بازگشت

القبيلة و نظامها


لكي نتحقق من صدق هذه النظريات يلزمنا ان نعرض، علي وجه سريع، القبيلة و النظام القبلي الذي كان سائدا عند عرب الجاهلية. فالقبيلة طائفة متبدية من الناس تعيش متقلقلة فوق بقاع من الارض تصلح للحياة بأضيق معانيها. و من فرط تماسكها تذهب الي انها اسرة حقيقية لها اب واحد قديم، و تجري في عروقهم دماء واحدة ايضا.

و القبيلة من وجه عام وحده العرب الاجتماعية، و نظامها يميل الي الاشتراكية الساذجة، الا انها استطاعت ان تذيب الفردية تماما من جهة، و ان تحقق صلة الجماعة بالفرد من جهة اخري؛ فكما لم يكن له استقلال شخصي فيما تتجه اليه الجماعة، كان عليها ان تكلأ جانب الفرد و تحوطه من العدوان. و كان يشرف علي هذا النظام رئيس له شبه سلطة مطلقة، و من فرط خضوعهم لنوع هذا النظام استجابة لمطالب البيئة التي لا تسمح للفرد ان يعيش وحده، فيطلب دائما الاندماج في الجماعة، سيطرت عليهم الحماسة للقبيلة و توهجت بنارها في نفوسهم؛ و هكذا تكونت العصبية العنيفة عند القبيلة للفرد، و عند الفرد للقبيلة؛ هذه العصبية التي كان من شعارها «انصر اخاك ظالما او مظلوما».

و: لا يسألون اخاهم حين يندبهم

في النائبات علي ما قال برهانا

حنت نفوس العرب علي اعتبارات شديدة الخطورة في توزيع الشعور و بدوات الاحساس، و اقامت ميولهم علي قاعدة بالغة الضيق بالغة الحرج. و برغم اضرارها كانت ضرورة من ضرورات المحافظة علي البقاء في حدود القبيلة، من حيث ركزت في طباعهم وحدة المطالب و الغايات و الافكار و العادات، و وسمتهم بسمة التكافل و التضامن السابغين؛ فكان هذا الوضع الحيوي لديهم يشبه نظيره عند الاسبرطيين،و ان كان وضع الحياة في اسبرطة اكثر ميلا الي اللون الحضاري و الطابع القومي.

ان ضرورة التعاون، في الدفاع عن النفس، صير بين القبيلة آصرة قوية و لحمة


عضلية مجتمعة الالياف، و اقامت المجتمع العربي علي العصبية النكراء. و لقد غلت بهم حتي امتدت بآثارها الي القانون و العرف، و حتي استحال تاريخ العرب القبلي الي تاريخ للدماء. و اذا اردنا ان نحصر بواعث التاريخ لديهم فلا نجد شيئا وراء هذه الداعية العنيفة، و قد نكون اكثر تحقيقا اذا قررنا انها كانت المحرك الحيوي العام، فقد ظهرت بألوانها في الاجتماع و الاخلاق و الادبيات و في المثل ايضا. فكان لكل قبيلة طوتم خاص بها، و طقوس ترضي تصوراتها و تنسجم مع مذاهب ميولها. و لم تكن عند العرب نزعة ما تفوق هذه النزعة في عنفها و شدتها، و كانت الي جانب هذا معينا تمد خيالهم الادبي و المثالي. فاستحكام القبلية، علي هذه الشاكلة عند الجاهليين، يظهرنا علي مقدار الجهود الواجب بذلها لتطهير النفس العربية و اعدادها بسبيل المبادي ء الجديدة.

و النبي (ص) اعتمد، في كفاح العصبية، علي شتي الوسائل و طاولها مطاولة كانت قمينة بأن تأتي عليها، و بالفعل رأينا انها استترت في زمن النبي (ص) و استخفت كما يستخفي الميكروب في انحاء الدم حتي اذا هادنه العلاج ظهر بعنفه و قوته و انتشر بحماه. و سياسة النبي (ص) تتلخص بالسمو ببيئة العرب و القضاء علي المزاح العقلي القبلي باعطائهم مزاجا عقليا جديدا خليقا بتصريف حركاتهم في كيانهم الدولي، و تهيئتهم مع الزمن لما يسمونه بخلق الامة علي شكل صالح. و هذا يستدعي من العناية العملية اكبرها، و الا فمجرد [1] التعاليم لا تكفي لتغيير روح الامة، و لذا قال نقاد الثورة الفرنسية: ان الشعب الفرنسي سار في طريق الملكية من حيث لا شعور، و كذلك الشأن في العرب فانهم عادوا، في ظل


الحكومة الجديدة و التعليم الجديد، الي مزاجهم العقلي القديم. و عندي ان في جملة الاسباب التي اعانت علي ان تنجم العصبية مرة اخري أمرين مهمين:

(1)التعجل بالفتوح قبل الاختمار الديني الذي يؤلف من مجموع الصفات النفسية للافراد صفة عامة، و هي التي يعبر عنها بخلق الامة؛ مما ادي الي ان يخرج هذا الخليط الكبير من العرب، و ينتشر في بقاع واسعة من الارض، حاملا غريزته الاجتماعية التي كانت لا تزال اكثر اتصالا باسباب نفسه، و لقد تمتد فتصبغ كل صفاته الادبية بصبغتها.

(2)عدم عناية حكومة الخلفاء ببث التربية الدينية علي النحو الذي جري عليه النبي (ص)، هذه التربية التي اذا اقترنت بالزمن كونت المزاج العقلي للأمة الذي هو الوحدة الحقيقية لها و الرباط المعنوي؛ الثابت فانه يعمل في تطور الامم من وراء النظم و الفنون و التقلبات السياسية.

و هذان سببان مهمان، سنتكلم عليهما عندما نتناول الفكرة الدينية عند العرب، لانهما أكبر مساسا و اتصالا بها. و خليق بنا أن نعرض المناسبات التي ظهرت فيها الفكرة القبلية بشكلها العنيف بعد أن أسلم النبي (ص) نفسه و لحق بالرفيق الأعلي. و اهم المواقف التي غلت فيها العصبية أو كانت معتركا للعصبيات في عهد الخلفاء، هي:

1- الانتخاب يوم السقيفة، فقد كان تنازعا تمده العصبية بأسبابها، و أي واقف علي الخبر لا يخفي عليه جانب العصبية في هذا النزاع. بيد أنه كان متميزا مع ذلك بصفة هامة، و هو التنازع و الخلاف ضمن نطاق محدود يحترمه الجماعة كافة و في حدود رمز واحد يختلفون الا عليه؛ و لذلك لم تعمل العصبية عملها النكير و كانت عقيمة الأثر، لأن الجمهور المتنازع كان مختمر النفس مشبوب العقيدة عامر القلب بالمبدأ السامي. و هذا يظهر صدق نظريتنا في أن الخلفاء لو عنوا ببث التربية الدينية علي الشكل الذي بثه النبي (ص) في نفوس الجموع القريبة منه، لما تفرق العرب قددا و تطوحوا في مذاهب مختلفة. و اليك خبر هذا اليوم الذي يعتبر أول اجتماع انتخابي في تاريخ الدولة العربية:


اجتمع الانصار في سقيفة بني ساعدة و قد عقدوا امرهم علي تولية سعد بن عبادة، ثم توافي الناس اليهم، فتكلم سعد و كان منطق خطبته يدور علي أن الغنم بالغرم، و الانصار هم الذين غرموا في سلسلة الحروب و حركات الجهاد التي قام بها النبي (ص)؛ و هاتان المقدمتان تسلمان الي النتيجة التي يتوخاها سعد زعيم الحزب الانصاري الذي يقول بأن الخلافة للانصار. ثم تكلم أبوبكر و كانت عناصر دفاعه عن قضية المهاجرين ترجع الي أن قاعدة «الغنم بالغرم» لا تصح صد المهاجرين الأولين الذين كانوا التربة الأولي للنواة الاسلامية، فهو زملاء النبي (ص) في الدعوة الي الدين الجديد، للانصار منزلتهم و لكن علي غير هؤلاء الاشابة المختارة؛ و هذا المنطق اسلمه الي النتيجة التي شغلت الانصار، و جعلتهم يفكرون في شي ء جديد، و هي: «نحن الامراء، و انتم الوزراء».

و اعتقد أن خطبة ابي بكر كانت مداورة لبقة أكثر مما كانت دفاعا بالمعني المقصود من هذا اللفظ، و براعته الفائقة ظهرت في الفكرة الجديدة التي انتهي اليها، ففيها اغراء و بذلك اطمعهم و حرك آمالهم، و فيها تسليم بقاعدة «الغنم بالغرم» و بذلك اعطي علي نفسه و حزبه ضمانا للانصار بأن لهم أن يستفيدوا من المراكز التي تلي الخلافة بالذات.

و كم كان أبوبكر دقيقا حين خص دفاعه بطائفة المهاجرين الاولين فقط، دون المهاجرين عامة، و الا لتهدم دفاعه من اساسه، لانه ليس لعامة المهاجرين هذه الصفة التي أوسعها في خطابه، كما أنه بذلك يوقظ العصبية الراكدة. و لا ريب في أن أول أثر يتركه هذا الدفاع في جماعة الحزب الانصاري الانقسام، و لقد احس بهذا الانقسام الحباب بن المنذر من الانصار، فاجتهد بأن ينقذ الموقف باقتراح جديد، هو: «منا أمير و منكم أمير»، و كان خليقا ان لا يلاقي اشياعا لانه رجوع الي المنطق القبلي الخالص. علي أن العصبية ابت الا ان تذر قرنها وسط هذا الانتخاب فقال عمر: «و الله لا ترضي العرب ان يؤمروكم و نبيها من غيركم و لكن العرب لا تمتنع ان تولي امرها من كانت النبوة فيهم و ولي أمورهم منهم،


من ذا ينازعنا سلطان محمد و امارته، و نحن اولياؤه و عشيرته، الا مدل بباطل أو متورط في هلكة».

فقال الحباب بن المنذر ردا عليه «يا معشر الانصار املكوا علي ايديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و اصحابه يذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر. فان أبوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد و تولوا عليهم هذه الامور، انا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب، اما و الله لئن شئتم لنعيدنها جذعة».

و قال سعد بن عبادة لعمر «و الله لو أن بي قوة ما أقوي علي النهوض لسمعت مني في اقطارها و سككها زئرا يجحرك و اصحابك، اما و الله اذا لا لحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع».

و من هذه المقاولات نفهم أن فكرة الدولة كانت بعيدة عن أذهانهم، كما نلمس مقدار الأثر القبلي في الخلاف، و لكنه لم يدول الي صراع ففوضي كبيرة، لان نفوس المختلفين كانت أكثر تهذيبا، فلذلك كانت أقل عنفا.

2- الارتداد: كان الارتداد حركة يراد بها، في أول الامر، الخروج علي السلطة المركزية التي تمثلها هيئة حاكمة في المدينة. و لا ريب في أن الباعث الأهم عليها هو العصبية التاريخية بين طوائف الشمال و طوائف الجنوب. ثم غلت العصبية في جماعات، فعمدوا الي الانفصال بكل الاشكال حتي في الدين، فقد قدموا انبياء ايضا قاصدين بذلك القضاء علي كل ما يشتم منه رائحة الاتصال.

و هؤلاء المتنبئون لاقوا تعضيدا من اغلب المرتدين الذين وجدوا فيهم الرمز الروحي المفقود لحركتهم الانفصالية التي كانت جزءا من الصراع القديم بين الشمال و الجنوب، و بالتالي بين القحطانية [2] و العدنانية. و نحن اذا لاحظنا أن الروح القبلي لا ينسجم و الحكم المركزي بحال، نقع علي الحافز المهم الذي دفع


المرتدين الي تشكيل حركتهم الكبيرة بشكلها العنيف، و نري أيضا كيف اعثرو بسرعة علي ما يوحد بين جهودهم الخاصة. و يحسن بنا أن نتكلم باجمال عن كلمة ارتداد و عن عوامله الأخري.

لم يكن [3] لهذا اللفظ معناه الفقهي الذي يرادف الالحاد في ذلك الزمن، و انما اطلق بمعناه اللغوي فقط الذي يفيد النكول و الرجوع، لان من جملة طوائف المرتدين جماعات لم تكفر و لم تلحد، و انما امتنعت عن التقيد بممارسة النظام المالي الذي كانت تمارسه في زمن النبي (ص)؛ و عليه فالمرتدون قسمان:

(1)الملحدون و هم الفرطون في العصبية.

(2)الخارجون علي السلطة المركزية في المدينة.

و عوامل هذه الحركة، عدا ما ذكرناه، كثيرة منها:

(أ) الجحود الطبيعي في النفس البدوية، و حالة الشك الديني المتولد عندهم من تناحر الديانات المختلفة.

(ب) فقر العرب.

(ج) نظريتهم في الحكومة بأنها عدوان علي الحرية الشخصية و الكيان الفردي.

(د) نظريتهم في الذكاة بأنهم ضريبة تمس الاستقلال المالي للفرد و تنافي الملكيات الخاصة.

و يضاف الي هذا سبب آخر مبني علي نظام [4] الطبقات الذي كان يفصل ما


بين الجماعات العربية، و هو:

(ه) فهمهم للزكاة بانها حق لازم للطبقة الفقيرة يؤخذ منهم بالكره، و في، هذا تهديد لنفوذ الطبقة المالية، فلا بدع اذا رأوا في نظام الزكاة استطالة و تطفلا، و بذلك نفهم أن حركة المرتدين في حقيقتها كانت «ثورة الرأسمالية علي المبادي ء الاشتراكية الجديدة» تحمسها العصبية و بذكيها الروح القبلي.

و الآن نعود الي صدر الحديث لنجيب علي سؤال، و هو: كيف استساغ هؤلاء الحكم المركزي في ظل حكومة النبي (ص)، و لم يستسيغوه بعد ذلك؟

يرجع السبب في هذا الي انهم أخذوا حكومة النبي (ص) من جانبها الروحي، و نظروا اليها من هذه الناحية فقط، فلم يجدوا فيها ما يحيي عنعناتهم العصبية القدمية، و ما يهيج فيهم الحماسة التقليدية. ان النظر الي النبي (ص) كان دينيا محضا علي انه و ان مارس السلطة الزمنية فقد كانت الصبغة الدينية تغمرها حتي لتخفي بوادي الحكم و السيطرة؛ و يكفي أن نعرف أن الاعتقاد حينئذ بأن اسلاس القياد في يد النبي (ص) قربة دينية و ذخيرة اخروية، و ليس كذلك الخليفة بعده مهما كانت مزاياه. و نحن اذا درسنا كلمة خليفة التي تفيد معني النيابة في الحكم دون الاستقلالية فيه، نشعر بأن الهيئة الحاكمة انما اختارتها لقبا ليلينوا من شكيمة اولئك النافرين، حين لا يكون من معناها شي ء سوي الاشراف علي الحكم بالوكالة، و في هذا اللفظ لباقة تسهل وقعه.

و هذا التحليل يظهرنا علي أن السلطة لو أسندت، من أول الأمر، الي شخص من أسرة النبي (ص) لكانت أكثر انسجاما مع الروح العربية الساذجة اليعيدة عن مذهب الحكم، من حيث انها تمنحه جزءا من نظرها الروحي الذي كانت تنظر به وحده الي النبي (ص). و يحسن أن نعني بفهم وجهة هذا النظر لانه يجلي لنا السر في اندفاع قبائل الجنوب الي الخروج، كما انه يعرفنا أن الاساس الذي قامت عليه الحكومة لم يكن ثابتا الي حد كبير.

نحن نعرف أن الاعتقاد في حكومة النبي (ص) قائم علي انها آلهية محض،


و ان ممارسته لها ضرب من رسالته التشريعية، فلا عجب اذا مالت القبائل الي الرضي و الاستسلام، و لم تحارب السلطة المطلقة في شخص النبي (ص). و موت النبي وضع حدا لهذا الاعتقاد في الاشخاص، فلم يكن بدعا أن تنظر القبائل الي القائم بأعباء الحكم، من بعده، بالنظر الآخر الذي يحيي فيهم النزعات الكامنة و يوقظ لديهم الحماسة القبلية القديمة، بقطع النظر عن الصلاحيات و المزايا التي يتمتع بها المرشح، هذه الصلاحيات التي كانت بعيدة عن فهم أولئك العرب الفطريين.

و مما يشهد لهذا ان بعض الصحابة، حينما توفي النبي (ص)، اعتقدوا أن كل شي ء قد انتهي، و مالوا الي العزلة ممارسين واجباتهم الدينية بينهم و بين أنفسهم، مما دعا ابابكر الي تذكيرهم بأخبار النبي (ص) المتعلقة بغلبة كسري و قيصر. و هذا يظهرنا علي أن العرب حينئذاك لم تكن لهم فكرة عن الحكومة الزمنية البتة، و لا رغبة خاصة بعيدة عن الدين في المحافظة علي الدولة العربية الفتية.

فأول ما يتبادر اذا الي ذهن الاعراب، اذا رأوا رجلا من عامة العرب يتبوأ كرسي الحكم، أن الامر تم له بالغلبة فقط؛ و النتيجة المنطقية لهذا انهم ماداموا ذوي سلطة تخول لهم الغلبة في حومة الصراع، فهم أحق و أجدر بالأمر. و ثبت صدق هذا النظر، عندهم، الخلاف علي التشريح الذي نمي اليهم من أخباره؛ و لا شك قد كان فيهم من يرثي لمصير علي (ع) و هو الذي عرفوه عن قرب و أحبوا فيه شخصيته الممتازة؛ و نحن نعرف أيضا أن اعتقاد الفطريين ينصرف الي الوراثة الدينية، و أسرة النبي (ص) عريقة بهذا النوع من التخصص و الامتياز الروحي، فلم يكن بعيدا أن يطمئن العرب الناؤون الي ممارسة هذه الاسرة الحكم، في ظل الدين، بالخلافة و النيابة؛ و الذي يدلنا علي صدق هذا التقدير، احتجاج عمر (ض) الذي اصطنع فيه منطقا صور فيه النفسية العربية من هذه الناحية خير تصوير، فقد أشار لنا في كلمة له يومذاك الي أن العربي شديد النفور من السلطة الا عن نبعة الدين. و من الخير أن نذكرها علي طولها لما لها من القيمة الجوهرية في بحث هذا الموضوع؛ [5] قال:


«و الله لا ترضي العرب أن يؤمروكم و نبيها من غيركم، و لكن العرب لا تمتنع أن تولي امرها من كانت النبوة فيهم و ولي امرها منهم، و لنا بذلك علي من أبي من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد و امارته و نحن اولياؤه و عشيرته، الا مدل بباطل او متجانف لاثم او متورط في هلكة».

تأمل قوله: و لكن العرب لا تمتنع أن تولي امرها من كانت النبوة فيهم، الذي هو بيان تصويري يكشف بجلاء عن خوافي النفسية العربية من هذه الناحية. و نحن الآن نستطيع أن نستفيد من منطق عمر (ض) الذي استعمله ضد خصومه السياسيين في اكتساب قضية الترشيح، من حيث هو شاهد علي ما ندعي من أن النفس العربية تنبو عن كل سلطة علي اية شاكلة، الا اذا جاءت من جانب الدين فتلين شكيمتها؛ و عمر بعد ذلك يتوسل بأنهم عشيرة النبي (ص) فهم أخلق بتمثيله، و من هذا ننتزع الدليل علي أن السلطة لو و كلت الي اسرة النبي (ص)، من أول الامر، لما شجر هذا الخلاف، و لما ظهرت حركة الارتداد، في أغلب الظن. و هذا لا يعني ان الأمر سيفضي في النهاية الي الحكم علي نظام الاسرة، بل يعني أن شكله كذلك أكثر انسجاما مع الروح السائدة اذ ذاك؛ و بالتكتل التاريخي و قرب الامة شيئا بعد شي ء من فهم مذاهب الحكم تتغير نظرتها.

و اذكر الآن كتعليق علي حركة الارتداد، بأن الشدة التي أخذهم بها ابوبكر (ض) و تسديده الضربة القوية اليهم كانت لخير الدولة، لأن أولي النتائج التي ترتبت علي حركته الموفقة هي ايجاد الوحدتين السياسية و العسكرية بشكلهما الحقيقي. و نحن لا ننكر بأن النبي (ص) وحد الجزيرة و وضع الأسس لمن يعمل بعده، الا أن ظهور الوحدة العسكرية التامة كان علي يدي ابي بكر، و اليه يرجع الفضل فيها من أقرب طريق، سواء كانت هذه الوحدة العسكرية هدفه ام لا.

3- اقتناع قريش بعدم العصيان أو بتعبير ذلك العصر بعدم الارتداد: يحدثنا التاريخ بأن قريشا حاولت، ككثير من العرب، أن تخرج و تعلن العصيان، و لكنها عادت فركدت. و في هذا الركود السريع ما يدعو الي الدهشة، و يحمل


الدارس علي انعام النظر لفهم السر الصحيح. و أعتقد بأن المورخين عموما لم يكتنهوا الأسباب الحقيقة لرضي قريش بالتعاون مع حكومة المدينة بالخضوع لها.

و تعليله عندي بأن التنازع علي الخلافة يوم السقيفة كان في ظاهره بين حزبين: كتلة المهاجرين و كتلة الأنصار، و في حقيقته بين مكة و المدينة. و كان الظن القريب ان المدينة ستفوز في الخلاف المنتظر؛ و لو تم الأمر بغلبة الأنصار لما أخلدت قريش الي السكينة البتة، و لكن انحراف الفوز الي جانب المهاجرين - اي فوز مكة في الصراع الانتخابي - سهل علي قريش الخضوع و الاستسلام. و معني فوز مكة، في الحقيقة البعيدة، فوز اكبر أسرها المدنية؛ فلم يفز بنوتيم بفوز ابي بكر بل فاز الامويون وحدهم، و لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، و آثروا في سياستها و هم بعيدون عن الحكم، كما يحدثنا المقريزي في رسالته (النزاع و التخاصم).

و من تاريخ هذا الفوز الانتخابي بدأت سعاية بني امية لتهيئة الأسباب الي الانقلاب الذي سيفضي في نهايته الي استحواذهم علي السلطة. و أي ناظر في حركات ابي سفيان لا يشك بأنه بدأ يعمل بهمة لا تعرف الكلل لتعبيد الامور علي ما يريد، فقد رأينا كيف يفكر باستعجال الامور من وراء شخص علي و العباس، و كيف يستعد و يعلنهما باستعداده، لاحداث الانقلاب، مستغلا العناصر غير الراضية عن نتائج الانتخاب.

و بالنظر الي هذا التحليل لركود قريش بعد التهيؤ للثورة، نلمس عمل العصبية الكبير في هذا الحادث، و نضع أيدينا علي السر الصحيح في محيط القبليات. و ان من الغرارة الركون الي تصوير المورخين الساذج لهذا الحادث بأنه نتيجة تعنيف الضمير الديني، و هو لم يبلغ بعد. ان الواجب التاريخي يقضي علينا بأن نفهم كل حادث في محيط القبلية علي ضوئها لأنها بآثارها أقوي من كل عامل آخر، كالدين مثلا الذي لم يختمر بعد في نفوس العرب اختمار القبلية و نحن حينما ندير البحث، في هذه الفترة من التاريخ، علي قاعدة الدين قبل كل شي ء، نغالط انفسنا في حقائق الطبيعة البشرية و أوليات علم النفس، كما أن الميزان التاريخي الذي قررناه في


التصدير يقضي بأن يكون أثر الدين البدي ء و المثل الجديدة، في هذه النفوس، جزئيا و عاملا الي حد ما.

4- التعيينات الحكومية: أبدي المقريزي دهشته المصحوبة بتساؤل حائر من حرمان بني هاشم من التعيين في الولايات، بينما كانت مغمورة بالعنصر الاموي، ففي كل جهة وال من أمية؛ و المقريزي لا يخفي دهشة الشديد من هذا الاجراء، لأنه لا يمكن تبريره بأنه لم يكن بين الهاشميين رجل واحد كفي بأعباء الولاية و تبعات الامارة؛ و هذا اذا أمكن في الفرض فانه يستحيل في الواقع. و نحن بهذا لا نريد أن ننتهي الي أن هذه السياسة الادارية كانت مقصودة، من الخليفة القائم، تحزبا و عصبية؛ و انما دللنا عليها لنشهد من خلال هذه السياسة مقدار نفوذ الاصبع الاموي في تسيير دفة الامور. و قد ساعدهم علي اكتساب ثقة الخلفاء انهم الاسرة السياسية - اذا صح هذا التعبير - العريقة، فالخلفاء لذلك يقدرون مواهبهم المدنية الموروثة. و من ثم نصل الي النتيجة الخطيرة التي نسعي الي تقريرها و ايضاحها، و هي:

أن اكثرية الامراء و الولاة كانوا من بني امية في أزمان أبي بكر و عمر و عثمان. و اذا علمنا أن اثارة العصبيات المكبوتة كانت جزءا من سياسة الحزب الأموي ذي المطامع الكبيرة، استطعنا أن نقطع بأن هؤلاء الولاة كانوا، و هم يمارسون امارتهم في زمن ابي بكر و عمر، لا يفتأون يحيون كوامن النزعات و يرببونها ليلهبوا المجتمع الاسلامي الزاخر بما فيه من شؤون.

و هذا تقدير سوف يستبعده جل الدارسين، و لكنه حقيقة تناصرها الشواهد الكثيرة، و تعلل الاضطراب السريع.

5- التعبئة القبلية: و نعني بهذا تنظيم الجيش تنظيما بحسب القبائل، فكل قبيلة كانت تشكل فرقة من الجيش، و قائدها هو الزعيم القبلي نفسه. و هذا و ان كان يولد منافسة محمودة من حيث الاستبسال في الفتح، الا أن اضراره في النتيجة تفوق كل تلك المزايا؛ و لقد سمعنا في احتجاج أولئك الزعماء نغمة أنهم مغبونون و أن ما


نالهم من فوائد الحرب أقل بكثير من تضحياتهم، مما يؤيد وجهة نظرنا في أن هذا المنطق استولي عليهم و ظهر بعد حين بخطره العنيف.

6- السياسة المالية: لاريب في أن النظام المالي لم يكن بعيدا عن التأثر بهذه النزعة القبلية، و بالأخص في خلافة عثمان حيث ظهرت فيه بكل جلاء. و سيأتي لنا بحث النظام المالي حينما نتناول بالدرس النظام العام، و ستري هناك أي أثر كبير تركته السياسة المالية التي قامت علي أساس قلق، من شأنه أن يثير الاضطراب في كل مناسبة كبيرة أو صغيرة. و ان مما يعكس لنا صورة من قبلية هذا النظام ترتيب الدواوين علي القبائل و تنسيق القيد في السجلات علي سنتها.

فقد ظهرت القبلية اذا في مناسبات شتي و ظروف كثيرة بل و في كل ظرف منذ وفاة النبي (ص)، و هذه المناسبات ايقظت العصبية الكامنة حتي انطلقت في النهاية من عقالها و شكلت الثورة العنيفة. و كان الواجب النظامي يقضي علي هؤلاء الخلفاء باتباع السياسة النبوية في القضاء علي العصبية النكيرة التي كانت تقوم علي أساسين مهمين:

(1)تأنيس النفوس الآبدة بتطريات العقيدة، و صقل الضمائر الخشنة حتي تعود انسانية نبيلة تؤلف بينها مثل واحدة تقوم عليها و تصدر عنها. و هو ما عنيناه ببث التربية الدينية التي كانت لازمة لذلك المجتمع لزوم التربية الوطنية في نظام القوميات الحديث. و لا شك بأن دفع العرب الفطريين الي الفتح و الجهاد، ثني نفوسهم و جوانحهم علي تقاليدهم القديمة و عاداتهم السحيقة مرداة برداء الدين، فكانت تربيتهم الدينية شكلية محضا.

و قد ذكرت في كتاب (سمو المعني في سمو الذات) طائفة من الاخبار، تشهد بأن الاعراب خصوصا لم يتضلعوا من الدين. و قد كبر علي كثيرين القول بأن الخلفاء لم يعنوا بهذا اللون من التربية، فتساءلوا عن الاشخاص الذين أوصلوا الدين الي الجهات المختلفة، و أعطوا تلك المجموعة الاسلامية الكبري. و نحن لم ننكر أن الخلفاء عنوا بالفتح، و هو يستتبعه دائما دخول أقوام لاعداد لهم في دين


الغالبين، و لكن دخولهم، علي هذا الشكل، لا يعني أكثر من انهم مسلمون بالكم فقط، و هذا ما لم نعن به، و انما انصرفنا الي درس اسلامية هؤلاء و أولئك من حيث آثارها في الضمير. و النبي (ص) انبهنا الي أن المدار علي الضمير الديني وحده الذي يجب تخصيبه و مده بنمير التعاليم الصالحة لا روائه بقوله عليه السلام «رجعنا من الجهاد الاصغر الي الجهاد الاكبر» و بهذا أجلي النبي (ص) عن خطته الرشيدة في الفتح و التهذيب. و لا ينكر ان سياسة الخلفاء كانت سياسة فتح فقط، و عليه فقط تركت أهم الجانبين من السياسة النبوية.

(2)تحضير العرب بتمصيرهم و تخطيط الاراضي ليقوموا عليها بالزراعة، فالنبي (ص) كان جهده منصرفا الي:

(أ) ترغيب العرب في سكني الامصار، و لذلك حض الاعراب علي الهجرة الي المدينة لتبدل من نفسياتهم النابية.

(ب) ترغيبهم في الزراعة، فقد قال عليه الصلاة و السلام «خير المال سكة مأبورة، و شاة مومورة»، و في هذا الحديث حض للعرب علي أن يكونوا زراعا مستقرين؛ و هو يكشف عن مقدار شغف النبي بالعمران.

و نحن اذا درسنا السياسة التي أدي اليها اجتهاد الخليفة الصالح عمر بن الخطاب، نراها سياسة حربية خالصة حتي [6] منع ادخار الاموال و حرم علي المسلمين اقتناء الضياع و تعاطي الزراعة، و بذلك أوقفهم علي الجندية؛ و هذا دليل علي أن نفس عمر الكبيرة لم تكن تفكر الا بالتوسع، فهو لم يعد الشعب للاستقرار، و انما اجتهد باعداده للحرب بسبيل نشر المبدأ الاسلامي الجديد في أكبر رقعة من الارض. و هذه الخطة و ان تكن أفادت العرب دولة واسعة الأرجاء، الا أنها غير متماسكة أيضا. و سرعان ما انبعثت فيها العصبية القبلية و العصبية الشعوبية، و عانت الدولة أشد العناء في رتق الفتوق التي أوقفت كل نشاط مثمر.


و لعل اكبر دليل علي عدم نضج التعاليم الاسلامية في نفوس العرب أنهم سموا بعنصرهم فوق العناصر، حتي لكأنهم ارستقراطية علي الناس كافة. و الاسلام لا يعرف ارستقراطية الجماعة الجنس، بل جانس بين الشعوب حين خلقهم من ذكر و انثي و جعلهم شعوبا و قبائل ليتعارفوا علي مثل خاصة و مبادي ء فضلي و تعاليم قويمة، لا تفاضل فيما دون اتباعها.

و من هذا يظهر ان عصبية العربي كانت تعمل ضد أخيه [7] العربي، و ضد اخيه المسلم من سائر الشعوب، مما استتبعه اعتزاز الشعوبي [8] بقبيله و ماضيه أيضا؛ و في معترك هذه العصبيات القبلية و الشعوبية انحل الرباط الاسلامي الصميم.



پاورقي

[1] و شاهد هذا ان التنافس علي القربات الدينية دخله شي‏ء کبير من العصبية اي انها تأثرت بالمزاج العقلي القديم؛ ذکر ابن‏جرير الطبري في ج 3 ص 7 (ان هذين الحيين من الانصار: الاوس و الخزرج کانا يتصاولان مع رسول الله (ص) تصاول الفحلين لا تصنع الاوس شيئا فيه غناء عن رسول الله الا قالت الخزرج و الله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله في الاسلام، فلا ينتهون حتي يوقعوا مثلها الخ) و هذا خبر يرينا مقدار تأثير المزاج العقلي الذي لم تضعف شکيمته بعد رغم ما يأخذهم النبي (ص) به من تهذيب؛ فالقبلية بلا شک کانت لدي العرب مسيرا اعظم.

[2] يذهب العلامة جويدي المستشرق الايطالي الي ان الأولي، في التقسيم، الاعتماد علي النسبة الجغرافية لان في الشمال قحطانيين و في الجنوب عدنانيين.

[3] و من هذا يظهر ما في تقريره بعض المورخين، من ان هذا اللفظ اطلقه عليهم خصومهم للتهييج، من مجازفة و عدم تحقيق.

[4] کانت القبيلة تعرف نظام الطبقات فکانت عندهم(1)طبقة الاحرار اي العرب الخلص الذين لم يجر عليهم رق(2)طبقة العبيد و هم اساري الحرب او الذين يشرون بالمال(3)طبقة الموالي و هي طبقة وسطي بين الحر و العبد؛ و انواع الولاء کثيرة منها: مولي الموالاة و مولي النسب و مولي العتاقة. و کان لهذا النظام نتائج هامة؛ فالعبد معدوم الحقوق جملة، و الحر يتمتع بالحقوق العامة کاملة و هي التي تسمي. الآن مدنية، و المولي وسط بين التمتع بالحقوق کاملة و الحرمان منها جملة، فليس من حق المولي ان ينتسب الي القبيلة الا مسبوقا بکلمة حليف، و له ان يرث من حليفة بخلاف العبد.

[5] راجع تاريخ الطبري ج 3، ص 209.

[6] راجع المقريزي ج 2، ص 259.

[7] ذکر العلامة دوزي في کتابه تاريخ الاسلام في اسبانيا (ان بغض قيس لليمن، و بغض اليمن لقيس، کان اشد من بغض العرب للاعاجم) و ارجع الي سلسلة الحروب القيسية و اليمنية في الاندلس تجد مقدار ما عملت العصبية في حل عقدة الربط الدولي للعرب.

[8] اراد الشعوبي ان يندمج في الدولة الجديدة فلم يجد امة، و انما و جد قبائل معتزة بانسابها متعصبة لها، فاضطر ان يعتز بنفسه و قبيله و قديمه.