بازگشت

القديم و الجديد


من طبيعة المجتمعات أنها تظل في حالة تغير و تزايل دائمة، فاي مجتمع لا يبقي حافظا لأوضاعه أمدا طويلا، بل يطلب اشكالا جديدة، و خصوصا حين يتصل و يحتك بمجتمعات أخري فانه يتأثر بها علي نسب متفاوتة. و هذا راجع الي الطبيعة في الكائن الحي الذي يؤلف المجتمع.. و قد كشفنا في التصدير عن مقدار ما يعرض للمجتمع باعتباره كائنا مركبا يعرض له ما يعرض للكائن البسيط؛ و هذه الخاصة، في كل من الكائن الحي و الكائن الاجتماعي علي نسبة متقاربة، هي الأساس الذي بنينا عليه النظرية الجديدة في التاريخ. فالارتقاء خاصية لازمة للجماعة، ما لم تحل الموانع دون عملها، و هذا هو التجديد.

فتجدد المجتمع اذا ضربة لازب، و هذا بعينه ما صادف المجتمع العربي الوليد، حين مالت الجماعة الاولي الي الزوال ليحل محلهم نش ء جديد له افكاره و ميوله و مذاهبه؛ و هذا النش ء، بما اجتمع له من أشكال اجتماعية و أوضاع مدنية لامم شي، كون لنفسه فكرة و لونا متميزا، و دخل بأشيائه الجديدة في دور صراع مع الجماعة الاولي بأشيائها القديمة، و تفاعل الجديد مع القديم تفاعل تناحر ضرورة أن كلا متهما يتشبث بأسباب البقاء.

و لعل أحدا لا يشك بأن محمد بن ابي بكر كان ينظر الي الحياة من غير


الناحية التي ينظر منها ابوه، فالنظرة العامة له انحرفت في كثير أو قليل. كما نلمس أيضا تأثر كثير من رجالات القديم بالالوان الجديدة التي انتقلت الي العرب بضم مجتمعات كثيرة ذات حضارة سامية، و كان من هؤلاء طوائف كبيرة من مثل طلحة و الزبير و زيد بن ثابت و عبدالرحمن بن عوف و يعلي بن امية الذين أخذوا بالترف و حياة الغضارة الناعمة، فاستكثروا من الاموال و مالوا الي اعتناق النظام الارستقراطي متأثرين بوضع الامم التي فتحوها، و نصلوا بدرجة كبيرة من النظام الديمقراطي الذي فرضته الطبيعة العربية و الدين [1] و هذا ما كان يتخوفه النبي (ص) فقد ورد من اعلام النبوة (انما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا و زينتها، انه لا يأتي الخير بالشر، و ان مما ينبت الربيع ما يقتل [2] حبطا أو يلم الا آكلة [3] الخضر فانها اكلت حتي اذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت و بالت ثم رتعت، و ان هذا المال خضرة حلوة و نعم صاحب المسلم هو لمن أعطاه المسكين و اليتيم و ابن السبيل، فمن أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو، و من أخذ بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع و يكون شهيدا عليه يوم القيامة.)

فالنبي (ص) يحذر من التعلق بما سماه زهرة الدنيا، كأنه كان يستقبله واقعا ماديا محسوسا.

فقد كان اذا، في المجتمع العربي الاول الذي نعني بدرسه، قديم و جديد؛ و هذا الاخير تطمئن اليه و تنتصر له اكثرية الشباب و طوائف كبيرة من الشيوخ الذين عايشوا النبي (ص) طويلا.


و كانت فكرة الجديد تقوم علي الارستقراطية الاجتماعية، و ظهرت في التنافس علي الامارات المدنية و العسكرية، و علي التزيد من الاموال، و علي التحلل بالحياة العامة من القيود و اعطائها صفة من الحرية أكثر سعة.

و كانت فكرة القديم تقوم علي قاعدة تناقض ذلك مناقضة تامة، فهو يؤيد الديمقراطية، و يبيح الأخذ من الاموال بقدر فقط، و يتشدد في القدوة و اتباع الأوضاع. فالهوة بين القديم و الجديد كانت واسعة، و زادت مع الايام سعة و امتدادا. فالابتعاد اتصل بالعقلية و الفكرة و الشعور، مما جعل نظرة كل أحد الي أشياء الحياة تختلف عن الاخري.

و نعرض الآن للعوامل التي نزعت بالناس الي التجديد و البعد شيئا فشيئا عن خطة الوضع القديم، و الذي وضح لي منها، عدا الارتقاء الطبيعي، هي:

(1)العقلية الفطرية: و هي تميل دائما الي الاحتذاء و التقليد، فالامة العربية اتسعت بسهولة و سرعة و اهتضمت عناصر شتي و نظما كثيرة، و بحكم فطريتها احتذت اكثر الوانها. و ظهر في التجديد اختلاف أيضا، لأن العرب كشعب غير ثقافي في بداءتهم، تأثر كل قبيل منهم بأوضاع الامم التي حلوا عليها و نظمها، فالذين نزلوا ارض فارس تأثروا بلون الحياة الفارسية و قامت في نفوسهم فكرة البيت المالك، و كذلك كان شأن الذين حلوا بلاد الروم. و هذا وجه افكار العرب و جهات مختلفة كان لها أثرها في التشريع و الاجتماع و النظر العام. و عليه فلم تكن للتجديد صفة بعينها، بل كان يختلف باختلاف اللون الذي اعتنقه العربي بحكم البيئة الجديدة. و مثل هذا الاختلاف الواقع في نزعة التجديد، الاختلاف بيننا اليوم؛ فان المثقف من ينابيع لاتينية ينصرها و يجتهد بتحويل مجتمعة اليها، و كذلك المثقف من ينابيع المانية أو سكسونية أو روسية. فاختلاف نزعة التجديد في العهد الاول الاسلامي كان خاضعا لاختلاف البيئة الجديدة، و في عهدنا خاضع لاختلاف الينبوع الثقافي.

(2)أطماع الشيوخ: و هم من الطبقة القديمة الا أن احتكام نفوسهم بأطماع


لا حد لها جعلهم ينزعون قسرا الي الجديد، و يعتنقونه في ظمأ و اطمئنان. فهم، حينما وجدوا فتونا لا حد لها و مغريات لا عهد لهم بمثلها، نزعت نفوسهم اليها، كما ينزع السهم من اليد التي كانت تمسكه، مندفعين بشي ء من ميولهم كالوتر الذي اكسب السهم قوة الاندفاع و الاستمرار.

و الملاحظ علي البدائيين انهم اكثر تحللا في سبيل هوي النفوس، بحيث لا يرعون لشي ء من أشياء القديم الا و لا ذمة، مادام في الجديد ما يرضي رغائبهم المكبوتة. و هذه الظاهرة تعلل بالظمأ الطبيعي أو الكبت الطبيعي، فان البداوة تكبت علي المرء شهواته الا بمقدار، فهو لا يجد سبيلا اليها حتي ينقلب ملكيا أكثر من الملك. و هذا ما رهب عنه النبي (ص) في الحديث السابق و أسماه (زهرة الدنيا) و رغب به. ان النبي ذا النظر العميق في أسرار النفوس و طبائعها اعتمد، في تهذيب العرب، كل الطرائق التربوية التي تفعل الاختمار الناقل للوراثات.

(3)الشباب و اطماعهم: كثر الشباب كثرة مطلقة، و احتلوا مكانهم في الحياة العامة، و عمدوا الي المساهمة فيها بأفكارهم و أحاسيسهم، و لا ريب في انها لا تتفق في كثير مع أفكار الشيوخ و أحاسيسهم، فظهر التفاوت المنطقي بين الفئتين، كما أن الشباب يكونون أسرع تأثرا بما يرضي الغرائز و يشيع فيها النشوات. فالحركة السريعة للفتح العربي وجدت سبيلها الي أفئدة الشباب فطفرت بهم.

(4)الغني المفاجي ء: نقل الشباب و طائفة من الشيوخ الي جانب آخر غير الجانب الذي كانوا يسيرون فيه، و غمسهم غمسا بمثل الوان الترف عند الامم التي حكموها.

(5)قوة الضعفاء: هذه القوة علي الدوام تنتج الميل الي الارستقراطية، و قد وقع الملحظ في خاطر ابي تمام الشاعر:

(و ضعيفة، فاذا أصابت فرصة

قتلت، كذلك قدرة الضعفاء)

(6)ظهور المرأة: و هي كثيرا ما تنساق بحوافز عاطفية، فكان لها أثر في التوجيه


الجديد. و قد ظهرت المرأة بحركات كبيرة استقلالية في مناسبتين (أ) يوم الردة، في امرأتين: احداهما سجاح بنت الحارث و تقدم [4] خبرها، و الاخري هي سلمي [5] ابنة مالك بن حذيفة سبيت أيام رسول الله (ص) و وقعت لعائشة فاعتقتها، و قد قادت جموع غطفان و هوازن و سليم و أسد وطي ء ثائرة، فنزل خالد بن الوليد عليها و علي جماعها فاقتتلوا، و هي وافقة علي جمل امها - و كانت مرهوبة عظيمة المنزلة - تستنهض الجموع و تعزز الحماسة، و قد قتل حول جملها مائة رجل ثم قتلت و تفللت الجموع. ارتدت هذه المرأة نتيجة لتفكير جزئي أو قل: سطحي، فهي تريد أن تثأر لاخيها حكمة الذي قتل أيام النبي (ص). (ب) ظهور المرأة يوم الجمل في شخص عائشة (ض) فانها لعبت مثل دور عتيقتها سلمي ابنة مالك، فقد خرجت علي حكومة علي (ع) كما خرجت الاخري علي حكومة أبيها؛ و لغرض مشابه تقريبا؛ فتلك تثأر لاخيها، و هذه تثأر لعثمان، و قد عقدت الصداقة بينهما زمنا طويلا، فقد كانت تختلف الي عائشة كثيرا و تنزل عليها دائما. و لا يبعد عندي أن يكون في جملة الرغبات التي دفعت عائشة الي الخروج، انها كانت معجبة بالدور الذي لعبته سلمي، و قد كان دورا معجبا حقا لهج به الناس كثيرا حتي قيل: بلغ من عزها أنه وضع مائة من الابل لمن يجرؤ علي نخس جملها. و المرأة ذات تفكير تلعب به الميول و العواطف.

لذلك لا استبعد أن تكون عائشة قد انطوت علي اعجاب عميق بسلمي. و هذا الاعجاب كان عاملا نفسيا كبيرا هون عليها سبيل الخروج لتلعب دورا مماثلا تكون فيه القائدة و علي جمل ايضا يضحي دونه كثيرون، و كان المصير واحدا تقريبا. و هذا من أغرب المصادفات التاريخية، و ليتنبه الي اننا لا نقول ان اعجاب عائشة بسلمي كان عاملا من عوامل خروجها، بل نقول كان رغبة في جملة الدوافع التي تركز عليها عزمها.


فخروج عائشة، كامرأة، للقيادة العامة شي ء جديد في المجتمع الاسلامي الاول، ثار حوله تفكير طويل في انه هل للمرأة أن تأتي مثل هذه الحركات أم لا؟. و كان التفكير في ذلك من وجهة دينية محض فأم سلمة [6] (ض) - زوج النبي - و الطائفة المحافظة علي القديم ذهبوا الي انه لا يجوز ذلك لها، و طلحة و الزبير و العرب الذين سكنوا البصرة و تأثروا بأفكار الفرس ذهبوا، كما يظهر من عملهم، الي جوازه. فظهور المرأة شي ء جديد أثار مسألة جديدة ما في ذلك شك.

(7)غمر الاسلام للاديان: فان الاسلام حينما غمر في طريقة هذه الاديان الكثيرة انبعثت فيه ثانية و أحدثت فكرة دينية جديدة لها شكلية اسلامية و حقيقة من كل دين. فكان في المحيط الاسلامي يهودية اسلامية، و مسيحية اسلامية، و وثنية اسلامية، لبست في عقائدها و أعطتها شكلا اسلاميا، كما يظهر من علم الاديان المقارن، و بقيت تتكاثر علي مثل التوالد الذاتي حتي أتت في اكبر عدد مفروض.

من هذا نعلم أن العرب، قبل مصرع عثمان (ض)، شعروا بشي ء جديد شمل الاعتقاد و الاجتماع و الحريات الادبية و آداب السلوك، و شهدوا صراعا خفيا بين الجديد و القديم أدي الي الذبذبة و الاضطراب.



پاورقي

[1] اخرجه البخاري و مسلم عن أبي‏سعيد الخدري، و ذکر الميداني في مجمع الامثال.

[2] هذا مثل ضربه النبي للمتزيد المفرط في جمع المال من اية طريق، و حبطت الدابة حبطا اذا اصابت مرعي طيبا فافرطت في الاکل حتي تنتفخ و تنشق امعاؤها و تهلک.

[3] هذا مثل المقتصد، فان الخضر ليست من احرار البقول و انما تنبت بعدها، فضربها النبي (ص) مثلا لمن يقتصد في اخذ الدنيا، فهو ينجو من اخطارها کما نجت آکلة الخضر، فانها اذا شبعت منها برکت مستقبلة الشمس تستمري‏ء بذلک ما اکلت تجتر. راجع مجمع الامثال الميداني في المثل (ان ما ينبت الربيع ما يقتل حبطا او يلم) ص 7 و 8.

[4] راجع الحلقة الثانية من هذا الکتاب.

[5] راجع الطبري ج 3، ص 233 و 234.

[6] او ضحت رأيها هذا في کتابها الحکيم الي عائشة؛ و تجدر بکل قاري‏ء مطالعته، و هو موجود في «الامامة و السياسة» لابن‏قتيبة.