بازگشت

عظمة الاستهانة


هذا الجانب عظيم و غريب عند الامام الشهيد، فقد كان مستهينا بالحياة و مستهينا بالموت، غير ناظر الي شي ء الا برهان ربه، الذي امتزجت به نفسه؛ فهو


يفتديه بكل شي ء هان أو عز، و من ثم كان جديرا عليه السلام بأن يسمي البناء الثاني في الاسلام بعد جده المصطفي صلوات الله عليه، و بأنه المجدد لبناية التوحيد كما يقول الشاعر الهندي (معين الدين اجميري رحمه الله).

و كذلك استهان عليه السلام بكل شي ء ما عدا مبدأه. تصوروا رحمكم الله، أنصاره يخطف الواحد منهم بعد الآخر بمرأي منه و مسمع، و أبناؤه يطوح بالواحد بعد الآخر علي أمر منظر و أفظعه، و حرمه يتفجعن بين يديه و هو يتلوي من شدة الظمأ و جحد الجاحدين. و مع ذلك لا نراه الا الحسين (ع) الرجل الذي يقدس مبدأه و لا يلين، و يستعذب كل هذا علي خيانة الضمير و خيانة المبدأ المقدس، و هو يشع بأنواره الساطعة بين ناظريه، و كلماته السحرية تفعل في نفسه فعلها...

الله. رسوله. القرآن

هذه لمحة من عظمة الحسين الامام الشهيد عليه السلام، و ان يكن المصاب مريرا، فقد ترك درسا شريفا، و تعليما نبيلا و انسانية كبيرة، و ذكرا خالدا، و درجة رفيعة عند الله و الناس.

و يكفي أنه كلما ذكر ذكرت به معاني الفضيلة و الحق، و اذا ذكر خصومه ذكر بهم معني اللؤم البغيض و الانسانية الشريرة. ولكن اذا كان شي ء مرا في كل حادثة، فانما في أن يقتل بيد من كان يتحمل الامام كل هذا العناء بسبيل راحتهم وهنائهم.

هذه صفحة عجلي تضع بين أيدينا صورة من قيم الحسين (ع) النفسية، و ما كان قد استوي في قلبه الكبير من عواطف سامية و معان نبيلة و ميول للحق و في الحق، و مضاء علي كلمة الصدق.

و هي و ان تكن صورة عجلي الا أنها تخطط أمام ناظرنا شكلا من الرجولة الحقة لا تقع دونه و انما تستوي فيه، و هذا ما يجعلنا نهيب بالناس الي ترسم هذا البطل القدوة في كلمة الحق و صراحة الحر و مضاء العزوم.


و هي حادثة قد يمكننا أن نسميها صغيرة اذا نظرنا اليها في حدود المغالبة، و لكن هذا الصغر فيها هو الذي جعل لها معني كبيرا، فاننا اذا رأينا حفنة من الناس في مل ء اليد، تثبت لجموع في مل ء الارض الفضاء، انكشف لنا عنصر البطولة و الرجولة الذي نكبره و نشيد به في حادث المصرع الرهيب.

هذا شي ء دللنا عليه في غضون ما سبقنا به؛ و انما نريد أن نثبت الآن مقدار ما يفيدنا منه.

علمنا الحسين (ع) كيف نحافظ علي ذاتيتنا، و كيف نتناهي في الدفاع عن كرامتنا، و كيف نعمل في سبيل القضية المقدسة، و كيف يجب علي الزعيم العامل أن يكون ارادة ماضية لا يلين و لا يستكين...

يكون الاسد حبيسا و لكن لا يجعله الحبس عبدا، هذا ما يقوله ديوجين اليوناني في قديم الدهر، و ذلك لمكان الذاتية التي لا يري معها في سمت ناظرية الا اياها، و لا تجتمع مرامي بصره الا عليها. فهي مصدر شجاعته و استماتته و سر ابائه و غيرته، و القيمة الحقيقة لا تجي ء الا من هذا الجانب.

علي ان تماسك الوجود لا يتم الا اذا اسندته الذاتية، و كانت له دعامة. و المرء الذي لا يشعر بذاتيته لا يشعر بوجوده، و ان تاريخ الحرية هو تاريخ الذاتية علي الحقيقة التي تأبي الا أن تظهر بسلطانها.

و لقد ضرب الحسين (ع) أعظم مثل في الذاتية، و علمنا كيف نقدر ذاتيتنا حق قدرها. و لقد أرانا الحسين (ع) كيف لا يري الوجود الا في ناحيته، تحتبك عنده أطرافه. و هذا الخلق لا يرجع بالانانية عند الشخص في فهم الوجود، بل يحدد لكل امري ء نسبته من الوجود العام. فمعني انا موجود: أنا مستقل بكل أسباب الوجود؛ فالذاتية أو الاستقلالية تتصلان بالانسان فطرته، فكان من لا يشعر باستقلاليته لا يشعر بشي ء من وجوده. هذه الذاتية نراها عند الحسين (ع) بصورة ضافية بل ربما كانت عنده بأسمي مثل و أروع شاكلة.

و الكرامة معني لا ينفك أو ينفصل عن الذاتية، بيد أنها تتصل مع ذلك بمنطقة


الوجدان، و من ثم كانت عنوانا علي التمتع بكامل الحريات للانسان المهذب.

و الكرامة لا يشعر بها الا من أثر فيه مد التاريخ حتي جعل له شخصية اخري عدا شخصية الوجود، و بهذا الشعور نطق العربي...



ما للمرء خير من حياة

اذا ما عد من سقط المتاع



و لقد ضرب لنا الحسين (ع) أرفع مثل في المحافظة علي الكرامة و الذود عنها و الاستبسال في سبيلها. فانها أي الكرامة عند الرجل الحر نعمة أسمي من نعمة الوجود.

و من أطراف ما وقفت عليه من مذاهب المفسرين، هذا المذهب الغريب في قوله تعالي (و لقد كرمنا بني آدم) أي جعلناه ذا كرامة يغار عليها و يتفاني في ذمارتها، و هذا محمل و وجه من التأويل، و ان يكن غريبا لكنه متسق مع الآية، نازل منها منزلة قريبة. و لعله كان أقرب من كل معني آخر، و قربه يظهر في قوله تعالي في ختام الآية (و فضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا) فان كان (كرم) من التكريم كان معني الجزء الاخير مستدركا، و انثني فيه معني آخره علي أوله. فيتسق علي انه (كرم) من الكرامة.

و اذا كان الانسان مخلوقا ذا كرامة، فالتفريط فيها انتفاء من الانسانية و انتزاع منها، فاذا أردت أن تكون انسانا، فصن كرامتك و كن حرا.

ثم ضرب الحسين (ع) مثلا في كيف نخدم قضايانا المقدسة، و هذا الجانب يدخل في أمس حاجاتنا، فنحن في مرحلتنا الجهادية التي نشمر فيها عن ساق، حريون بأن نعرف اولا كيف تخدم القضايا العامة، و هذا الدرس لن نعرفه علي وجهه الا عند الحسين (ع)، فان جميع من يعرفنا التاريخ بهم من شتي الرجالات في شتي الامم، لا نجد بينهم من يجي ء مع الحسين (ع) قرينا، و لن نجد في التاريخ له مثلا و لا نظيرا. و أني نجد انسانا يندفع علي الموت كما ينفدع الطفل علي الحياة بكل جوارحه و استعداداته، فهي تجتمع عند الطفل لكي تحيا، و تجتمع


عند البطل لكي تموت، و في حيوانية الطفل سر الموت، و في موت البطل سر الحياة...

فالحسين (ع) أعطانا في هذا المشرع درسا هذه كلماته: الدفاع عن القضية المقدسة لا يكون الا بعد أن تستحيل القضية روحا يحيا بها المحامي و المدافع. و بذلك لا يحول به الموت و الحياة، و لا الرهبات و الرغبات عما هو قيد ذراع. بل يثبت ثبات القدر حين يقع لا يحول به حائل من الجهود. و اذا كان هذا ميزان الاخلاص في الدفاع، فانا نري كيف هو تكليف قاس ينوء تحته كل عاتق، ليس للحسين و أنداده. و أعظم ما يفيدنا في سيرته، و ان كانت الفائدة تتصل بها من سائرها، أنه أعطانا شكلا للزعيم المكافح الذي اذا خاض معركة الحق و الباطل فانه لا يعود الا بأن ينتصر به الحق أو بأن ينتظر. و انتصار الحق مما ليس منه بد، و ان كان للباطل صولة، و للمبطل دولة، و لكن الي حين.

فيا بطل الكفاح مد الينا يدا...

و يا بطل الجهاد كيف لنا بمثل خلائقك في الجهاد...

أنت مرة ذهبت تصنع الموت انتصارا...

و غيرك ذهب يصنع الحياة اقتدارا...

فمات القوم و بقيت وحدك رمز الخلود...

لكل انسان يوم حياة و يوم ممات...

و بينهما يقوم مسرح الأعمال الخوالد...

و أما أنت أيها العظيم، فقد كان لك يوم حياة فقط، لأنك لم تمت كما يشاء الموت، بل كما تشاء العقيدة، فلك في حياة كل انسان مكان...


الله واحد، و الحق واحد، و لئن تعددت موازين الباطل فلن يستوي في الحق مؤمن و جاحد...

و لئن اعتدي علي الحق في جنح الظلام فللحق في ضمير الكون شاهد...

و لئن تقوي الظالم حتي ضاقت في وجه فريسته الموارد، فللحق من نفس أسباب الظلم شباك يحوكها، بحيث تفلت الفريسة و يقع الصائد...