بازگشت

نظام الادارة و القضاء


بقيت الوظائف الادارية مختلطة في الدولة اختلاطا كبيرا، فكانت تجتمع في شخص الخليفة أحيانا بحيث يباشرها بنفسه، و أحيانا ينتدب لها أشخاصا انتدابا بدن تعيين. حتي جاء عمر (ض) فرتبها ترتيبا حسنا قام علي التخصص و فصل الوظائف، فجعل في كل مصر قاضيا و و اليا، و كان الوضع في الأمصار صورة مصغرة عما هو عليه في المدينة. فالوالي يمثل الخليفة، و سلطته محدودة من فوق بالخليفة، و من تحت بهيئة المشيرين الذين هم رؤساء القبائل، و كان اختصاصه يشمل الاسس الثلاثة الآتية و هي:

«1»أن يؤم الناس في الصلاة.

«2»أن يقودهم الي الحرب.

«3»ان يجبي الاموال.

علي انه سرعان ما وجد التخصص الاداري حتي في هذه الصلاحيات المذكورة. فاختص رجل بالامامة، و آخر بقيادة الجيش، و ثالث بجباية الاموال أطلق عليه صاحب الخراج. و أضيف اليهم قاض مرجعه الخليفة رأسا ليفصل في الخصومات.

و هنا أثبت ملاحظة عرضت لي في الحلقة [1] الاولي، و من الخير أن أنقلها بالنص، قلت: «علي أن الخلفاء قد اضطروا أحيانا الي فصل السلطتين في الولايات، فقد كان الخليفة، كعمر، يبعث بالوالي الزمني و بالقاضي معا، بحيث لا يكون للوالي سلطة علي القاضي بل يعلملان متعاونين، و هذا ممارسة لفصل السلطتين في مناطق محدودة». هذه ملاحظة ذات أهمية في فهم كثرة الخلاف علي ولاة الأمصار؛ و كأن عمر (ض) رمي من وراء هذا الفصل بين السلطتين أن يوجد رقابة متبادلة من وجه، و يقلل من حدة الانتقاد علي الحاكم الزمني من وجه آخر. و يحسن أن نورد عبارة ابن خلدون في وظيفة القضاء، كما كانت في عهد الخلفاء، قال: [2] .


«و أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة، لانه منصب الفصل في الخصومات حسما للتداعي و قطعا للتنازع، الا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب و السنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة و مندرجا في عمومها. و كان الخلفاء في صدر الاسلام يباشرونه بأنفسهم و لا يجعلون القضاء الي سواهم و أول من دفعه الي غيره و فوضه فيه عمر. فولي أباالدرداء معه بالمدينة و ولي شريحا بالبصرة و ولي أباموسي الاشعري بالكوفة، و كتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة و هي مستوفاة فيه، يقول أما بعد فان القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم اذا ادلي اليك، فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له و آس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك، حتي لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك. البينة علي من ادعي، و اليمين علي من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، و لا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع الي الحق، فان الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الامثال و الاشباه و قس الامور بنظائرها و اجعل لمن ادعي حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي اليه. فان احضر بينته أخذت له بحقه و الا استحللت القضاء عليه. فان ذلك انفي للشك و أجلي للعمي. المسلمون عدول بعضهم علي فعض الا مجلودا في حد أو مجري عليه شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء. بان الله سبحانه عفا عن الايمان و درأ بالبينات، و اياك و القلق و الضجر و التأفف بالخصوم، فان استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذكر و السلام. انتهي كتاب عمر و انما كانوا يقلدون القضاء لغيرهم و ان كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة. و القاضي انما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط. ثم دفع له بعذ ذلك امور أخري علي التدريج بحسب اشتغال الخلفاء و الملوك بالسياسة الكبري. و استقر منصب القضاء آخر الأمر علي انه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في اموال المحجور عليهم من المجانين و اليتامي و المفلسين و أهل السفه و في وصايا المسلمين


و اوقافهم و تزويج الايامي عند فقد الاولياء علي رأي من رآه و النظر في مصالح الطرقات و الابنية و تصفح الشهود و الامناء و النواب و استيفاء العلم و الخبرة فيهم بالعدالة و الجرح ليحصل لهم الوثوق بهم و صارت هذه كلها من تعلقات وظيفته و توابع ولايته».

هذه العبارة تضع بين ايدينا شيئا عن نشأة القضاء و تطوراته، و هي تفيدنا ان الخلفاء الراشدين اهتموا من كل وظائف الدولة بهذه الوظيفة، فعالجوها كثيرا و نظموها كثيرا لتجي ء شيئا يرضون عنه؛ و أحاديث نزاهة قضائهم و عدالته جاوزت الاحصاء، حتي قيل: كان القضاء في عهدهم ساحة يقف فيها الظبي الأغن مع الاسد الرئبال فلا يهابه و لا يخشاه. و قد اجتذبت سياستهم القضائية عددا كبيرا الي الاسلام.

و كتاب عمر مرسوم اشتراعي عظيم أصدر و صدق في حكومته، و فيه تقرير لمبدأ الاستئناف و نقض الحكم، الا أنه جعل هذه الصلاحية للقاضي نفسه، فكان ثمت ازدواج في البداية و الاستئناف. علي أن الخليفة كان المرجع الاعلي للقضاء فكان بمثابة محكمة النقض و الابرام، كما يظهر من القصص التي ذكرها المقريزي و غيره من أنه كان ينقض علي القضاة و الولاة أحكامهم و اجراءاتهم.


پاورقي

[1] راجع کتاب: سمو المعني في سمو الذات.

[2] راجع المقدمة ص 220 و 221.