعد في الخلفاء.

فهذه الوراثة و ما اقترن بها من التربية و المشاهدات أعدت منه رجلا كبيرا خليقا بأن يقوم بتطبيق أفكار الاصلاح الشامل التي اعدها ابوه العظيم، و سلكها في نظام دستوري نضيد.

و ان كنت أعجب من شي ء، فمن أولئك المؤرخين الذين يأخذونه بحركته و يعنفون عليه، و نحن في كل يوم نحيي، كأبطال، الرجال الذين يثورون علي حكوماتهم الفاسدة لقلب وضع و تركيز وضع، و ننتزع منهم عناوين مجيدة عن القلب الكبير النبيل الذي يفيض بأسمي معاني الاخلاص، من هؤلاء أو اعظم هؤلاء كان الحسين بن علي...



پاورقي

[1] راجع کتاب: التربية الاستقلالية، ترجمة عبدالعزيز بک محمد ص 50.

[2] راجع کتاب: التربية الاخلاقية للاستاذ ابادير حکيم ص 79.

[3] راجح الحلقة الثانية من هذا الکتاب.

[4] الخلاف في هذا يتبع الخلاف في سنها حين تزوجت من علي (ع)؛ فعند ابن‏سعد في «الطبقات» انها تزوجت بنت ثماني عشرة سنة، و عند الکلبي انها تزوجت بنت ست و عشرين سنة، و عند الصبان في «اسعاف الراغبين» انها تزوجت بنت خمس عشرة سنة، و عند الکليني انها تزوجت بنت اثنتي عشرة سنة؛ و الصواب من بين هذه الآراء انها تزوجت بنت ثماني عشرة، کما يقول ابن‏سعد و راق الواقدي.