بازگشت

تناحر الديانات في الجزيرة ادي الي حالة من الشك


يقتتضينا البحث، في تشخيص الروح الديني، و درجة ثبات العقيدة لدي العرب في عهد الخلفاء، أن ندرس تاريخ المناحرة العنيفة بين الاديان التي شهدت فصولها بلاد العرب قبل الاسلام، و كانت علي ما يظهر مناحرة رهيبة مروعة، و قد يكون الحديث عنها طريفا عدا عن أنه ضروري لازم لمن يريد أن يسبر غور النفس العربية من حيث العقيدة، و ينصرف الي اماطة اللثام عن الحيرة النفسية المبهمة التي شكلت عند البعض اعصارا قويا، أورثهم حالات من الشك و التعطيل و التردد، و بالأخص اذا عرفنا ان العرب كانوا لا يملكون [1] القدرة المنطقية علي الموازنة و التحكيم.


و النتيجة التي نستخلصها، من صراع الديانات و غلاب الشيع، أن تتولد في العقلية العربية شبه ذبذبات مضطربة متنازعة؛ فلم تكن النفس العربية فطرية بالمعني الصحيح، و لا صحيفة بيضاء أو ساذجة، بل كان حشيتها تعاليم مختلطة اختلاطا غير منسق و لا مفهوم.

فالبيئة العربية من هذه الناحية كانت موبوءة الي حد كبير و الي درجة فظيعة. و الآن نأخذ بعرض هذه الديانات التي احتضنتها الجزيرة و لعبت فيها أدوارا مختلفة الأهمية، ثم نعود الي درس أثرها و مدي ظهوره في حركات ما بعد الاسلام الغامضة، فان نظرية المرتدين و المتنبئين، و كذلك نظرية الخوارج و السبئية لا يمكن فهمها الا علي ضوء هذا التشخيص. و النحل المذكورة هي:

الوثنية، المجوسية، الصائبة، اليهودية، الحنيفية، النصرانية، اليهودية النصرانية. و من هذا نري ان جميع الديانات المعروفة لذلك العهد في الشرق الادني، اجتمعت في بلاد العرب قبيل الاسلام. و يحسن بنا أن نعطي تعريفات سريعة عن كل ديانة، حتي اذا خضنا في حديث الصراع و آثاره وضحت لنا النتائج التي نجتهد بشرها و تمثيلها عن قرب.

الوثنية: كانت هي الديانة الغالبة في المحيط العربي، و هي تقوم علي تأليه التماثيل أو قوي الطبيعة التي ترمز اليها، علي شكل من وثنية اليونان و الرومان، و ان كانت منحطة لا تبعث في صاحبها أنواعا سامية من التفكير و لا نظرا خاصا الي المثل الاعلي للخير و الجمال. و المعروف أن لكل قبيل من العرب معبودا خاصا يرضي ميوله القبلية و ينسجم مع أهوائه الخاصة. و بذلك كانت وثنية مفرقة جرت علي العرب التطاحن و الحرب، فان من أسباب الوحدة السياسية وحدة المعبود. و قد بدت طلائع الاجتهاد الديني بين القبائل الوثنية في أعمال الطقوس و تقديم القرابين مما أدي الي تكون طائفة سميت بالحمس [2] .


المجوسية: ديانة تمثل أحلام اروح الآرية التي تستهويها مناظر الطبيعة، و نخلبها فتون الكائنات، كما أنها ديانة رمزية أي ترمز الي المعاني و الفضائل من طريق قريب الي فهم الانسان، و تقوم علي فكرة الخير و الشر، ثم مضت في الرمز الي أبعد من هذا، فاتخذت النار رمزا للضوء، و الضوء رمزا للخير، و بتعبير آخر قالت: ان النور من الشمس، و الشمس من النار؛ فأصل النور اذن هي النار، فرمزوا بها الي الخير. و اتصلت ببلاد العرب من الجهة الشرقية، فقد وجدت في قبائل هجر و قبائل البحرين. و كتاب «افستا» لزرادشت عرفه العرب عن قرب، فقد نقل اليهم و تأثروا به الي حد ما.

الصابئة: هي ديانة بابلية بقيت بعد ذواء ينبوعها الاقدم اجيالا طوالا. و تقوم علي عبادة الاجرام السماوية، و تسند اليها القدرة علي تسيير الناس. انتقلت الي بلاد اليمن من أقدم الدهر، و قصة بلقيس في القرآن شاهد علي أنها كانت الدين الرسمي أو القومي في دور من ادوار التاريخ القديم. و لعل التسمية بعبد شمس التي كانت


شائعة عند العرب تدلنا علي مبلغ سيطرة تلك الديانة العتيدة كعقيدة، و علي درجة رسوخ أصباغها مراسم و طقوسا.

اليهودية: هي ديانة سماوية اعترف بها الاسلام، و عني بدرسها، و اختصها القرآن بطائفة من الآيات. و هذا يدلنا علي عظم أثرها في العرب، و انها كانت أكثر سيطرة من سواها و أكثر تأثيرا، و لعل السبب تغلغلها بسرعة و قوة في محيط العرب يرجع الي انها سامية كل السامية، فوقع العرب فيها علي ما يعبر عن تصوراتهم الدينية، و لذلك وجدت الي نفوسهم مجازا عريضا. و قد أثر انتشارها في عقلية العرب تأثيرا كبيرا، الي حد ظهر في ادبياتهم العامة، و هذا نقل العرب من حيث يشعرون أولا يشعرون الي حال أرقي. و كانت قبائل يثرب أسرع تأثرا بها و قبولا لها من سائر القبائل الوثنية الأخري. و كذلك تطرقت الي اليمن و كان لها شأن من الناحية السياسية حتي ان البيت المالك تهود، و كان لهذا تأثير في مجري الاحوال السياسية نظرا الي وجود حزب آخر يؤيد النصرانية.

النصرانية: هي كسابقتها ديانة سماوية اعترف بها الاسلام، و أوسع لها مكانا في القرآن، و كان لها تأثير غير يسير في الهيكل الروحي العام، غير انها لم تكن متركزة في ناحية معينة كاليهودية، علي أن قبائل عديدة تنصرت، بيد ان تسربها الي الجزيرة مكتنف بالغموض؛ و الظاهر أن المذهب النسطوري، بعد أن انتقل من بلاد الروم الي العراق، نفذ الي بلاد العرب.

الحنيفية: يذكر المستشرق «و لها وزن» ان الحنيفية كانت مذهبا نصرانيا ذائع الصيت في بلاد العرب. و تعارضه طائفة من المستشرقين بأن الحنيفية لم تكن مذهبا نصرانيا كما لم تكن مذهبا معينا، و انما كان هناك أشخاص من مفكري العرب استنكروا عبادة الأوثان متأثرين بتعاليم اليهودية و النصرانية، حتي دخل بعضهم في اليهودية، و بعضهم في النصرانية، و بقي جماعة منهم غير متمسكين بدين؛ جاء في سيرة ابن هشام «ان زيد بن عمرو بن نفيل توقف عن دخول النصرانية و اليهودية، و اعتزل ديانة الاوثان و تقاليدها، و نهي عن قتل الموؤدة، و كان يسند ظهره الي الكعبة، و يقول: يا معشر


قريش لم يبق علي دين ابراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو اني أعلم أي الوجوه أحب اليك عبدتك و لكني لا أعلمه».

و أخيرا طلع الدكتور و لفنستون في كتابه (تاريخ اليهود في جزيرة العرب) برأي طريف بناه علي دراسة لغائية [3] دقيقة لكلمة (حنيف) و ملة ابراهيم)، قال: هناك اصطلاح مشهور عند العرب قبل الاسلام و هو (ملة ابراهيم حنيفا)، و بحث هذا الاصطلاح قد يفهمنا شيئا عن عادة الختان؛ يعرف العضو بعد ختانه في العبرية باسم (ملة) و قبله باسم (غرلة)، و بما ان الختان من أصول الدين الاسرائيلي، فقد عبر الناموس الديني عن كل من اختتن انه دخل في ذمة ابراهيم. و من هنا اطلق اليهودي علي كل من اختتن هذا التعبير (ملة ابراهيم)، و هذا اللفظ يقوله العاذر للطفل عندما يعذره، و الحاضرون يؤمنون، و لما كان الختان وحده لا يؤدي الي الايمان فقد أطلق اليهود علي كل من اختتن، دون أن يعتنق اليهودية، اسم حنيف الذي معناه في العبرية (تملق. اقترف اثما. تذلل. داهن) يعنون به غير الصالح أي الختان غير المستوفي للشروط، و لهذا متابعات في ما تحفظ المعالجم العربية من تفسيرات لكلمة حنيف. جاء في لسان العرب ان من اختتن في الجاهلية و حج سمي حنيفا، قال الفراء (الحنيف من سنته الختان، و تحنف الرجل اختتن). و هو ينتهي الي أن الحنيفية طائفة ثأثرت بطقوس و عادات اليهودية، غير أنها لم تؤمن بجوهر الديانة.

و من بين هذه التقديرات نفهم ان الحنيفية نحلة أو نزعة عرفت بها طائفة لم تكن بعيدة عن التأثر بالمسيحية و اليهودية علي السواء؛ و هذه الطائفة كانت أقرب الي الحيرة و الشك.

اليهودية النصرانية Secte Judee CHristienne: و هي فرقة تجمع بين عادات اليهود و عقائد النصرانية، عبرت الاردن وقت حصار الروم لأورشليم، فسكنت في بلاد العرب. و من هذه الفرقة السموأل [4] الشاعر.


و يعارض بعض [5] المؤرخين هذا الرأي، بأنه لا جدال في انه وجدت طائفة يهودية نصرانية في الحين الذي كانت فيه النصرانية دعوة يهودية بحتا. و كان النصاري شيعة من شيع اليهود؛ و قد فنت هذه الفئة بعد أن أخذت النصرانية تنتشر بين اليونان و السريان، و لم يبق للطائفة اليهودية النصرانية ذكر في القرن الثالث بعد الميلاد، و ليس لنا مراجع تاريخية تثبت وجود هذه الطائفة منفردة في الجزيرة...

هذا الخليط من الديانات و النحل جعل بلاد العرب في شبه حركة زوبعية، لأنها لم تكن فاترة بل عاملة ناصبة، و من ثم دخلت في صراع عنيف اتصل بأسباب الحياة العامة، و أدي الي تنافر سحيق و حرب مستعرة. و أشد ما كان الصراع و التناحر بين المسيحية التي تشجعها الدولة الرومانية و بين اليهودية التي وجدت في الجزيرة ملاذا لها يحميها من عدوان المسيحيين. و لكي تكون ضامنة لمستقبل مستقر جمعت اهتمامها لتصبغ العرب بصبغتها، و فكرت لأول مرة بالدولية [6] اليهودية،


و لعل هذه المحاولة تصلح أن تعد فاتحة الحركات اليهودية لتأسيس الوطن القومي، فما ذهب اليه و لفنستون من أن اليهودية لم تكن تعني بالتبشير في الجزيرة، استنادا الي أنها ديانة غير تبشيرية، و هم بالغ؛ لأن الظرف يقضي بأن تتخذ التبشير وسيلة من وسائل المحافظة علي البقاء. كما نعثر علي ديانة ثالثة كانت تبذل جهودا لا تقل عن جهود هاتين الديانتين، و هي المجوسية التي اتخذتها الدولة الفارسية وسيلة الي القضاء علي النفوذ الروماني.

و الشي ء الذي يلفت نظري أن الفرس كانوا ينظرون الي انتشار اليهودية في بلاد العرب بعين الرضي، و هذا يحملنا علي ظن ان الفرس - و هم الذين عطفوا علي اليهود بعد فتح بابل - اتخذوا من اليهود صنائع لهم في جزيرة العرب يستغلونهم في الحيولة دون تسرب النفوذ الروماني اليها. و معني هذا أن الفرس أغروا اليهود بتأسيس دولة يهودية في البلاد العربية. و لما كان من غير المستطاع أن يجعلوها يهودية قلبا و قالبا، و الا أهاجوا العرب عليهم، اكتفوا من يهودية الدولة بالدين، فحصروا جهودهم في تهويد البيت المالك و جعل اليهودية دينا رسميا للدولة، و لقد تم لهم ذلك. و هذا يفسر لنا أن حكومة ذي نواس كانت شديدة الاتصال بحكومة الفرس، و كانت سياستها العامة جزءا من سياسة الثانية، و لعل حركة ذي نواس ضد النصاري كانت بتشجيع الفرس أنفسهم لتكون مقدمة لخصام عنيف، حين وقفت كلتا الدولتين علي جهود الاخري. فالرومان اتخذوا التبشير في الحجاز و الأحباش في الجنوب وسيلة الي الظفر، و اتخذ الفرس وسيلتهم الي ذلك باقامة دولة يهودية موالية لهم في الجزيرة. و الذي يدلنا علي صحة هذا التقدير، انه سرعان ما انكشفت الحوادث عن تماس القوي الفارسية و الرومانية بدون مباشرة و بمباشرة. و من الخير أن نذكر ادوار الصراع بين المسيحية و اليهودية، لما كان له من نتائج نفسية و سياسية و اجتماعية في وجود العرب العام.

ذهبت طائفة من المستشرقين منهم العلما (جريتي و لها و زن و هالفي) الي أن ظهور اليهودية في بلاد حمير كانت نتيجة لنضال عنيف وقع بين اليهودية و النصرانية، تمكنت فيه الأولي من أن تتغلب علي الأخري في بادي ء الامر.


و ذهبت طائفة أخري منها العالمان (جلازر، و فنكر) الي أن الباعث سياسي محض، و هو أن ملوك الدولة الرومانية الشرقية بعد أن فرغوا من الاقاليم المجاورة للجزيرة العربية، تأهبوا لضم أطرافها الي أملاكهم، فرتبوا لتنفيذ هذا الغرض سياسة محكمة، تقوم من جهة علي ارسال وفود الرهبان الي الحجاز ليمثلوا دور الدعاة للنصرانية بين البدو و الحضر، و من جهة أخري علي تمهيد الأفكار و النفوس لقبول السلطان الروماني. فلما تنبه ملوك حمير لهذه الحيل و أدركوا ما يتعرض له كيانهم السياسي من الخطر الشديد بسببها، نشطوا لاحباطها و فكروا في أمضي الأسلحة التي تمكنهم من القضاء عليها. فاعتنقوا اليهودية ليقاوموا سيطرة الدين الجديد باعتباره دينا توحيديا. و بذلك قضي ملوك حمير علي كل الحجج التي كان ملوك الدولة الرومانية الشرقية يعتمدون عليها في الترويج لدعوتهم السياسية.

و كان من النتائج المباشرة لهذا الصراع بين الديانتين، المذبحة التي ارتكبها ذو نواس الحميري بتحريض اليهود، و اعداد الشعب لثورات اجتماعية داخلية. فقد حدث [7] المؤرخ اليوناني يوحنا من مدينة (افزوس) أن دومنيوس (ذو نواس) قبض علي تجار من نصاري الروم و قتلهم، و استمر يعامل تجارهم بالقسوة و العنف و يضطهدهم كلما مر أحدهم ببلاد اليمن، حتي انقطع جميع التجار المسيحيين من دخول اليمن. فكسدت التجارة و ضعفت الحركة، لأن أسواقها تستمد الحياة مما تصدره الي الخارج من الحاصلات الزراعية و المنتجات الصناعية، و لأن ثغور اليمن كانت الواسطة بين الهند و جميع الأصقاع الشرقية و الغربية، فلم يكن من الممكن أن ينظر اليمنيون الي شل الحركة في الاسواق بعين الرضي، فتقدم (ايدوج) قيل و ثني الي ذي نواس، و قال له: ان أعمالك القاسية نقلت الحركة التجارية من ثغورنا الي ثغور الاعداء. فأجابه ذو نواس بأن اخواني اليهود في بلاد الروم يذوقون الوانا شتي من الهوان و التعذيب، فأنا أريد أن.أكفهم عن ذلك بمعاملة تجارهم بقسوة ممائلة. و لكن (ايدوج) خرج غير راض عن هذه السياسة التي ستؤدي الي خراب البلاد


ففكر في أن يتخلص من ذي نواس، فاتفق مع باقي الاقيال الوثنيين، و جمع بواسطتهم جموعا قاتل بها ذا نواس حتي تغلب عليه و قتله ثم اعتنق (ايدوج) النصرانية.

هذه الرواية يشك فيها بعض المؤرخين لأنها لا تشير الي غزو الحبشة لليمن، و ليس فيها ما يدعو الي الشك عندي، لأن عدم تعرض الرواية للتنويه بذكر غزو الحبشة لا ينفيها، فقد يحتمل أن تكون الغزوة الحبشية رافقت الثورة الداخلية، و المؤرخ اليوناني مهتم بالسببب الذي كان أكثر مساسا في الانقلاب؛ علي أنه صح لدينا أن الدعاية السياسية، عن طريق الدين، للدولة الرومانية الشرقية اصطنعت بعض الشخصيات العربية، و ان تنصر (ايدوج) أو بعبارة أصح اظهاره النصرانية يدفعنا الي اعتقاد أنه كان صنيعة من صنائع الدولة الرومانية؛ و هذا يصحح الرواية من بعض الوجوه.

و ذكر مؤرخو العرب ثورة أخري قام بها رجل يقال له لخنيعة ينوف، و تمكن هذا من الغلبة و جمع السلطة في يديه، و لكن المصادر العربية لم تذكر ما اذا كانت ثورة لخنيعة متجهة الي الأسرة الحاكمة فقط أو كانت متجهة أيضا الي هدم كيان اليهودية أيضا، اذ لابد من آلة يستعملونها للتأثير في نفوس الشعب و تهييج عواطفه، و خير وسيلة لذلك بأن يظهروا بمظهر المدافعين عن عقيدة الاباء و الأجداد و دين البلاد.

فهذه الحركات التمردية اذا التي دبرها القيل (ايدوج) و الشعبي (لخنيعة) كانت متأثرة بالصراع بين الديانتين.

و النتيجة الثالثة التي ترتبت علي هذا الصراع، هي قلق الضمير الديني و حيرة النفس المفعمة بالتساؤل المبهم. فالعربي لم يعد يطمئن الي و ثنيته التي لمس في ادبياتها نوعا من الضعة و الانحطاط بمقارنتها بالادبيات المثالية لكلتا الديانتين، كما لم يطمئن الي واحدة منهما لأن الدعاة المتنازعين كشفوا عما في الديانتين من عورات، و المجتمع لم يستطع تقديم مصلح عبقري يتسني له انقاذ هذا الشعب الحائر، قبل أن تسلمه الحيرة الي أسوأ حالاتها. و بالأخص في قريش الذين كانوا في


حالة نفسية مريضة للغاية، بما اجتمع فيهم من موهيات لذلك، فقد كانوا تجارا يجوبون العالم القديم تقريبا للتجارة، و يختلطون بشعوب تنتسب الي ديانات مختلفة، و يشهدون اشكالا من العبادات تثير طلعات نفسية متفاوتة، و تبعث الوجدان علي الوان شتي. و لذلك كانوا ذوي قلوب غفل حيال دعوة الاصلاح التي أذكاها النبي (ص)، فوجد فيهم من يعارض مواعظ النبي القوارع بأقاصيص اسفنديار و أخبار الفرس القدماء؛ لأنهم أخذوا دعوة النبي (ص) علي أنها صنو لدعوة المبشرين من ذوي الديانات الأخري، فعارضوه بما استقر في نفوسهم من تأثير الدعاة المجوس و تأثير الدعاة الآخرين. فقد ذكر الواقدي انه وجد في مكة يهود، كما حاول المستشرق (لامنس) أن يبرهن علي أن عددا كبيرا من اليهود كان يسكن مكة قبيل ظهور الاسلام، و ان من المؤكد أن أفراد من النصاري و عبيدهم كانوا في مكة مختلطين بأهلها.

فلهذه الحيرة الدينية و لعوامل دينية أخري لم يستسغ القرشيون دعاية الاسلام؛ و أما المدينة، فلأن اليهودية تركزت فيها وحدها، كانت عقلية قاطنيها الدينية هادئة كثيرا، و كانت أقرب الي التأنس بالاسلام.

و هذا التطبيق في محيط قريش يوصلنا الي نتيجة هامة، و هي أن طبقات قريش، علي اختلافها، كانت مغلوبة بحيرة بالغة؛ و في معرفة كل منا ان آل هاشم كانوا يمثلون طبقة كهنوتية أو انهم حماة التقاليد الموروثة، فبحكم هذا التخصص كانت لهم تربية دينية خاصة، تجعلنا نقطع بأن بيئتهم الدينية ولدت فيهم ضميرا خصيبا بحكم الوراثة، فينبغي اذن أن يكون صاحب التعاليم الجديدة منهم، و أن يكونوا هم رعاة هذه التعاليم أيضا.

و الذي يصدق هذا التقدير، أن الوجدان الديني كان يغلب علي جميع رجالاتهم في كل دور، فان عليا (ع) و الحسن و ابن عباس و زين العابدين و محمد ابن ابراهيم شواهد صادقة.

فالنفس العربية كانت حائرة ما في ذلك شك، و قد تمادي بها الشك الي ألوان


من الجمود و الالحاد الخالص. فان من المحقق أن الاطفال و من في مستواهم من ذوي العقليات البدائية التي تضعف عن الموازنة و التحكيم، تميل بل تسرع الي التصديق و الايمان في غير شك و لا ريب، و المنطق الجازم هو الذي يأخذ سبيله الي عقولهم و قلوبهم، ليمأ خلاءها الساذج، و هذه الرغبة عند الانسان التي لا تفتأ ساعية به الي ارواء ظمئه الروحي هي التي تجعل استعداده للايمان غير محدود، و ان ما يسمونه في الفلسفة بالوجدان البديعي sentiment esthetique يدفع الانسان الفطري الي اشباع نهمه الفكري. فالعربي بدائي. و البدائي سريع التصديق، و لكن نشاط المبشرين بديانات مختلفة، جعله يتردد. فهو لا يمكنه الايمان بها جميعا، كما أنها لم تكن ديانات و ثنية أو تشبه الوثنية حتي يجد الحل من قريب، بأن يحترم آلهتها بدون تفريق، كما كان يفعل الوثنيون القدماء. فالاسكندر، حين فتح مصر، تبني فكرة المصريين الدينية، و حرق لآلهتهم.

فلم يبق أمام العربي اذا الا أن يشك و يلح في الشك، لأن حرب الديانات بينهم لم يكن يعرف الهدنة. فالعربي كان صاحب وجدان ديني مريض، و بالأخص الذي يسكن الحواضر. و الأخبار التي حدثتنا عن شك العربي في مناسبات حياته أكثر من أن تحصي، حتي لقد اهتم القرآن بشأن هؤلاء الشاكين اهتماما خاصا، و هاجمهم مهاجمة عنيفة كلما حكي أفكارهم، في مثل آية (ان هي الا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا الا الدهر) و آية (و ما نحن بمبعوثين)، الي غير ذلك من الايات الكثيرة. و هذا المذهب الدهري كان أكثر المذاهب انتشارا، كما يظهر.

و الذي يدل علي مكان هذا الشك، في نفوس العرب، شيوع فكرة النفاق في عدد كبير بعدما قوي شأن النبي (ص) و ظهرت دعوته الاصلاحية. و اشتعلت الضمائر بالثورة علي القديم، و مال الناس الي تعاليم النهضة التي أعد النبي (ص) هيكلها. رغم هذا النمير الصافي الذي أجراه النبي (ص) الي كل نفس لارواء ظمئها و تبريد غلة الشك فيها، لم تتأنس نفوس المنافقين بتعاليم الدين الجديد بل لم تطمئن اليه، و هم معذورون، لأنهم كانوا يعانون من برح الشك الخفي ما جعل ضمائرهم قلقة علي الدوام.


و الاشياء التي تركها صراع الديانات عند العربي سواء في الوضع النفسي أو الديني أو الاجتماعي هي:

(1)الحيرة النفسية العميقة.

(2)صقل الوثنية اما بالفكر عند الطائفة المستنيرة، كالذي حدثنا به القرآن حاكيا قولهم (و ما نعبد هم الا ليقربونا الي الله زلفي)؛ فهذه الوثنية المتطورة الفكرة لابد انها مذهب أثر في وجوده ما شاع بين العرب من أفكار الديانات الاخري. و اما بالعادات، كالصوة و النسي ء.

و الصوفة وظيفة [8] دينية، قال ابن هشام: كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة و تجيز لهم اذا نفروا من مني، فاذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، و رجل من صوفة يرمي للناس، و لا يرمون حتي يرمي، و كان آخرهم الذي قام عليه السلام (كرب بن صفوان)؛ و يقول الدكتور و لفنستون: ان صوفة التي معناها في العبرية الحارس أو الشخص الذي يبصر في الشؤون الدينية، وظيفة تسربت الي العرب من اليهودية.

و النسيئة وظيفة أيضا تسربت الي العرب من اليهود. و تميل جمهرة المستشرقين الي تفسير هذه الكلمة بما كان معروفا عند العبريين، من أن الناسي ء، أي الرئيس الديني كان يؤخر و يقدم الشهور و يعين مواعيد الاعياد و الصيام، و يعلن النتيجة بايفاد الوفود الي الطوائف اليهودية المختلفة. و الناسي ء هو الاسم الشائع لرئيس القبائل عند بني اسرائيل منذ أزمنة غابرة. و وجود هذه الوظيفة في بني كنانة التي كان


منها بطون مشهورة يرجح هذا التقدير، كما يؤيده ما ذكره ابومعشر البلخي في كتاب (الالوف) و ابوالريحان البيروني في كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) و المقريزي في كتاب (المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار). و يذهب المستشرق الهولندي (دوزي) الي أن حرم مكة عمر ببطون [9] بني شمعون، و ان تقاليده لست الا وراثة اسرائيلية قديمة. كما ذهب أيضا الي أن العرب استعاروا أسماء أيام الاسبوع من اليهود، اذ لا يمكن تصور استعمال لفظ السبت بدون هذا، كما أن يوم الجمعة عرف عند أهل مكة بلفظ عروبة، و هو لفظ يطلق عند اليهود علي كل يوم قبل السبت و قبل الاعياد.

(3)فكرة تحريم الأشهر التي تشير الي شعور اجتماعي خاص دفعهم الي تكتل قومي مؤقت. هذه الفكرة التي كانت وليدة الشعور البليغ بالاجتماع. و نحن نطمئن الي أنه نتيجة الاتصال بنظم جديدة، لأنه لون من التعاون الشعبي أوسع


من اعتبارات القبلية متخذا شكلا دينيا عميقا، بله انه كان حاجة أكيدة من حاجات التعايش في ظل الجنس. و يدل علي انه غير بعيد النشأة أن قبائل من العرب كلخم لم تكن تخضع لهذا التشريع.

و النتائج التي نتوصل اليها بعد هذا العرض السريع:

(1)ان صراع الديانات كان عنيفا و كان مأجورا استعملت فيه شر الوسائل، حتي أدي الي مذابح رسمية في الجنوب علي ايدي الحميرين [10] ، و الي مناوشات في الحجاز.

(2)ان الديانات لم تظفر بتحويل العرب عن عقائدهم، بل ظفرت باثارة الشكوك.

(3)ان الاسرة الهاشمية كانت هي المأمولة بأن تقدم المصلح، و ان المدينة هي الوطن الصالح لنمو الديانة الجديدة و بقائها.

(4)ان النفاق مبعثه الشك الديني.

هذا بحث لا يعنينا منه الا أن نتحسس حالة الشك عند العرب قبل الاسلام، و مقدار ما بقي منها في النفوس بعده. و قد ظهر لنا مما سبق أن حالة الشك كانت متحكمة الي حد كبير في عقول العرب و نفوسهم، و رأينا أيضا كيف أخذ الشك في عهد النبي (ص) شكلا آخر دعي نفاقا. و في كتب التاريخ أخبار كثيرة و أقاصيص كثيرة من مثل قصة عمرو بن معدي كرب التي ذكرناها في مقدمة [11] الحلقة الأولي من هذه السيرة. و قصة تهاون المغيرة بن شعبة بالصلاة علي ما ذكره


البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه، و تهاونه بالحدود علي ما ذكره الاصبهاني في كتاب الاغاني. و كلها تدلنا علي مكان هذا الشك الذي ظهرت طلعاته و خوالجه المكبوتة في حركة الارتداد و حركة المتنبئين.

فان حركة الارتداد، اذا درسناها درسا دقيقا، دلتنا علي موضع الشك عند هاتيك الاقوام الفطرية، و انه امتد الي نواحي نفسياتهم و صبغ عليهم ميولها. و هذه الحركة كانت متممة لحركة التنبؤ التي بدت طلائعها في زمن النبي (ص) آخر عهده. و كانت شائعة بين كثير من الخواص. و ان ظاهرة الشك فيها كانت ملموسة الي حد كبير، حتي لنراها في تضاعيف قصة المتنبئين واضحة جلية. و قد تأثرت هذه الحركة في نظري بعوامل ثلاثة:

(1)الاستياء الذي تملك الطبقات الدينية (الكهان) من ضياع نفوذهم بالاسلام، فعمدوا الي استعادة مجدهم المفقود بدعوة مشابهة.

(2)قلق الوجدان الديني الذي ظهر انه كان قويا الي حد ما، و قد استغله المتنبئون لايصال دعوتهم الي العقول، أو علي الأقل لاثارة الشك في التعليم الجديد الذي اطمأن العرب اليه اطمئنانا ما. و هذا يكسبهم رجوع العرب الي جاهليتهم المضطربة.

(3)عدم فهمهم للنبوة علي حقيقتها، فان الذي في خيالهم عنها كان تصورا مبهما و مشوها. و لكي تتضح لنا هذه العوامل في حركة المتنبئين، علي وجه ادعي الي التصديق، نورد نتفا من أخبارهم.

ذكر ابن جرير انه لما اشتكي النبي (ص) وثب الاسود باليمن، و مسيلمة باليمامة، و وثب طليحة في بلاد بني اسد. و لعل أطرف شخصية بين المتنبئين هي سجاح بنت الحارث التي كانت كاهنة، و كانت علي علم بالنصرانية و كانت راسخة فيها تأثرت بنصاري تغلب. و انما اخترناها لأن شخصيتها ازدوجت بشخصية متنبي ء آخر هو مسيلمة.


و خبرها كما ذكره الطبري [12] : انها تنبأت بعد موت رسول الله (ص) بالجزيرة في بني تغلب، فاستجاب لها الهذيل و ترك التنصر، و كان قصدها غزو ابي بكر في المدينة، غير أن الظروف جعلتها تغير اتجاهها الي اليمامة. و يقولون انه جري علي لسانها (عليكم باليمامة، و دفوا دفيف الحمامة فانها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة، فنهدت لبني حنيفة و بلغ ذلك مسيلمة فهابها فأهدي اليها ثم أرسل لها يستأمنها علي نفسه حتي يأتيها؛ فنزلت الجنود علي الامواه، و اذنت له و أمنته، فجاءها و جعل لها نصف الارض. و رووا انها تزوجته و طلبت اليه أن يصدقها، فأمر مؤذنها شبث بن ربعي الرياحي أن يؤذن في الناس: ان مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما اتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة و صلاة الفجر. و ذكر الكلبي ان مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما.

و كان من جملة أصحابها عطارد بن حاجب، و هو الذي يقول:



أمست نبيتنا انثي نطيف بها

و أصبحت انبياء الله ذكرانا



ثم أسلمت و حسن اسلامها

هذه القصة تذكر أن سجاح كانت متأثرة بالنصرانية الي حد كبير، أي غير مطمئنة، أو حائرة، و كانت كاهنة، فهي لذلك مستاءة حيث أن الاسلام وضع حدا للاعتقاد بأشباهها، و اتبعها كثير من متنصرة تغلب، و انها تزوجت بمسيلمة الذي جعل صداقها اسقاط صلاتين من ديانة محمد (ص). و يؤكد نظريتنا في ضمير العرب الديني، و انه كان متلددا، ما ذكره الكلبي من أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما. علي اننا نكاد نلمس الابتسامة الماكرة الساخرة في قول عطارد بن حاجب و بالأخص هذا التعبير (انثي نطيف بها) و رغم ذلك نجده منقادا مستسلما لأسباب منها، أو أهمها: الحيرة التي شملت مجموعهم النفسي.




و الان ننتقل الي درس هذه الظاهرة في عهد الخلفاء، خصوصا عند الاعراب و من لف لفهم. و لسنا نقف عند حوادث جزئية وقعت من الاشخاص في بعض مناسبات حياتهم، و انما نتجه من أول الامر الي أحداث كبيرة تجلت فيها ظاهرة الشك علي نحو يفيدنا ان نشخصه.

و يحسن بنا أن نشير هنا الي أن كتاب نهج البلاغة، اذا درسناه دراسة نقدية، نقع فيه علي ما يؤكد هذا الظن، ففيه خطب كثيرة و مجالس كثيرة تدور علي مسائل من أصول الدين، كان الناس لا يفتأون يسألونه عنها أو يستاءلون بها فيما بينهم، و هي مسائل تتعلق بالذات الآلهية، في أغلب الاحيان كمثل خطبة الاشباح، و هي من جلائل خطبه، و كان سأله سائل أن يصف الله حتي كأنه يراه عيانا، فغضب الامام (ع)، و عرفهم كيف ينزه الله؛ و خطبته في ابتداء خلق السموات و الارض، و خطبته في تنزيه الله؛ و أجوبته في الحرية الادبية أو الارادة الجزئية (معضلة القضاء و القدر)؛ مما يدلنا علي ما هو متملكهم من حيرة خفية، فان الاسلام رغم انه وضع حدا لهذه الحيرة بما فرض من مثل و تعاليم، عادت فظهرت علي أشكال اسلامية، و بالأخص بعد عملية المزج الكبري التي أدي اليها الفتح السريع. فدخول ذوي الديانات الاخري في الاسلام - و الامم لا تغير دياناتها كما تغير اثوابها - ثبت هذه الحيرة أو انماها، و لكنه أعطاها شكل الاجتهاد الديني، و الآن ندرس حركة الخوارج و السبئية علي ضوء هذه النظرية.


پاورقي

[1] و الشاهد علي هذا خلاف علي و ابن‏مسعود في حامل توفي عنها زوجها، فقال علي: تعتد بابعد الاجلين توفيقا بين آية البقرة و هي (و الذين يتوفون منکم و يذرون ازواجا يتربصن بانفسهن اربعة اشهر و عشرا) و آية سورة الطلاق (و اولات الاحمال أجلهن ان يضعن حملهن)، و قال ابن‏مسعود: من شاء باهلته ان الثانية نزلت بعد الاولي فهي ناسخة. هذه القصة تکشف لنا عن مقدار السذاجة العقلية التي لا تستقيم لها الموازنة و التحکيم، و انما تلجأ الي الغيب المحض، فابن‏مسعود ينذر بالمباهلة و يستند اليها کمقدمة برهانية؛ هذا هو المنطق الغالب علي العرب لذلک العهد، فليس بدعا ان يترددوا و يبالغوا في التردد؛ و انا اعتقد أن شعبا يصدر عن منطق کهذا ما کان ليفهم عليا (ع)؛ و بتدقيق النظر في منطقه، في هذه المسألة، ينکشف لنا نظام تعقله السري.

[2] الحمس هم: قريش و کنانة و خزاعة و جماعة من بني‏عامر بن صعصعة، و سموا بذلک لتشددهم في احوالهم دينا و دنيا؛ راجع شرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزي ج 1، ص 4. و سبب التسمية ينظر الي شي‏ء وراء ما وضح للغويين، و هو عندي يدل علي مذهب ديني خاص، فان القريشيين عرفوا بذلک، کما تبعث فينا هذه التسمية احساسا بان الحماسة کانت عند العرب هي المثل الاعلي، و نظن ان ابا تمام استعملها بهذا المعني حين اطلقها علي الديوان.و عليه فقد کان للعرب مثل اعلي يعبر عن اقصي ما تصبو اليه احلامهم. و بالمناسبة اذکر بانه وضح لي لفظ آخر يصلح ان يکون هو لفظ المثل الاعلي عندهم و هو الامانة، فان العرب الجاهليين اطلقوا لقب الامين علي النبي (ص) في الجاهلية لانه کان نسيج وحده في شمائله العالية، و بسبب ذلک استعملوا له کلمة المثل الاعلي، و يؤيد هذا التقدير نصوص القرآن فقد اورد مشتقات هذه المادة کلها تقريبا و هي تدور علي هذه الملاحظة. و مهما فرضنا ان القرآن هو الذي طور هذه المشتقات و افرغ عليها معاني جديدة فليس من الجائز البتة ان نظن مطلقا بانه تجوز بالکلمة عن اصل معناها، فهو يستعمل الامين بمعني «القدس» بجانب جبريل و بمعني «الرسول» في سورة الشعراء و بمعني «القوي» في سورة النحل، و يستعمل الامانة بمعني «الشريعة» في الاحزاب، و يستعمل المؤمن وصفا «لله» و وصفا «للمسلم» و کأنه في جانب الله بملاحظة المثل الاعلي الذي هو مصدر المثل، قال تعالي (و لله المثل الاعلي) و في جانب المسلم بملاحظة المثل الاعلي الذي يشخص الناس اليه او الذي هو حد للانسانية الرفيعة، ثم کلمة آمين التي تستعمل في الدعاء، و الداعي حين يدعو يحاول غرضا عجز عنه بقوته فلجأ الي الغيب يطلب منه العون الالهي للوصول اليه و هو الغرض الأسمي له في حاله. و بما ان الشعب تتفاوت طبقاته، فقد کان للعرب مثلان: الاول مثل الطبقة العامة و هو الحماسة؛ حلل جيدا الفضيلة في (انصر اخاک ظالما او مظلوما) فقد کان هذا التحمس و التعصب فضيلة خاصة. الثاني مثل الطبقة الخاصة و هو الامانة.

[3] کلمة من وضعنا الجديد ترادف فيلولوجي؛ راجع کتابنا: مقدمة لدرس لغة العرب.

[4] راجع شرح ديوان السموأل لنفطويه ص 10.

[5] راجع کتاب: تاريخ اليهود في بلاد العرب للدکتور و لفنستون.

[6] فکر اليهود، بعد تشتيتهم، في موقفهم کأمة من واجبها الدفاع عن کيانها؛ و بعد محاولات کثيرة توصل عقلاؤهم في العصر الحديث الي وجوب تعيين مکان ليعتبروه وطنا قوميا لهم فانتخبوا بقاعا کثيرة کالارجنتين و شاطي‏ء افريقيا الغربي و فلسطين؛ و لکن التجارب اخفقت الا في فلسطين حيث امکن لزعمائهم اقناع سواد اليهود بسهولة، و اذکي هذه الفکرة فيم مذابح الروسيا التي وقعت خلال القرن التاسع عشر، فتخطوا الحدود الي الارض المقدسة؛ و کانت اول هجرة منظمة في عام 1881، و انشئت الجمعيات لايواء اولئک المتشردين، فکانت اول مستعمرة منظمة هي (ريشون لصيون) و جمعية اخري اسست مستعمرة زمارين؛ و کانت هذه الجمعيات تعمل منفردة الي ان اجتمعت في جمعية مرکزية للاشراف علي حرکة الاستيطان في فلسطين و اسمها جمعية الاستعمار اليهودية؛ ثم ظهر (هرتزل) العام اليهودي الالماني الذي تفرغ للدعوة الي الحرکة المذکورة، و ابلغ رسالته في کتابه (الحکومة اليهودية) و هو انجيل الصهيونيين في الوقت الحاضر.

و کان قد سبق (هرتزل) يهودي آخر عمل لترويج الفکرة بوجوب اندماج اليهود في العناصر التي يعيشون بينها، فاليهودي المقيم في بريطانيا يجب ان يکون بريطانيا؛ و قد سفهت تعاليم هذا الرسول الجديد المدعو (مندلسوهن)؛ راجع کتاب العقائد لعنايت ص 89 الي ص 102.

و في نظري ان هذا النشاط السياسي لليهود ظهرت اولي محاولاته في جزيرة العرب قبل الاسلام، و لذلک کان لانهيار الدولة الحميرية اليهودية رنة اسي من جميع اليهود في الجزيرة و خارجها حتي ظهر في اشعارهم و مراثيهم الطويلة لتلک الدولة، و بلغ بهم خيالهم المذعور الي التوهم بان الدولة لم تمح بل هي متحصنة في الصحاري، و لذلک هاجر اليهود الي اليمن ليبحثوا عن حکومتهم المرهومة؛ راجع کتاب: تاريخ اليهود في جزيرة العرب.

[7] راجع کتاب: تاريخ اليهود في جزيرة العرب للدکتور و لفنستون.

[8] من المسائل التي لم تحل حتي الآن تعيين الاصل الذي تنظر اليه کلمة (صوفية) و (تصوف)؛ و علي کثرة التقديرات لم يصل العلماء الي رأي قاطع، فهم تارة يردونها الي الصوف و تارة الي الصفاء و احيانا يردونها الي اصول يونانية. و رأيي الذي اطمئن اليه جدا ان يکون (صوفية و تصوف) من کلمة صوفة العبرية. و مصدر هذا الاطمئنان شيئان (أ) الآصرة الشديدة بين معني صوفية و معني صوفة، فکل منهما طائفة لها ترتيب ديني خاص و اشکال تعبدية؛ و ان تخصص فريق من عرب الجاهلية بوظيفة الصوفة يجعلهم طبقة ذات شعائر و امتياز في مذاهب حياتها علي شکل المتصوفة. (ب) مساعدة قواعد العربية في النسبة والاشتقاق علي هذا التخريج اللغوي.

[9] لي رأي جد غريب في اصل قريش و العدنانيين استخلصته من دراسات لغوية محض علي الاصول التي وضعتها في کتاب (مقدمة لدرس لغة العرب). و رغم انه رأي لا يستند الي وثائق تاريخية فهو ينسقها، و يتلخص بان العرب و العبريين کانوا قبيلة واحدة يسکنون في الجنوب، و الجماعات التي کانت مساکنها اقرب الي الساحل سموا (عبريين) اي ساحليين نسبة الي (العبر) و الجماعات التي کانت مساکنها اقرب الي الصحراء سموا (عربا) اي صحراويين من کلمة (عربة) اي صحراء. و عليه فهذه التسمية جغرافية خالصة لا کما توهم المتوهمون من مستشرقين و احبار. و أقدر أن هؤلاء ساحليين کانوا يشتغلون في البحار کما هو شأن اشباههم. و قد وفقوا الي نوع من الحضارة بينما الجماعات الاخري الصحراوية الح بها الجهد و اضطرها التکاثر الي مزاحمة العبريين في مساکنهم و اظن انها کانت الاماکن المتصلة بعدن التي اري ان معناها عاصمة او مرفا. و کان ضغط العرب او الصحراويين عليهم شديدا حتي حمل کثيرا منهم علي المهاجرة صوب العراق و لکن بقيت منهم بقية دعي افرادها بالعدنانيين اي المقيمين و دعي العرب المتغلبون قحطانيين بالنظر الي القحط او الي الصحراء التي لا يفارقها القحط. و اذا ثبت هذا الاحتمال الخاص بشواهد تاريخية فيما بعد نعرف ان عدنان و قحطان اقدم مما کانا نظن. ثم اتخذ هؤلاء العدنانيون سبيلهم الي الحجاز حيث عاشوا هناک و شيدوا في أم القري المعبد العتيق. و ربيعة و مضر في نظري علمان جغرافيان ايضا، و ليسا علمين علي جدين؛ فان معني ربيعه يشير الي الارض المربعة و منازلها کانت کذلک، و معني مضر يشير الي الرمال الملتهبة و منازلها کانت کذلک. هذا رأي اقتصر منه علي ما ذکرت لانه لا يستند الي وثائق تاريخية و انما هو تقدير مجرد مبعثه التحليل اللغوي الخالص.

[10] الحميريون طائفة مبهمة النشأة؛ و المؤرخون علي اختلاف في حقيقتها. و انا اشک في عربيتهم و اعتقد بانهم دخلاء؛ و مبني شکي علي التحليل اللغوي، فانا اذا تتبعنا کلمات احمر و حمر و احامر و جدناها تدل علي غير العربي؛ و في ظني ان حمير ترجمة کلمة (فينيقي) فقد ذهبت طائفة من المستشرقين، منهم الاب اليسوعي «مرتين»: مؤلف تاريخ لبنان، الي ترجيح ان يکون معني فينيقي احمر. و اخبار التاريخ جاءت بأن بعضا من الفينيقيين نزل في بلاد العرب جهة اليمن ايام سليمان (ع).

[11] راجع الحلقة الأولي: سمو المعني في سمو الذات ص 46.

[12] راجع الطبري ج 3، ص 228 الي 241.