بازگشت

في الشخصية


الشخصية لفظ كأكثر ألفاظ الفلسفة و العلوم، لا يعبر عن معناه تعبيرا حقيقيا، و لا يقوم علي مفهوم محدد، و أيضا لا يعتمد علي اعتبار منطقي واحد. بل يداخله اعتبارات شتي تجعل له معني متفاوتا، و هو كغيره من مصطلحات العلوم يستند اليه في تقريب الغرض العلمي فقط.

فمما لا ريب فيه اذن، أن العلوم مغلوبة بأسوب شعري أو أدبي [1] .


يدل في أوضح ما يكون دلالة غيبية محضة. و من ثم رأي بعض الطبيعيين أن الأقرب في مذهب التعليل، أن نسمي الجاذبية (مقاومة الانفصال) و رأي ماكس نورداو أن الأصح في المنطق أن نسمي نظرية بقاء الاصلح (ببقاء الأحيل)

و ليس في هذا ما يدعو الي الدهشة، فانا اذا وقفنا علي تمام الملاحظة في اصطلاح (الانتخاب الطبيعي)، رأينا مقدار ما تقوم عليه الفاظ العلوم من الحظ الأدبي.

و عليه فليس لنا أن كعتمد علي كل من تخيله المصطلحات، بحيث ننظر اليها كاطار للحقيقة، فان هذا الاعتماد يسوقنا الي مغالط كبيرة و مغالطات ذات أهمية؛ فهي تفسر الشي ء أحيانا تفسيرا غير صحيح، و أحيانا تفسيرا يميل الي التعميم. و مثله أنا اذا تساءلنا عن نجاح انسان، فانا نعلله بالشخصية الموفورة، و اذا تساءلنا عن الشخصية لم نلق جوابا واضحا. فيكون كل ما استطعناه أن ننقل التساؤل لا أن ننتهي به، اذ ليس للشخصية حد حقيقي في كثرة ما لها من التعاريف.

لذلك لا يهمنا أن نذكرها في معناها، بل في آثارها الهامة و عناصرها الجوهرية المكونة التي هي:

الجاذبية، النشاط العقلي، المشاركة الوجدانية، الشجاعة، التفاؤل، الحكمة، التواضع، حسن المظهر، قوة البيان، الثقة بالنفس، اعتدال المزاج.

ثم للشخصية صفات كمالية و هي علي وجه العموم: الذاتية، الاخلاص، الحماسة، قوة الوجدان أو الاحساس.


و علم النفس التطبيقي ينصرف الي أن ذا الشخصية قمين بالنجاح أو هو ناجح من غير بد. بيد أن هذا ليس صحيحا علي اطلاقه، بل لابد من شي ء جوهري آخر لتحقيق هذا النجاح، و هو استعداد الظرف أو الاجتماع. فلقد تستجمع كل عناصر الشخصية في شخص ما. و لكن مع ذلك يفشل في زمنه أو عصره، لأن عناصر شخصيته ليست منتزعة من صميم المكيفات العامة للعصر. و لذلك يبقي بشخصيته بعيدا عن الوسط، فان الشخصية ليست بذات حدود آلية أو قاعدية تحكمها، و اذا كان لها حدود فليس لها طابع ثابت أو لون واحد بعينه.

و النجاح يقوم علي مقدار ما يستطيع المرء علي تكييفها مع الصفات البارزة للعصر التي هي شخصية ثانية. و هذا التزاوج علي الدوام انما يتم بسبب واحد، هو المرونة في شخصية المرء لأن شخصية المجتمع أو الجماعة أكثر ثباتا أو ثابتة. و هذه المرونة أو الحيلة بعبارة أصح هي السبب الصحيح للنجاح الدائم. فليس النجاح تابعا لتوفر الشخصية الصحيحة، اذا كان للشخصية أقطار و حدود، و انما هو تابع للحيلة في استعمال هذه الشخصية.

و لقد كانت حقيقة عظيمة، الملاحظة التي أبداها ما كس علي مذهب بقاء الأصلح، بأن الأولي في مذهب التعبير الواقعي أن نقول بقاء الأمكر أو الأحيل.

و انما اجتهدنا باثبات هذه الملاحظة علي النظرية المذكورة، ليتسق لنا فهم الفشل الذي مني به مثل علي (ع) من أصحاب الشخصيات الكبيرة، و التي لا نكر في انها ممتازة الي أبعد غاية.

و مما لا يمكن الريب فيه أن للتربية يدا في ابداء الشخصية و تركيزها علي خطة مثلي، و أما أنها تعتمل الشخصية، فهذا ما ليس في طوق مناهج التربية أن تعطيه بحال.

و هي اذا قدمت نوعا من الشخصية المستقلة، فان فرق ما بين الطبيعية و الاكتسابية كالفرق بين الانسان الحي و الانسان (الميكانيكي) الآلي.

و لسنا نريد أن نتبلغ بهذا الي الانكار علي المنهج التربوي فائدته و آثاره


الهامة في التهذيب و اعطاء الشخص الفاضل، فقد ثبت أنها كفيلة بهذا القصد و حفيلة بفضلي النتائج. و انما الغرض الذي نتوسل اليه أن نقرر أن الشخصية الكامله المقصودة بهذا اللفظ عند الاطلاق، هبة في أهم أنحائها لم تتفسر علي وجة واضح. فالبطل كما يقول (كارلايل) يولد بطلا.

و سنأخذ الآن ببحث نواحي الشخصية عند الحسين (ع)، لنقدم فيه قدوة نبيلة، مخططة علي رسوم جلية. و هي بعد شخصية محببة الينا، لا تعدل بنا أن نتوخاها.


پاورقي

[1] وضعنا کلمة ادبي هنا موضع کلمة فلسفي علي ما انتهي اليه بحثنا في تحقيق کلمة أدب، و أن العرب استعملتها بعد الاسلام لتدل علي کل ما تتناوله الفلسفة و لغموض وضعها الاصلي الشخصي، لا بأس من أن نقف عندها قليلا لندرسها علي ضوء التعليم اللغوي الجديد الذي اثبتناه في کتاب (مقدمة لدرس لغة العرب) ص 147 الي 152، ص 210 الي 214 فان لها خطورتها من ناحية ولانها کانت محلا للاخذ و الرد و التقدير المرسل من ناحية أخري و لا بدع فهي من الغوامض؛ و تحديد ظروفها في الاشتقاق و الاصطلاح أهاب بکثرة مستشرقة و عرب الي استعراض ما وقعت فيه و تتبع اقدم النصوص المحفوظة، و لم ينوا في جمع مختلف الاثار؛ و کان من نتائج هذا البحث الشاق آراء لا تقع فيها علي القول الفصل، و لا أعلم لاحد بحثا تحقيقيا قبل الاستاذ (نللينو) و مهما يقال علي النتائج التي وصل اليها فلا ينکر عليه قيمتها؛ و يسرنا هنا أن ننوه برأي طريف جدا للاستاذالزيات أخذ أخذا، فيه استبعاد و لکن علي کل حال جدير بالدرس؛ و حاصله أن (أدب) في الشومرية معناه الانسان و لا يبعدان العرب نقلته بالابدال بالميم فقالت (آدم) و وجه جدارته انک لو أخذت مادة (ادب) و مقاليبها و مادة (ادم) و مقاليبها کذلک لا لفيتها تنظر الي معني واحد لا اختلاف فيه مما يقضي بأن بين المادتين تناظرا و ان کان هذا التناظر يمکن ان يرد الي تقارب ما بين الباء و الميم. فان کلا منهما يأتي من مقاليبه ما بمعني الزمن الطويل خذ (أمد) و (أبد) و تشعر المقابلة بين مقاليب المادتين بأن مادة (ادم) أحدث من أدب و لکن مع هذا نري انه لا يخلو عن مجازفة نظرية. بيد أنا نري رأيا جديدا ربما يشتمل علي عناصر من القوة و الحقيقة أکثر مما في کل رأي سابق؛ و راينا هذا بکل صراحة لا يستند الاعلي التحليل اللغوي فليس هو نتيجة ابحاث تاريخية تقوم علي مستندات کانت مجهولة و انما هو التحليل اللغوي لا اکثر. فان مقاليب هذه المادة تعطينا معني غير مختلف و دلالة متآخية و هي الزمن الممتد و الخلود الزمني. و کيفما کان فالنتيجة واحدة. و عليه فلفظة الادب قديمة و وضعت لمعني (خلود الذکر) و عنه نشأ ادب بمعني (تخلق) و عن هذا نشأ ادب بمعني (دعي الي الطعام) و عن معني (خلود الذکر) ايضا نشأ ادب بمعني (القصص و الحکاية و النادرة). و عن هذا نشأ ادب بمعني (سمر) و من ثم اطلق علي الشطرنج انه من الادب. و في اثناء هذه الانفصالات تولدت من الشريعة لفظة العلم مرادا منها الدين و لذا کانوا لا يطلقون علي ما سوي علوم القرآن علما. فقامت لفظة الادب في الجانب الاخر لتؤدي ما عدا ذلک جميعا دالة علي (الفن) و کل ما ليس الي الدين من أنواع الدرس و و لذا قالوا ادب الدرس و ادب النفس. و قال ابن المقفع في ص 4 من الادب الکبير (يا طالب العلم و الادب) و استعملها في موضع آخر بما يقرب من الناموس و السياسة قال في ص 21 (حتي تحملهم ان استطعت علي الرأي و الادب الذي بمثله تکون الثقة). و قال أبوالعيناء (ان لعلي (ع) تسع کلمات فقأن عين البلاغة، ثلاث منها في المناجاة و ثلاث في الحکمة و ثلاث في الادب؛ أما التي في المناجاة فهي: الهي کفاني عزا أن أکون لک عبدا، و کفاني فخرا ان تکون لي ربا، أنت کما اريد اجعلني کما تريد. و اما التي في الحکمة: فهي قيمة کل امري‏ء ما يحسنه، المرء مخبوء تحت لسانه، ما هلک امرؤ عرف قدره. و أما التي في الادب: احتج من شئت تکن اسيره، و تفضل علي من شئت تکن اميره، و استغن عمن شئت تکن نظيره) فنحن بمقارنة ما بين کلمات الحکمة و کلمات الادب نجد جليا کيف کانوا يفهمون من الادب معني السياسات. و بالتقدم الفکري عند العرب نشطت لفظة العلم و توسعت لتدل علي أکثر مما کانت تدل عليه لاسباب أهمها انها اوسع الالفاظ في اصل العربية لهذه الدلالة، و ايضا لان علماء الشريعة شارکوا في علوم من علوم الدنيا و دخلت في شعبة اختصاصهم؛ و لما شملت العرب الحرکة المنطقية اکتسبت لفظة العلم أوسع معني و بدأت تنتزع من الادب کثيرا مما کانت تقال عليه حتي عادت و لا تقال الا علي فنون بعينها شملها فيما بعد ايضا لفظ (العلم) و أصبح لها معني الوحدة؛ و عليه فقد عراها ما عري کلمة الفلسفة من تغيرات بين السعة و الضيق و العمومية و الاختصاص و ايضا تشبهها من وجه اخر و هو أن کلتيهما لا يعرف لهما مولد علي وجه التحقيق و لا غرض علي وجه الدقة و انما کل ما يعرف من شأنهما استعمالات لا تؤدي وجه الغرض بل ربما زادته غموضا نظرا لما هي عليه من الاختلاف فالفلسفة يستعملها (هيرودوت) بمعني غير ما يستعملها لفيه (برکليس)؛ راجع دائرة البستاني و مبادي‏ء الفلسفة. و الادب استعملت في أقدم ما حفظ من نصوص بمعني الدعوة الي المأدبة ثم رأيناها تبعد شيئا فشيئا الي معان ليس بينها و بين الدعوة الي المأدبة آصرة و لو بعيدة؛ و هکذا نجد بين الکلمتين شبها من کل الوجوه تقريبا فهما في عهد ما قبل الارتقاء يستعملان بمعني أبعد ما يکون عن المعارف، و في عهد المعرفة يستعملان بما يکون جامعا لها. و لا يمنع من هذا أنا لا نجد شواهد لغوية في المعجم المحفوظ. و الخلاصة ان کلمة ادب ترجم بها العرب کلمة فلسفة و کثر استعمالها في السياسات علي اختلافها کسياسة المدينة و سياسة المنزل و سياسة النفس و سياسة الطباع؛ و لا شک ان أدب القول من سياسة الطباع.