بازگشت

الحزبية


تطمئن جمهرة الباحثين الي أن الحزبية علقت بمجتمع العرب الوليد، و الحزبية، ككل الطفيليات الاجتماعية، ما علقت بمحيط الا أثرت فيه تأثيرا سيئا؛ لأن نشاطها ينصرف الي تأييد أهدف الحزب و أغراضه الرئيسية، و بالاخص اذا لم يكن لها مثل رمزي تعمل له جميعها، و تقف جهودها في سبيله، علي اختلاف في الوسائل و الطرق.

و هذه الحزبية التي نتحدث عنها، لم تكن من طراز الحزبية ذات اللون المفيد المنتج، بل كانت مغرضة نفعية في أغلب طوائفها، تدور علي الانتهازية و الافتراص.

و من المعلوم أن الوسط القبلي أصلح ما يكون لهذا الضرب من التحزب، و زاد فيه التركب الأممي الذي أدي اليه الفتح السريع. فلم تكن دولة العرب في ذلك الحين يسيطة، بل مركبة تركيبا صناعيا غير محكم. فكان ضروريا أن تتولد فيها تيارات مختلفة القوة مختلفة العنف تلعب بالجماهير و تعبث بالقوي العامة. و ما من امة قامت علي أطلال امم اخري، الا و بقيت مملوءة بالانقسامات الداخلية و التقلبات المختلفة، و لا تنقضي حتي تستقر الأخلاق النفسية الجديدة.


و الملاحظ علي هذه الحزبية التي نتحدث عنها أنها كانت تندفع بعوامل ثلاثة:

(1)القبلية، و كانت علي صنفين: (أ) قبلية خالصة كالتحزب ضد قريش و التحزب ضد [1] المعدية (ب) قبلية نفعية كالتحزب الاموي و التحزب القحطاني الذي حاربه معاوية محاربة قوية علي ما يظهر من خبر [2] ذكره البخاري في صحيحه.

(2)الشعوبية ظهرت هذه الحزبية نتيجة انحلال عناصر شتي و امم شتي، دخلت في دور تفاعل عنيف، و لما تنته الي اتحاد راسخ يقوم علي مزاج عقلي واحد و خلق شعبي وسطي أي يمثل الوسط كصورة كثيرة الصدق، و هو ما يعبر عنه بالمثال الوسط في الامم الناضجة اجتماعيا أو المكتملة التطور.

ان العنصر الذي كان مفقودا في دولة العرب الفتية هو هذا الخلق الشعبي الذي يقرر مستقبل [3] اية امة، و هو موجود علي الدوام خلف العوامل التي فرضها الناس سببا لأعمالهم.

فالتحزب الشعوبي في المحيط العربي كان منفعلا بهذا الامتزاج السريع، و اعتقد أن الحزب الشعوبي كان صنيعة من صنائع الحزب الاموي يحركونه في


سبيل أغراضهم، و كانت شخصياته آلات مسخرة في ايديهم، و أبعد ما يكون عن الظن انهم كانوا يشتغلون علي وجه الاستقلال. و هذا تقدير وقع في خاطر عمر (ض) فحذر من الموالي، لأنهم سرعان ما ينقلبون آلة في أيدي ذوي الاغراض، و الا فهم علي الانفراد اضعف من أن يحركوا المؤامرات. و هذا أمر نشاهد مثله اليوم فان المترصدين الذين تصطنعهم الاحزاب لأغراض اجرامية كبيرة، انما يكونون عادة من النفاة الغرباء الأفاقين. و المشاهد انهم لا يقومون بعمل استقلالي البته، و هذا من الوجهة النفسية صحيح جدا، و الموالي كانوا بهذه المثابة؛ فما اسرع ما يستخدمون بسبيل هذه الاغراض لمتحزبين ذوي نفوذ.

(3)المثالية الجديدة التي وضع النبي (ص) أسسها وشيد هيكلها الروحي و الاجتماعي. فقد كان لها شخصيات تحافظ علي مبادئها و تحامي عن ذمارها و تعمل بسبيل خدمة اغراضها و نشر تعاليمها، و من هؤلاء علي و ابوذر و أبوايوب الانصاري و رافع بن خديج و سائر الطبقة القديمة من المهاجرين و الأنصار.

و كان هؤلاء يشكلون حزبا محافظا متقيدا بالرسوم و الطرائق النبوية و أساليبها السياسية. و قد اهتم بدراسة الاحزاب عدد من كبار المستشرقين أهمهم «فان فلوتن» في كتابه: السيادة العربية؛ و نحن توسعنا في هذا البحث، بناء علي ملاحظة عرضت في الحلقة الاولي من هذا الكتاب، جاء فيها «ان الاحزاب التي نستطيع أن نعينها في ذلك العهد، و التي كانت تعمل متنازعة هي حزب عثمان أو الحزب الاموي، و حزب طلحة و من اكبر شخصياته عائشة، و حزب أبناء عمر و من اكبر شخصياته ابوموسي الاشعري، و حزب المنشقين من بني امية و من اكبر شخصياته عمرو بن العاص، و حزب علي (ع) أو الحزب المحافظ».

و لا حظنا في الحلقة المذكورة ايضا، ان السبب في استشراء الحزبية لعهد عثمان هو حصر التشريح في عدد من الاشخاص الذي ارتآه عمر (ض). و هذه الاحزاب اكثرها وليد في عهد عثمان. و نحن عنينا بها هناك، لأن قصدنا كان متصرفا الي تأريخ هذه الفترة من عهد الخلفاء الراشدين؛ بيد اننا اذا تناولنا العهد


مجموعا خرجت لنا أحزاب أكثر عددا و أكثر اختلافا في الغايات و الاغراض. و هذه الاحزاب هي:


پاورقي

[1] ذکر ابن‏قتيبة في «الشعر و الشعراء» ان عمرو بن معدي کرب الزبيدي کان يقص اقاصيص من اخبار فتکه، فقص علي شجاع من شجعان العرب و هو لا يعرفه، انه غزا قومه و بارز الشجاع الذي کان يتحدث اليه و فتک به، فقال له محدثه: ليهنک يا اباثور ان صريعک هو محدثک؛ فقال عمرو بدون دهشة: اسمع يا هذا لما يلقي عليک فانا بهذه الاحاديث نرهب هؤلاء المعدية. و کان تخطيط الکوفة تخطيطا قبليا.

[2] اخرج البخاري بسنده: انه بلغ معاوية، و عنده وفد من قريش، ان ابن‏عمر يحدث بانه سيکون ملک من قحطان؛ فغضب فقام فاثني علي الله بما هو اهله ثم قال: اما بعد فانه بلغني ان رجالا منکم يحدثون احاديث ليست في کتاب الله و لا تؤثر عن رسول الله (ص): و اؤلئک جهالکم فاياکم و الاماني التي تضل اهلها، فاني سمعت رسول الله (ص) يقول ان هذا الامر في قريش لا يعاديهم احد الا کبه اله علي وجهه ما اقاموا الدين. راجع ج 9 ص 62.

[3] راجع کتاب: سر تطور الامم لغوستاف لوبون ص 35.