بازگشت

الجاذبية


هي أهم عناصر الشخصية المكونة، و لقد غالي بعض رجال التربية فجعل منزلتها من الشخصية منزلة الحقيقة أو الجنس، و انما سائر العناصر الأخري قوي فقط، و هذا له وجهه، فان أعظم ما يسترعي اهتمام التاريخ في الحديث عن الشخصيات، هو هذا الجانب فان للجاذبية فعلا أسريا يحول بين المرء و نفسه، و يستولي علي مناطق الشعور منه بحيث لا يشعر بشي ء علي الاستقلال، بل يجعله كأنما هو موجه الي جهة يريدها. فهي سلطان قاهر يطيف بالنفوس فيسبتها أو يبعث فيها خدرا عميقا يتركها بلا حول.

فقد ذكر (لوبون) في كتاب «روح الاجتماع» أن (نابوليون) كان يدخل مجلس الأمة، و كثير من رجاله معنفون عليه، فما هو الا أن يدخل حتي ينقلب أشدهم عنفا و تطرفا في الانتقاد أكثرهم اقتناعا، و قد كان يقول أحدهم يخيل الي لو أن هذا الرجل أخذ بأذني فأخرجني ما اختلفت عليه.

و مع ان الجاذبية شائعة الوجود في أفراد من الناس، لم نظهر علي تفسيرها الصحيح، و لا تزال تشرح علي سنة و صفية بحت، و لو أظهرنا علي سرها لكان لعلم النفس أن يتحكم في الجاذبية طغيانا و نضوبا؛ و الحق أن الجاذبية من أسرار النفس العليا، لا يمكن النفاذ اليها بسهولة و لقد عبر عنها صاحب الشريعة صلوات الله عليه بأدق تعبير و أعمقه (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها


ائتلف و ما تناكر منها اختلف). فهي مغنطيسية حية تفعل في النفوس، كما تفعل المغنطيسية بالحديد، لا يختلف عليها منه الا ما قدر أن يسقط عن رتبته، بما تراكبه من الصدأ او استحال عليه من الأتربة.

و اذا كان سر الجاذبية قد تفسر لدينا في المرتبة الجمادية، فلم يتفسر سرها علي وجه صحيح أو علي أي وجه في مرتبة الأحياء. فان من المدهش هذا التأثير الجذري الذي لا يملك الانسان له دفعا او منه مناصا فهو ينزل بالشخص المستقل الارادة، التام التركيب، القوي العضل، المتمتع ببناء عضوي كامل، فيفقده ارادته و استقلاله و يجعله بعضا من شي ء غيره بعد ان كان شيئا لنفسه. فالجاذبية قوة أسرية ساحقة تفعل في الجماهير كما تفعل في الأفراد، و ان كان أسرها الجماعي أضعف من أسرها الفردي. و لكن علي أي حال لا يختلف تأثيرها، في أنه طائف كهربائي مصمت. و لقد يقوم نجاح بعض الأفراد الدائم في كل المراحل علي هذا الجانب من الشخصية فقط، و بذلك يظهر أن النجاح لا يتوقف علي توافر أنحاء الشخصية. فانه قد يقوم علي جانب واحد أو وضع واحد، و لكن يجب في هذه الحالة أن يكون العنصر من الشخصية مبالغا الي درجة يبدو معها شخصية كاملة.

و الحق أن المرأة (بالنظر الي عموم الصنف) تتمتع بوضع واحد من أوضاع الشخصية الكثيرة، و لكنه يكون فيها الي حد موفور، يضمن لها النجاح التام تقريبا بالاعتماد عليه؛ فانها تقوم في تأثيرها المطلق علي الجاذبية وحدها الناشئة من اختصاص [1] الصنف، حتي و لو كانت مشوهة فان الفشل الذي يصادفها احيانا يكون بأسباب أخري، كالفشل الذي يصادف الجميلة يكون بأسباب شتي بحسب ما يجي ء به الظرف.

فمن الخطأ الظن بأن السيطرة في المرأة يرجع الي الجمال، فانه من مصححات الانوثة و ليس شرطا أساسيا في السيطرة و التأثير، و انما هو شرط


أو كالشرط في مبالغة التأثير و السيطرة. و الواقع أن الانوثة علي اختلاف درجاتها كالمتر [2] ، مهما تناهت اجزاؤه صغرا، فانها تملك قدرا من الأبعاد، و الأنوثة مهما فقدت من مصححاتها، فانها تملك قدرا من الجاذبية و السيطرة.

و الجاذبية تكون طبيعية، و تكون معتملة [3] كالشخصية بكل عناصرها. بيد أنه لا يقدر البقاء الا للأولي فقط، فقد يتسني لكلا الصنفين الظهور بتناظر كبير. و قد تغلب الثانية أحيانا و لكن مردها الي البوار بحيث لا يكتب لها البقاء، و هذا شأن الحق و الباطل في كل دور و كور؛ و شأن الحسين (ع) و يزيد، و من قال بأن الحق لابد له أن يغلب في عصره، فقد بعد عن جادة الصواب، فان المسيح (ص) تناهي أمره و الطغيان في مده، و لكنه ترك علي صخرته كلمة الحق، فتقاصر الطغيان و برزت الصخرة بما ثبت عليها، ليس الا اياها بارز مشهود و حق ممهود، ثم كان لها البقاء [4] .

و لقد قلت بأن أدق تعبير حفظ عن الجاذبية، قول النبي (ص) (الارواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف). و بيان وجه العمق و الدقة فيه، بأن نرجع بالتصور الي العهود السالفة، حين كانت الجنود تلتحم في المعترك الواحد، ليس لهم ما يميزهم الا كلمة الشعار، و هي كلمة سرية يعرف بها الجندي عدوه من سواه.


علي هذا التصور يبدو الحديث، كأدق ما يكون دقة، و أسمي ما يكون سموا و أرفع ما يكون بيانا. يقول [5] النبي (ص) الارواح في هذه الحياة الدنيا كأنها الجنود في معترك شديد الالتحام، أو هو ملتحم علي الدوام لا هدنة فيه و لا هوادة. و انما عرفانها و نكرانها و ائتلافها و اختلافها بشي ء من الروح ككلمة الشعار التي تعرف بالجندي (ان كان من اهلها أو من أعاديها).

و سر الاعجاز البياني في الحديث آت من ابداء الصورة علي هذا الشكل و اللون. فالحياة معترك فرضته طبيعة البقاء و الاستمرار، و بنو الانسان جنود في المعترك يدفع بعضهم ببعض، و انما يتعارفون و يتناكرون كما يتعارف و يتناكر الجندي مع الجندي في الملحمة بكملة السر. و في هذا تصوير للحب و البغض بأبرع صورة تمثيلية بيانية.

و لا نفيض كثيرا لئلا تنقطع بنا الصلة، بين ما نكتب عنه الي ما نكتب فيه و لنر الآن آثار الجاذبية عند الحسين (ع).

ذكر ابن عساكر أن معاوية قال لرجل من قريش (اذا دخلت مسجد رسول الله (ص) فرأيت حلقة فيها قوم، كأن علي رؤوسهم الطير فتلك حلقة ابي عبدالله مؤتزرا الي انصاف ساقيه).

و ذكر ابن كثير (أن الحسين لما خرج و ابن الزبير من المدينة الي مكة، و أقاما بها عكف الناس علي الحسين (ع) يفدون اليه و يقدمون عليه و يجلسون حواليه و يستمعون كلامه).

و قد تقدم هذان الخبران، و مما لا اختلاف فيه بين الرواة ان الحسين (ع) كان محببا الي كل نفس، مصطفي بين كل قبيل. و زادت به جاذبيته الي الناس، أنهم غدوا يقدسونه تقديسا و ينظرون اليه بالنظر الذي هو فوق اعتبارات الناس.


فقد ذكر الواقدي [6] عن أبي عون قال (خرج الحسين من المدينة فمر بابن مطيع و هو يحفر بئره، فقال: أين فداك أبي و أمي؟ متعنا بنفسك و لا تسر، فأبي حسين؛ فقال ان بئري هذه رشحتها، و هذا اليوم أوان ما خرج الينا في الدلو، فلو دعوت لنا فيها بالبركة، قال هات من مائها، فأتي به في الدلو فشرب منه ثم مضمض ثم رده في البئر). شأن النفوس أيا كانت أن يعروها ضرب من القلق الوجداني الذي لا يعرف له مصدر في حقيقة الواقع، فتلجأ الي المخدرات، فيطلبها أناس في حدود الشهوات و الانغماس في الملذات، و هو مكمد وقتي الاثر فيبالغ الاشخاص في الانغماس الي درجة (ابيقورية).

و يطلبها آخرون في المخدر بأنواعه، لان فيه ضربا من الانصراف بالوجدان المذعور الحائر.

و يطلبها بعض أرباب السمو العقلي في المطالب العلمية العالية.

و يطلبها ارباب السمو الروحي في الاسباب الغيبية التي تضع حدا حقيقيا للحيرة الانسانية، و انما يجتمع اعتقادهم فيمن هو مغمور بفيض الجاذبية القوية الأخاذة، بحيث تجعله محببا الي النفوس و قريبا من القلوب. و هذا هو السر في الهدوء الي جانب رجال الدين، و الي جانب المرأة و الي انحاء الفنون الجميلة.

و نختم حديث الجاذبية عند الحسين (ع) بحادث وقع له في مسيرة الي الكوفة؛ و هو يرسم بوضوح أسر الحسين النفسي و سيطرته الروحية. ذكروا عن جماعة من فزارة أن زهير بن القين البجلي حج في السنة التي خرج فيها الحسين الي العراق و كان عثمانيا، فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسين و كان لتمسكه في العثمانية يكره مسايرته و النزول معه في منزل واحد. و في يوم لم يجد بدا من النزول معه... فبينما نحن جلوس نتغدي اذ اقبل رسول الحسين (ع) فقال:


يا زهير ان أباعبدالله بعثني اليك لتأتيه، فطرح كل انسان منا ما في يده كأن علي رؤوسنا الطير كراهة ان يذهب زهير الي الحسين، فقالت امرأته - و هي ديلم بنت عمرو - سبحان الله، أيبعث اليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه، فلو أتيته. فأتاه زهير علي كره فما لبث ان جاء مستبشرا قد أشرق وجهه و حول فسطاطه الي الحسين، و قال: قد عزمت علي صحبة الحسين لافديه بروحي و أقيه بنفسي، فودعته امرأته و قالت: خار الله لك، أسألك ان تذكرني في القيامة عند جد الحسين (ع)؛ و قال لاصحابه من أحب منكم ان يتبعني و الا فهو آخر العهد مني. اني سأحدثكم حديثا انا غزونا بلنجر و هي من بلاد الخزر ففتح الله علينا و أصبنا غنائم ففرحنا. فقال لنا سلمان الفارسي: اذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما اصبتم من الغنائم؛ فأما أنا فأستودعكم الله، و لزم الحسين حتي قتل معه.


پاورقي

[1] هذا ملحظ الاستاذ هو بس الانجليزي. و نعني باختصاص الصنف، الانوثة.

[2] کلمة متر يظنها اکثر الناس اجنبية محضا. و لکننا سقطنا علي نص مثبت في کتاب العلامة أبي‏بکر الباقلاني (اعجاز القرآن) بأن العرب الجاهلية کانوا يسمون علم موازين الشعر (المتر) و سواء صح أنها عربية الاصل أو لا فانا لا نري ترجمتها بغير اللفظ العربي (متر). و قد ترجمنا المتر المربع بکملة (رمت) بضم الأول و سکون الثاني.

[3] اعتمال الجاذبية يکون بالقنفخرية و الاعتقادية و الارثية. فالاول مثل (نيرون) القزم طاغية روما والي هذا اشار شاعر القرطين خليل بک مطران.



قزمة هم نصبوه عاليا

و جثوا بين يديه فاشمخرا



و الثاني مثل نابوليون الثالث. و الثالث مثل يزيد بن معاوية.

[4] البقاء نسبي اي الي ان اراد الله تجديد الشريعة ببعث النبي (ص). علي ان الشريعة واحدة و الانبياء مجددون فقط. و الفرق بينهم و بين المصلحين ان تجديد الانبياء يتناول الاساس احيانا لانه بالتنزيل، بخلاف المصلح فانما عمله في حدود التفريع و الشکلية فقط.

[5] شرح هذا الحديث کثير من رجال الاثر او فقه الحديث. و لکن لم يقعوا منه علي طائل. و المعني الحقيقي فيه هو ما ذکرنا. و کان بودنا ان نشرحه علي الطريقة الوجدانية التي اخذنا بنهجها في موضوع (المسلم القرآني) من هذا الکتاب و لکن ليس في الوقت متسع و لا في المقام مجال.

[6] أثبت هذا الخبر الذهبي في تاريخ الاسلام في اخبار مقتل الحسين. و أثبته ابن‏عساکر في التاريخ الکبير ج 4 ص 323 بزيادة (و هو يحفر بئرا و اذا ماؤها مالح فشرب منه فتمضمض ثم رده في البئر فعذب ماؤها)..