بازگشت

نظرية جديدة في تعليل التوسع (expansion)


و منها - غلبة مذهب متطرف و تطبيقه بالعنف - كما لو قدر للبلشفية ان تسيطر علي النصف الثاني من هذا الجيل، فانها تمر به مرا سريعا. فمن اكبر واجبات المؤرخ اذن، أن يتحقق من علاقة التاريخ بالافكار العامة المسيطرة علي الجماهير، فان انتصار مدرسة بتعاليمها توجه قضية التاريخ توجيها خاصا يدفع بها الي الامام او يردها الي الوراء.


و انما نري تشخيص مثل هذه العلاقة واجبا علي المؤرخ، لان التاريخ في اكبر بواعثه وليد فكرة [1] الفيلسوف حين تصير جزءا من تفكير الجماعة او الطاغية او هما جميعا.

و في حالة ما اذا اتحدت هاتان الفكرة، يتغير وجه التاريخ و يتشكل الانقلاب. خذ مثلا الاجتياح [2] اليوناني في عهد الاسكندر، و الاجتياح الفرنسي في عهد نابوليون؛ فالجماعة ذات الفكرة الفلسفية، اذا سيطر عليها طاغية او فاتح غير محدود الاطماع، تحدث دائما انقلابا في التاريخ.

و الاجتياح العربي [3] شكل من هذا الاتحاد بين فكرتين: فكرة الاسلام الفلسفية، و فكرة الفاتح غير المحدود الاطماع كعمر [4] بن الخطاب مثلا.


فنابوليون لو ظهر في غير ذلك العهد من تاريخ فرنسا الذي قام علي فكرة فلسفية من العقل الجديد، لكان قصاراه ان يجي ء قائدا مثل (هنيبال) القرطاجني. و الملاحظ في هذه الانقلابات انها لا تتم الا علي ايدي الجماعة الذين تتذبذب في رؤوسهم الفكرة الفلسفية في نوع من الامتحان العقلي بحكم الجدة، و ليس علي ايدي الذين يستسلمون لفكرة فلسفية في نوع من الايمان الوجداني العميق بحكم الوراثة و التلبد، لما يفقدونه من الحماسة و الثورة للمبدأ. فسبيل احداث الانقلابات التاريخية أن نفتن الناس بفكرة مغرية و معقدة ايضا. و التعقيد ضروري لانه يحمل الجماعة علي التفكير الطويل في نوع من التساؤل المستمر، و اما الفكرة البسيطة فانها تحدث من اول الامر نوعا من الاستسلام او الهمود العقلي.

و النظرية الحديثة في التاريخ تعلل الانتشار (expansion) بيقظة القوميات؛ و بهذا فسروا توسع اليونان و الرومان و العرب. و هو في نظري تعليل سطحي مغرق في السطحية، و ان كنت لا أنكر بأن يقظة القوميات باعث من بواعث التنافر الاجتماعي، و لكنه لا يبلغ بالتنافر حد الغاية الذي يشكل الاجتياح؛ ان سر الاجتياح مستكن في هذا التفاعل او الاتحاد العقلي بين فكرتين.

و منها - سيطرة العلم و الاكتشافات [5] في جيل ما - فسيطرته مثلا علي الاجتماع و الصناعة و الحرب يجعل التطور سريعا سرعة هائلة.

و منها - التغييرات الجغرافية - سواء كانت نتيجة لعوامل طبيعية او انشائية او تصادفية، كالأسر النهري و قنال السويس و المسالك [6] الجديدة التي كشفتها فتوح جنكيز خان. فان الثاني غير علاقات الشرق بالغرب من الوجهتين السياسية و الحربية، و لا يزال باعثا هاما من بواعث التاريخ الحديث.

و منها - اهلية شعب اكثر من سواه للتغير - و يعنون بهذا استعداد الشعب و قابليته لاحراز صفتين متضادتين هما الثبات و التغير في موازنة دقيقة. و بذلك


يخضع نفسه لقوانين ثابتة و يحصل تدريجا علي صفات جديدة، اذ تكون حركته اشبه بالموجة التي تحدثها الحصاة في الماء، فهي تفضي الي حركات متعاقبة اوسع منها و لكن في غير خروج علي النقطة الاولي المركزية.

و سيظهر لك فيما بعد ان الطبيعة العربية تميل الي المحافظة او الثبات، فهي غير مرنة في خصائصها الادبية. و هذا ما جعلها تتفاعل بخصائصها الثابتة مع خصائص الامم الاخري تفاعل تناحر و ليس تفاعل اتحاد. و هذا ايضا يفسر لنا السبب في تأثر اليهود بالطباع العربية و خصائص العرب الادبية، حين حلوا عليهم قبل الاسلام، دون ان يؤثروا فيهم الا بمقدار، كما يفسر سر ابتلاع العرب لخصائص اي قبيل نزلوا عليه بعد الاسلام و فرض خصائصهم وحدها، و لذلك اعتقد بان العرب لو هضموا تعاليم الاسلام، قبل محاولة التوسع، لبدل جمودهم بمرونة غير قليلة؛ فما لاحظه ابن خلدون علي العرب في مذاهب الحكم و الدولة آت من هذا الجانب. و الذي ينقض أن يكون هذا طبيعة فيهم تتصل بالعنصرية، استعداد العرب اليوم للانطباع بشي ء الاشكال و مرونتهم الظاهرة. و شاهد آخر وقع في تاريخ العرب يوضح ما نقرر، فقد شهدنا حكومة قريش المرنة في عهد الدولة الاموية بحكم رقيها القديم، و شهدنا حكومة القبائل في الاندلس التي قدمت ملوك الطوائف؛ فان الاولي استطاعت ان تقدم لنا نموذجا صالحا من وجهة علم السياسة لكلمة دولة، بينما الشكل الذي قدمته الاخري اقرب الي اللون الاقطاعي. و في نظري ان الثورة في عهد عثمان شكل من اشكال التناحر بين الخصائص العربية الثابتة و الخصائص الاخري المرنة، و قد انتهت بغلبة الثانية غلبة غير حاسمة.

و هذه الدواعي، لكل منها تأثير في تصحيح حساب النسبة و تعديل الميزان التاريخي علي الوجود المقصود، و الميزان التاريخي بحكم مقدماته الثابتة و هي:

(1)خضوع [7] الارتقاء العام للتطور العضوي و الغريزي.


(2)احتفاظ التطور مطلقا بنسبة ضرورة امتناع الطفرة.

(3)مشابهة حياة الكائن الاجتماعي لحياة الفرد علي ما اثبته العلامة هربرت سبنسر، و هذا يظهر شدة اتصال ما بين الفرد و الجماعة، و خضوعهما لقوانين واحدة.

نجد انفسنا مطمئنين اليه نظريا، و اما هو من الوجهة العملية فيحتاج الي تقص و استقراء و فرض للنسب العددية علي شكل رياضي صحيح في كل الشعب العضوية و ما يتصل بها.

و الشي ء الذي لا اري البحث، في اضيق حدوده، يتم بدونه هو بحث مفهومي كلمتي فوضي [8] و ثورة و اثرهما في التاريخ. و هما عندي: الارتياب في المثل الاعلي في شكل ما يكون عملا عنيفا، و الفرق بينهما ان الثورة تتجه وراء هدف معين و فكرة خاصة بينما الفوضي لا تتمثل فكرة معينة أي ارتياب فقط.

و كلما كانت الامة اكثر ارتيابا في المثل كانت أحيي و اغرز انتاجا. و هذا تفسير ندخل به علي كل شعب المعرفة ايضا، فنظرية كوبرنيك في النظام الشمسي ارتياب في المثل الفلكي، و نظرية ديكارت ارتياب في المثل المنهجي، و نظرية سبينوزا ارتياب في المثل الالهي، و نظرية الرومانتيك ارتياب في المثل الكلاسيكي، و كذلك نظريات داروين و كانت و ماركس؛ و هذه ثورات علمية و ادبية لأنها تداور فكرة بعينها؛ و ان افكار ابي العلاء ارتياب في المثل الدينية و الاوضاع، و افكار نيتشه ارتياب في النظام العام، و نظرية اللاأدرية ارتياب في عناصر الفكر المنطقي، و هذه فوضي في الفكر لانها لا تتمثل هدفا معينا.

و من وجه آخر الثورة حركة النهضة العنيفة، فهي لعنفها من ناحية و لانها تفاعل تصاعدي الي الاعلي من ناحية اخري تحدث اصداء مختلطة نعبر عنها


من الجهة الوصفية بالفوضي، و الا فهذه الحركة في صميمها هجرة من ادني الي اعلي. فالثورة الاجتماعية هجرة الي وضع اسمي و اكثر تباتا و صلاحية في الاجتماع، و هي كلمة لا تعطي معني تحقيقيا و انما تعبر عن حالة وصفية خالصة تلابس الظواهر المتعاكسة للنهضة، و تحمل صورة من ظلالها و الوانها المختلطة اختلاطا تذاؤبيا [9] . و هذا يظهر بوضوح خطأ الظن السائد بان الثورة نتيجة فساد النظم فقط، و الواقع انها نتيجة سمو الكائن عن نظمه في دائرة الفكر و الحياة العامة، فهو لذلك يطلب مجتمعا يتناسب مع عرفه الراهن.

نجد، بعد هذا التفسير الذي قدمنا به، ان الثورة رجة عنيفة تمس الافئدة و العقول، فتبعث فيها تيارات جديدة تختلف قوة و ضعفا، و لا تخلو ملابساتها عن تغيير في ارتكاز الآفاق العامة للاوضاع او تعديل في السنن المفروضة. و لا شك في ان عملية البعث التي تستنها الثورة، ثم ما توالي به من شتي الالوان و التشكلات تعد [10] الانسان في خاصياته النفسية و في حالات اجتماعه لشي ء جديد.

و عليه فالفوضي - و كذلك الثورة - ليست مظهرا تشاؤميا، بل هي قوة، في حقل التاريخ، و حياة و الحاح في طلب اكمل الاوضاع.

هذا تفسير للفوضي و الثورة، و ان يكن غريبا الا أنه حقيقي، قصدت به أن أصحح ما قد يقع به المؤرخون من تسارع الي الحكم بالانحراف علي أية بيئة علقت فيها الفوضي. و ستري ان الثورة الفوضوية التي وقعت في عهد عثمان و تواصل مدها الي عهد معاوية، كانت الخير الحكومة العربية حين بنتها بناء اقوي في الادارة و السياسة، و أوجدت معارضة متطرفة فعالة انتظمت في الخوارج و الشيعة،و معارضة معتدلة انتظمت في رجال الاصلاح امثال سعيد بن جبير و ابن ابي ليلي.


و التاريخ في غير توسعة آخذ بتحقيق الصفة العلمية له و عما قريب ايضا، و ان كان لا يزال في الاعتبار المدرسي فرعا من الآداب.

و الآن نلخص المراحل الهامة التي يجب ان يقطعها المؤرخ حتي يستقيم له تقديم دراسة معتبرة اعتبارا ما. و مراحل [11] البحث التاريخي الكامل اربع:

الاولي مرحلة التجميع: و هي تعني جمع اكثر ما يمكن من الوثائق و المصادر الاخري، كشكل العدد و الحصون و طريقة قطع الاحجار في البناء و الصور و النقوش؛ و لم تزل الوثائق هي المصدر الهام للمؤرخ حتي قال شارل سنيوبوس (لا تاريخ بغير وثائق).

الثانية مرحلة النقد: و هي تعني فحص عبارات الوثائق و تدقيق الاصول الاخري و مناقشة استعمال الالفاظ من حيث دلالتها الزمنية التي هي دائبة التغير؛ فالكلمة الواحدة تستعمل في جيل بمعني يخالف معناها في الجيل الآخر، و هذا يتاج الي معاناة كبري و جهد متشعب الاطراف. و دائما تكون اقدم الوثائق اجدر بالاعتماد، و هي تبعت علي الشك في الزيادات التي تحتفظ بها الوثائق المتأخرة و لكن لا تنفيها، لاحتمال ان يكون كاتب الوثيقة المتأخرة قد وقف علي وثيقة تعاصر الاولي و قد انعدمت. و من هذا يظهر كبر الخطأ الذي يقع فيه بعض [12] المؤرخين، باعتمادها اعتمادا كليا و نفي الزيادات نفيا باتا، متذرعا بأوهن الوسائل الاخري.

و يدخل في نقد الوثائق تصنيف الكتب من حيث اعتمادها و ردها، كالذي حاوله ابن خلدون في المقدمة حين ارسل تعميمات في كتب المسعودي و الواقدي و من اليهما، و لكنه لم يوف التصنيف حقه؛ و نري ضرورة هذا التصنيف من


حيث يجرنا الاعتماد علي كل ما فيها الي مغالط كبيرة، كما ان بعض التعميمات، من جانب ابن خلدون، جاءت في غير محلها، كاطلاق الطعن في نقول السمعودي لأنه اشتم منه رائحة الميل الي الهاشميين؛ و هو الذي يجد فيه المستشرقون مؤرخا فذا اجتمعت فيه كل صفات المؤرخ الحق و مزاياه.

و شي ء آخر يدخل في نقد الوثائق و هو محاولة التوفيق بين نصوصها ما امكن، قبل اللجوء الي الموازنة بينها موازنة تنتهي بطرح بعض و اعتماد بعض.

الثالثة مرحلة التأويل: و هي اشق المراحل لأنها تقتضي تطبيقا واسعا للميزان التاريخي، و نفوذا في خفايا الماضي البعيد، و هي لا تستقيم الا للعبقريين من اعلام التاريخ.

الرابعة مرحلة صياغة القصة التاريخية: و هي ذات اهمية كبري لانها الوسيلة الي ابراز قضية التاريخ ابرازا قويا، يخيل الينا معه انه تقرير للواقع في شي ء من المشاهدة و القرب.

هذه لمحقة قصيرة اردنا بها تقييد فكرة و نفي وهم؛ و هي مع ذلك تتصل اتصالا وثيقا بموضوع هذا الكتاب الذي يعرض لدرس تاريخ الحسين (ع) بما اشتمل عليه من علل و اسباب، و بما احتفل به من مؤثرات و بواعث. و اذا كان حريا بالمؤرخ أن يعرض نتائجه، فبالأحري ان يعرض الطريقة الخاصة التي تأتي بها الي اصطناع هذه النتائج.

و هذا الكتاب ليس ترجمة حياة، بل هو تاريخ حياة، و الغالب في الاولي ان تكون شخصية اي مقصورة علي الشخص و ما يتصل به من قرب، وقلما تجاوز خطوط حياته الا بمقدار، بينما الثانية تتسع لكل ما تتسع له كلمة «التاريخ».

و ستجد في هذا الكتاب ايضا نوعا من الاسهاب في المقدمات التي توخيناها، لانها في نظرنا بسائط للكل التاريخي يجب تدقيقها و بحثها بأناة.


و شي ء آخر يحملنا علي بحث شتي العوامل التي مست عصر الخلفاء الراشدين و اثرت فيه، و هو ان عصر الخلفاء يقع في جزء من حياة الحسين التي كانت صلة بين ثلاثة عهود: عهد النبي (ص)، و عهد الخلفاء، و عهد الدولة الاموية. و كانت ميزة الاول أنه عهد التشريع و سن اللوائح، و ميزة الثاني انه عهد الاجراء و التطبيق، و ميزة الثالث انه عهد الابتعاد بالاشكال الاجرائية ابتعادا جاء في بعض الاحيان كليا و كثيرا ما مس جوهر التشريع.

فتاريخ الحسين من هذه الناحية، يضطرنا الي كثير من التجاوز في كثير من الاسهاب. و بذلك ايضا كان الحسين (ع) اخلق شخصية لدرس ذلك الجيل، من حيث انه وحدة [13] تاريخية كاملة له، فقد كانت حياته حافلة بقضايا التاريخ، و كانت حياته بعد الموت عاملا من عوامل التاريخ الاسلامي العام. و هؤلاء الاشخاص الذين هم وحدات تاريخية، في مثل التعاريف، كل ما يقع بعدها شرح و تفسير، اجدر ما يكونون بالدرس لان جيلهم، بما فيه، شرح لمذاهب حياتهم الغامضة.

و انا بعد ذلك ماض في تقرير نتائجي بدون ما نظر الي كبير مخالفتها للعرف التاريخي الشائع، فرب غير معروف صار لا يعرف سواه.

و علي ان فئة من الناس قد تعرض عن هذه النتائج اعراضا كبيرا او قليلا، و تنتكر لها تنكرا ربما كان وبيلا، فاني احسن الظن بهم و امضي علي طيتي التي أراني اخدم بها قضية تاريخنا الاسلامي. فان من البر بهذا التاريخ في حقل الدرس ان لا ننتصر كبير انتصار لرغائبنا الخالصة منه، و انما علينا ان نتجرد الي اظهاره بما يتناسب مع الخطة الموضوعية التي هي وحدها الرغبة الحقيقة اللدارسين.

و ماذا يفيد، لو اننا تناولنا تاريخنا تناولا ذاتيا محضا، سوي الاتهام و اساءة الظن


في اننا نؤرخ ما وقع الي ما نشتهي ان يكون واقعا. و هذه مغالطة مزدوجة، علي التاريخ مرة، و علي انفسنا مرة اخري. فقد انتصرنا منذ زمن مضي ضد نظرية (الطوتم) و الامومة عند العرب، و كان ما كان من ثورة قلمية كبيرة، و لكنها لم تعبر عن شي ء، و لم تدخل اي تغيير في وجهة نظر التاريخي العلمي، و لا يزال العلماء ينظرون الي تاريخ العرب بالنظر الطوتمي الذي ثبت عندهم كمرحلة لابد من قطعها في سبيل النظام الأسري القائم علي الأبوة، فاستثناء العرب مناقضة لاولية اجتماعية ليس ميزة ان لا نقطعها كأننا أنفياء اجتماعيون و شواذ بشريون، و انما الميزة ان نخضع ككل صنوف الكائن الحي لنواميس الارتقاء العامة.

هذا مثل أرت به أن أبين أن الثورة التي تأخذنا في مدافعة نظرية نتشهي غيرها، لا تقلل من قيمتها، بل هي ماضية في سبيلها لتأخذ مكانها اللائق حتي من ادمغة الثائرين. و هذا هو سحر العلم او سحر الحقيقة الذي عبر عنه القرآن بقوله:

«ان الباطل كان زهوقا»

و اي لفظ ابلغ في افادة هذا المعني من لفظ القرآن «زهوق» [14] الذي هو صورة كثيرة الدقة كثيرة الاتقان، حين رسمت لنا ان من طبيعة الباطل لفظ انفاسه في تدارك و بهر، و ان من تمام وجوده ان لا يتنفس بكل رئتيه، مثل السقط الذي مرت به الحياة من بعيد فحركته بما تدفعه عنها، لا بما ثبت فيه منها. فهو مولود كامل التكوين فيما يشكل ظاهره، غير انه تزوير علي الطبيعة يغري الحياة به و لكنه لا يخدعها. و ليس يوجد لفظ وراء لفظ القرآن او في بكل هذا المعني في ايجاز و اقتضاب.


و من الخير ان نصطنع هذا النهج، لان تاريخ الخلفاء او تاريخ المسلمين في هذه الفترة غامض اشد الغموض. فقد كان هدوءا ثم عاصفة تتلو، و لابد لهذا الهدوء و هذه العاصفة من فواعل، و لابد في درس تاريخنا من تشخيصها و عرضها عرضا مبينا، لما كان لهذا العهد من تأثير في تسلسل التاريخ الاسلامي العام الذي اندفع به، و تلون بالالوان التي مزجها له ثم طبعه بها.

و في ظني ان اول من تنبه الي وجود العلاقة بين الافكار الدينية القديمة و بين النزعات المختلفة بعد ذلك، و الي وجود العلاقة بين حركة النفاق في عهد النبي (ص) و بين حركات الاضطراب في عهد الخلفاء الراشدين، ثم رمي الي استيضاح كل هذا، الفيلسوف الاسلامي الكبير عبد الكريم الشهرستاني في كتابه الملل و النحل، و قد صاغ فكرته في كثير من الاطمئنان و التثبت العلمي. و تحقيق مثل هذه العلاقات و كل ما يتصل بذلك المجتمع من شؤون الادارة و النظام هو الذي انصرفنا اليه، ليجي ء عملنا احصاء و تعليلا في مأتاة التاريخ، و بذلك نكون قد اعطينا دراسة ان لم تكن صادقة في تفصيلها و أعراضها، فلا تبعد عن الصدق في اجمالها و جوهرها.

و لا تمنعني غرابة رأي اظن انه صحيح او اعتقد صحته من ابدائه، لان الشهرة لم تعد ابدا عنوان الحقيقة. و ايضا لا يحول بيني و بين رأي انه قليل الانصار، لان الحق لم يعد ينال بالتصويت، فان الانتخاب من عمل الطبيعة و هي لا تغالط نفسها كما لا تعمد الي التزوير.

و اطرف شي ء اذكره عن ذلك الطراز من النقد الذي يقوم علي الاستنكار دون التروي، ما اجابني به احد اصدقائي الباحثين و كان نشر كتابا يدرس (عمر الخيام) قال في تصديره «اقدمه الي القراء بيد راجفة»، فقلت له يا هذا تحقق من موضوعك ثم قدمه بيد مطمئنة، فعطف علي ضاحكا و هو يقول: «لقد فصلت منه و انا اشد ما اكون ثقة بنتائجه، و لكن ما تصنع بمن يكاد ينقد او ينقد


بالفعل قبل ان يقرأ»، هذه كلمة عابثة الا انها مريرة حين يكون فيها نصيب من الواقع غير قليل.

و أنا بعد ذلك ادين برأي طائفة من الفلاسفة كانت تحرم علي المرء ان يقول ما لا يعتقد، لانه في نظرهم يخادع نفسه و يخدع قارئه، و هو في الحالتين مضل او غوي، و يسرني ان لا اكون احدهما بله ان اكونهما...



پاورقي

[1] مثال الاول المارکسية فقد کانت فکرة شخص و لما تبنتها الجماعة کفکرة في مجموع افکارها بعثت قضية التاريخ علي لونها الخاص. و مثال الثاني طغيان الامم البدائية کغز و البربر لروما و اجتياح التتر لآسيا، و الفرق بين التوسع الذي يکون وليد التفاعل بين فکرتين و التوسع الذي يکون وليد فکرة الطاغية، ان الاول يحدث انقلابا تاريخيا من حيث انه غزو للافکار ايضا، بينما الثاني مد فقط ثم ينجذر بعد حين بدون ان يترک طابعا خاصا، فالاول انقلاب و الثاني طغيان.

[2] الاجتياح اليوناني تم في حين شملت الفکرة الفلسفية الجمهور الاغريقي في شي‏ء غير قليل من التذبذب المنفعل بالنظريات المختلفة. فقد کانت الفلسفة في ابان استوائها و تم من بنايتها الشرفة التي استأهلت ان يقف فيها ارسطو مرسلا قواعد النظام الفکري الخالد.

[3] ان الاجتياح العربي لا يمکن تعليله الا بما قدمنا؛ و ذهاب مؤرخي العرب مذهب المستشرقين في تعليله بيقظه القومية التي هي عندهم نظرية عامة في کل توسع و انتشار، خطأ مزدوج؛ لان الفکرة من اساسها خطأ و تطبيقها علي التوسع العربي خطأ آخر. فان الوثائق مجمعة علي ان العرب لم يتعرفوا الي القومية الا علي شکل جزئي و في عهد الامويين فقط بمعني انها لم تکن قاعدة الدولة في اي دور من ادوار حکومتهم؛ و سببه ان التعليم الجديد الذي جاء به النبي (ص) کان بشريا عاما نقلهم من القبلية الي الجامعة الدينية التي أخذت شکلا انسانيا بدخول الاجناس و العناصر المختلفة فيها. و اغرق من کل هذه الآراء في السطحية رأي الدکتور جوستاف لوبون الذي ضمنه کتاب مقدمة الحضارات الاولي حيث علل الاجتياح الفرنسي بتأثير الاماني، و هو کما تري وصفي محض؛ و الاجتياح العربي بتأثير المعتقد الجديد الذي استغل له النبي (ص) الحماسة الروحية من حدة الطبيعية العربية راجع ص 124.

[4] سيأتي لنا ي بحث النظام العام ان سياسة عمر کانت سياسة حربية خالصة تعد العرب الفتح و التوسع فقط.

[5] راجع کتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو ص 50.

[6] راجع کتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو ص 50.

[7] راجع برهان هاملتون علي الحوادث الارادية التي لا نشعر بها المقتبس من افکار ليبنيز.

[8] و کثيرا ما تتداخلان فان الثورة الفرنسية ثورة و فوضي لان الوضع الذي استقرت عليه لم يکن هدفا لها منذ البدأ بل اسلمت نفسها الي الظروف التي لعبت بها زمنا غير قليل ثم اقرتها علي وضع تهيأ بنفسه تقريبا؛ و کذلک الثورة علي عثمان کانت ثورة و فوضي.

[9] من قول العرب: تذاءبت اليح، اذا هبت من کل جانب.

[10] و الامثلة علي هذا کثيرة لا نتعرض لذکر شي‏ء منها و انما نحيل القاري‏ء الي کتاب (مقدمة الحضارات الاولي) لغوستاف لوبون ص 117 و 118 و 119 و 120.

[11] راجع کتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو في الترجمة العربية ص 17 الي 120.

[12] مثل المؤرخ المصري الاستاذ عند الحميد العبادي حين اثار الشک حول لقب السفاح، و في مناقشته الرواية القائلة باباحة يزيد المدينة. قال في بعض محاضراته (هذا ما قيل في بعض المصادر و لکن الروايات القديمة جدا لا تذکر هذه الاباحات) و من ثم راح ينکرها او يميل الي الانکار.

[13] يري بعض المؤرخين اختيار الرجالات الذين کانوا يعبرون عن اجيالهم تعبيرا وافيا بما مر بهم من اطواره لعلهم وحدات تاريخية يکتفي بدرسها عن درس الاجيال نفسها.

[14] و هذا آت من التعبير (بزهق) الثلاثي و (زهوق) ان ازهق الرباعي يفيد ان الاهلاک بفعل فاعل، و الثلاثي اللازم يفيد ان الهلاک طبيعة فيه او من طبيعته؛ و هذا سر العدول.