بازگشت

نظام الجندية


لم يخرج في ترتيباته العسكرية علي القاعدة المتبعة في حروب العرب [1] التقليدية القبلية الا بمقدار يسير، و كان النوع الغالب علي حركاتهم، حرب الازعاج و العصابات، و العرب يسمونه حرب الاجهاد و الانهاك (Guerre d usure)، و لجأوا الي هذا النوع، في حرب الشام و العراق، أول الأمر.

و كانت فرق الجيوش تسير مستقلة استقلالا تاما، فلم يكن عندهم قائد اعلي للجيش، يناط به توحيد القيادة و تنظيم الحركات العامة. كما أن الكتائب تؤلف تأليفا قبليا، فرئيس الكتيبة هو الزعيم القبلي نفسه. و عدد الفرقة كان يتراوح بين ثلاثة آلاف الي سبعة آلاف، و لها مدد أي قوي احتياطية.


و كان همهم ينصرف الي المدن و العواصم و تحاشي الالتقاء بالجيش؛ و هذه الخطة أدت بهم الي انهزامات كثيرة و اندحارات جمة، فقد استولي جيش الشام علي كثير من المدن كحمص ثم اضطر الي اخلائها و الجلاء عنها. و من الاوليات المتبعة في حركات السوق الجيشية، الابتداء بقهر الجيش أولا في معركة فاصلة، و علي نتائجها يترتب تعيين الاهداف التالية و التدابير الأخري.

و الصفة العامة لحركاتهم الخفة و السرعة و الاحتفاظ بخط الرجعة، خوفا من التطويق و الالتفاف من الوراء، و لعل السرعة الفائقة كانت اكبر ميزة المحارب العربي، و يظهر هذا جليا في المجازفة التي قام بها خالد بن الوليد، حينما انتقل بجيشه من العراق لانجاد جيش الشام. و هي مثال نادر من سرعة القرار و خفة الحركة، و لا يشبهها الا حركة نابوليون في معركة (و اغرام) الشهيرة، فقد انتقل، حينما بلغه تجمع الاوربيين ضده، من اسبانيا بسرعة البرق، كما يقولون، و دخل معهم في معركة قاسية.

و هذه الترتيبات غير المنظمة بقيت، الي ما قبل اليرموك، المعركة النظامية الأولي في الفتح العربي. فقد غير، لاول مرة، خالد بن الوليد من النظام الحرب المتبع، بعد أن استطلع حالة خصمه و دقق في تشكيلاته و طراز تعبئته، و اقتنع [2] بأنه لابد من تقسيم جيشه و ترتيبه علي طراز الجيش الروماني، فعمد الي تنسيقه وفق الاصول الرومانية. قسم الجيش الي كراديس و بلغ مجموعها من (26 الي 40) كردوسا، عين لكل منها قائدا، ثم ألف الكراديس فرقا من (10 الي 20) كردوسا، و جعل علي كل منها قائدا كبيرا، و خصص للقلب (المركز) فرقة، و للميمنة فرقة، و للميسرة فرقة، و أنشأ هيئة أركان الحرب، و كان لديه من هيئة أركان المقر (مقر القيادة العامة) ابوالدرداء قاضي الجيش، و أبوسفيان ابن حرب القاص (أي خطيب الجيش، و من وظيفته أيضا ايصال الاخبار الي الفرق المحاربة و نقل الاوامر) و عبدالله ابن مسعود مأمور الأقباض (أي الذي يمون الجيش و يجمع القنائم) و أقام


أمام الجيش طلائع (خفراء الامام) و كانت هذه التعبئة، في اليرموك،أول تعبئة نظامية.

فالعرب استفادوا من الرومان و الفرس نظاما جديدا، فيما يتصل بالتشكيلات الحربية و التعبئة و القيادة العامة و خطة استدراج الجيش، قبل كل شي ء، للايقاع به و ابطال مقاومته؛ و كلمات كثيرة منها (كردوس) التي يقدرون انها محرفة أو معربة عن كلمة (Kortis) الرومانية و هي بمثابة كتيبة، و (أرطبون) و هي محرفة عن كلمة (Tribun) و معناها قائد فرقة.

بيد انهم لم يستفيدوا شيئا مما يتصل بالتربية العسكرية التي تعلم الطاعة و تقضي علي الروح القبلي قضاء حاسما، و الجندية الدائمة التي تحدد المدنيين و العسكريين و تخلق شعورا في الصنفين يد كون به صلاحياتهم و مدي اهلية تدخلهم. و هذا ما لا حظناه، في مقدمة الحلقة الاولي، و أمسيناه فسادا عسكريا أدي الي كثير من النتائج السيئة المؤلمة، فقد قلت عنه: [3] (و فائدة النظام العسكري انه يعلم الائتمار، و يحسر النظر عن التطلع الا في حدود المهنة، و يبعد بنفس العسكري عن المناقشة للشؤون العامة، و يروضه علي التمسك بالحاكم المدني القائم، و من فضائل هذا النظام الواضحة جبن الرجل العسكري، مهما سما قدره، عن وضع نفسه في مركز مدني صرف، و تحمل المسؤوليات و الأعباء العامة. فعدم وجود نظام من هذا النوع اذا، في محيط العرب، جعل الرجالات العسكريين الذين اشتهروا بالبطولة يفكرون بالدعوة لأنفسهم، و الانتقاض لاحتواش السلطة.) و أهم نتائج هذا الفصل هي:

(1)ان نظام الحكومة لم تكن له قاعدة واحدة، بل سار من الديمقراطية الي الارستقراطية فالجمهورية فالفوضوية.

(2)ان نظام الاموال لم يقم علي قاعدة تكفل حاجات المجتمع و تحقق امانيه.

(3)ان نظام الجندية تجرد من الروح العسكرية التي تبعثها التربية الخاصة.



پاورقي

[1] راجع حرکات خالد بن الوليد العسکرية للفريق طه باشا الهاشمي.

[2] راجع محاضرة عسکرية في خطط خالد في فتح الشام لا حمد بک اللحام قائم مقام ارکان الحرب.

[3] راجع کتاب: سمو المعني في سمو الذات.