بازگشت

توطئه في القرآن


في مثل الطفرة ننتقل من حديث نشأة الحسين (ع)، الي موضعه حيث هو من القرآن. و الذي قصدنا بهذا العنوان أن نجعل من القرآن: كتاب الله، ميزانا قسطا للنسم، فلا يفضل الموزون الا بما يزيد به معناه القرآني، و كل زيادة ليست من طريق القرآن و لا اليه، فهي نفاية و سقاط.

و كتاب الله بعد ذلك أعدل قسطاس يتراجح به الناس في معناهم الانساني، حتي رأي بعض مفسري المعني ان المقصود بالموازين في قوله تعالي: (و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين)، القرآن و سائر الكتب السماوية المنزلة.

فالقرآن هو الميزان [1] في يد الناس في الدنيا، لاقامة دولة العدل الانساني، و هو الميزان في يد الله في الآخرة لتكريم هذه الدولة، بما استوي فيها من الجزء السماوي الذي أعدلها لهيكل الخلود.


و القرآن قبس علوي، سبقت به الارادة ليكون روحا أخري تتمم لقص الانسان. و هو بعد ذلك تجربة من الغيب لسياسة النوع، و اعطاء صنف من الناس أكمل منهم، أو هو تربيب [2] للملائك في هياكل البشر، ثم لا يزال يعمل عمله، بما يبعث من تياراته المطورة، حتي يمر بها في مثل أطوار الشرانق من اليرقة الي غازلة الحرير.

فالمسلم القرآني أو المسلم الكامل، هو ذلك الانسان الذي عمل فيه القرآن عمله، فراح ينتج من وحي الاخلاص و الهام المحبة العامة و فيض الوجدان، شيئا كتلك الخيوط الحريرية التي تنتجها فراشة الشرانق الكريمة. و كنهاية اليرقة التي صارت فراشة حرير تكون نهاية المسلم الذي يصير انسانا ملكا (و كذلك الايمان حين تخالط بشتاشته القلوب). و بالعكس من ذلك يكون الجاحد الطاغي الذي هو في أقرب التمثيل كاليرقة التي تنتهي بدودة القطن، و كما كانت نهايتها دودة ضارة، تكون نهايته انسانا شيطانا.

فهما يرقتان تشابهت فيهما الطبيعة، و لكن تخرج احداهما فراشة تنظر الي الي السماء في أغاني القربان، و تخرج الثانية دودة تنظر الي الارض في ظلامية التراب و معناة الفناء.

فالقرآن اذا حل نفسا استوقد فيها مصباحه، و لكن لا يبدو نوره المشبوب الا بعد أن تحترق فيها أخلاط الوجود الظلامي، لتحلها دفعات النور أرسالا أرسالا، مثل ما نري في شاشة النوار [3] التي لا تضي ء الا بعد أن تحترق، و هي من النوار كالقلب من الانسان لا يجي ء منه شي ء حتي يستحيل بما لابسه موجودا آخر بألوان أخري. و بذلك لا يكون المسلم مشكاة فيها شمعة، بل شمعة كبيرة في مشكاة الوجود. و هذا القرآن كأنه عصا الله السحرية، لا تمتد الي شي ء الا جعلت فيه شيئا


منها. و ما كانت عصا موسي (ص) الا بعضا من الحقيقة القرآنية العظمي، و هي حين جاءت بشكل العصا في يد موسي (وقع الحق و بطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك و انقلبوا صاغرين)، فكيف و قد جمعت الحقيقة بتهاويلها في يد محمد صلي الله عليه و سلم، كأنها شعلة الحكمة المقدسة في الظلمة الحالكة. و لقد وقف بها النبي (ص) في أعلي سمت يعلولي اليه، كما يقوم المنار عند الشاطي ء و فوق الصخور، يقود ضوال السفن، و يهدي التهائهين في مخضو ضد اليم، الي حيث السلامة عند الشاطي ء الامين. علي مثال المنار قام النبي (ص) يرسل صوته الهادي و يمسح الظلام الحالك، بالقبس الوضاء في يمينه. و قد وقف له الفلك الدوار يصغي، و يردد صدي الصوت الالهي في فم الانسان، (ثم استدار [4] كهيئته يوم خلق الله السموات و الارض). و كان معني وقوف الفلك انه كتب للزمن ابتداء جديد، و للحياة سنة جديدة، و للتاريخ حقيقة أخري، ليقول ان الحياة بكل أوضاعها ولدت مرة ثانية، أولها محمد و القرآن، و آخرها محمد و القرآن.

علي مثال المنار وقف النبي (ص)، فوق برزخ بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب، يلوح بالشعلة في يديه، يجمع الضالين و التائهين في مذاهب الحياة الملتوية، و يقول كلمة الله علي فمه: (اهدنا صراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الظالين).

فمرت القوافل بين يديه، و من أمامه، الي حيث الطريق الوضح، و الغاية المنشودة أو الي أقرب طريق معبد الي السماء.

فالقرآن و هو تلك الشعلة، هو الضياء الابدي الي الابدية. و لن يكون المسلم مسلما حقيقيا، الا اذا أحال القرآن في نفسه معني انسانيا فصار منه كمعناه، و صار المرء منه كالعنوان أو الفهرس المفصل. و القرآن اذا استحال في نفس الانسان علي شاكلة ما نقول رقي به دركات و نزل بطبيعته دركات، و أدناه من السماء أو


أدني السماء منه. و ما يزال به حتي يكون كأنه لامسجد الحي، لا حساب للبنات فيه. و بحقيقة كان المسلم القرآني مسجدا حيا لا يقوم في لبنات، و انما يقوم في قدر من الحياة يتسع لتجلي الله الأعظم و لا يضيق (ما وسعتني ارضي و لا سمائي و لكن و سعني قلب عبدي المؤمن).

و لقد جهد النبي (ص) و جهد القرآن، حتي ينقلا المعبد الي قلب الانسان، لا أن ينقلا الانسان الي المعبد. و المعبد بعد ذلك ليس الا مقدارا من الارض في مقدار من الحجارة، لا روحانية و لا فطرة و لا حياة، و انما الانسان هو الجزء الحي فيه، أو هو حياته الجياشة التي تستشعرنا بالرهبة و الخشية، و تعاطينا بطمأنينة كأنها التهويم تنزل علي النفس القلقة الجازعة، كما ينزل التهويم علي العصب المتعب المثقل، يترك فيه راحة و شعورا باللذة في حلم، كما تترك الطمأنينة تطرية نفسية عميقة هي السكينة، و شعورا بالحلم في لذة.

و معجزة القرآن انه أهبط الملكوت الأعلي الي الارض، أو رفع الارض الي الملكوت، و كان صلة ما بين عالمي الغيب و الشهادة، أو زاد فرفع الحواجز بين العالمين، فلم يعد الا عالم واحد هو عالم القرآن. فيا أيها المسلم انك تسكن من القرآن في ملكوت الله فوق اعتبارات الدنيا و شهواتها، حتي لقد انفصلت بمعناك عن معناها و كانت آية القرآن أن جعلك للدنيا كما تكون الفضيلة و العمل البر، و ما جعل الدنيا لك كما تكون الفتنة و النزوة و الطيش؛ فأنت حكمة الدنيا في عقل الدنيا و سمو الاحاسيس في طبيعتها. و هذا هو المعني في قول النبي الاعظم (ص): (تختلقوا بأخلاق الله القرآن).

فالقرآن ليس تعليما فقط، يأخذ شاكلته كأنه مذهب فلسفي أو تعليم نظري، يسترشد مما وراء الطبع لحكم الطبع. بل هو شي ء كالاستهواء لا يكاد يطيف بالاذن حتي يجعل فيها قلبا سميعا مهديا، ثم يتمدد القلب بما تمدد فيه من الفكر الجديد، حتي يعود الانسان قلبا فقط، أو خلقا، أكبر ما فيه قلبه.

و لذلك ترك النبي (ص) الانسان و جوانب الخلق فيه، و اتجه الي القلب وحده


و وقف عنده يستلطفه بأزكي شعور: «لأن في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله، و اذا فسدت فسد الجسد كله، ألا و هي القلب). و معني صلاح القلب وجوده، و معني فساد القلب عدمه، و من وجد قلبه فقد وجد حقيقته و معناه و كل احساس حي شريف يجمع النبالة و الفضيلة و العاطفة و الطهر، و من فقد قلبه فقد وجد ما عدا ذلك. (ان في ذلك لآية لمن كان له قلب أو القي السمع و هو شهيد).

و ان من مدهشات البيان النبوي، هذا التعبير بالمضغة عن القلب الملاحظ فيه كمال الاستعداد، حتي كأنه القطعة من اللحم الممضوغة التي توافر فيها كمال الاستعداد للهضم. و ليس أبلغ من هذه الكناية في افادة مقدار حساسية القلب بالخير و الشر، و سرعة تأثره في مثل خطف البرق و اغتماض اللمح. و من هنا كانت عناية القرآن به عظيمة و توجهه اليه بالخطاب أبدا. و تأمل في ذوق البيان موقع (هو) من قول الله: «أو القي السمع و هو شهيد» الذي يشع بأن الانسان لا شي ء وراء أقبله.

و اذا علمت بأن (هو) يرمز بها الي الحقيقة، خرجت بسر اعجاز البيان في سر اعجاز الانسان. فالقرآن من شأنه أن يصنع القلوب، و يغمرها بندي الهي، ثم يدعها لا تصيب راحة الا به، كالقبلة العاشقة المفعمة لا تكون آخر الري بل ول الظمأ، ثم لا تكون خاتمة الغرام بل بداءة فصل جديد. و كما لا تجد راحة الغرام الا في موالاة الغرام، و لا تطعم القبلة الا في متابعة القبلة، ككل النزوات العاطفية؛ لا تكون الراحة فيها الا بتكرارها و لا يتم معناها الا بمعاودتها. كذلك لا يجد المسلم القرآني هناءة الا بالقرآن، و لا راحة الا به. و كما قلت ليس القرآن تعليما نظريا يحاول السيطرة علي الطبيعة بالفكرة، و يمهد لغلبة المادة بالروح، و يقوم في نهايته علي مناحرة بين المحسوس و المعقول، ليفرض حياة عقلية لا قبل لها و لا بعد.

و انما يحاول القرآن أن يجعل في الطبيعة فكرة، و في المادة روحا، و أن يقيم الايمان علي توازن المحسوس و المعقول؛ بحيث لا يعيش الانسان منه في حياة غيبية


خالصة، أو في حياة مادية بحت، بل في برزخ يستوي علي تعادل القوي و اطبائع، و توافر المعني في المعني.

و بذلك كان القرآن مثابة للبشرية الظمأي و الانسانية التي لم تجد، في الشرائع الوضعية و انتجعها المصلحون، ما يدخل في دائرة الشرائع الطبيعية أو يأتلف معها في قرن و استواء.

فكان شريعة للحس و ما وراء الحس، و سياسة للنفس و مادون النفس، ثم فرض نظاما أقام به بين الطبيعتين تجانسا عن تماثل، و ازدواجا عن قابلية، و انسجاما عن تناظر، و اتحادا عن تجرد. و من ثم وجد فيه الناس ما كانت تصبو اليه نفوسهم، و تعرم في جنب خياله صبوتهم. فكان كالقطرة في حلق الظمآن، لا تصيب الحلق وحده و انما تجمع عليها الجسم كله، بما فيه من الخلايا و التلافيف و الاعضاء، لتشيع فيه الحياة علي مقدار ما تحمل اليه من حاجته.

و هو حين جاء علي مقدار حاجة الناس، بما انفطر عليه الناس، لم يكن دين مجتمع أو شريعة عصر، بل كان شريعة الانسان و شريعة الفطرة، فما لم يزل الانسان مخلوقا ذا فطرة، فلا يريم عن القرآن. و أني يجد في غير القرآن نهجا حكما، و ناموسا أمما (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون).

آية سامية من التنزيل، و التنزيل كله سام في أوله و آخره، و كل آية هي أفضل ما تكون في موضعها و معناها. فاذا كان منا قول بأن هذه الآية أعجز و أبرع فان معني ذلك انها في هذا الغرض و هذا الموضع أعجز و أبرع، كما أن الاخري في غرضها و موضعها تكون مثل ذلك. فليس في القرآن آية تفوت آية، و انما هو بآيه يفوت كل البيان.

هذه الآية تقرر بأن الكمال العضوي استوي في الانسان، فلا منقلب له أسمي من بنائه الشاهد و كيانه الحي الموجود، و ليس يؤتي الانسان من قبل النقص الخلقي (لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم) و انما يؤتي من قبل الشرائع التي


تفسد عليه فطرة فيقتضي لاستصلاحها أكبر الزمن، و يجتهد في اقتلاع ما ثبت فيها من طفيليات ضارة مبيدة. فما في الانسان من النقص، انما التبعة فيه علي الشرائع الوضعية التي ابتعدت عن فطرة القانون الطبيعي، أو عن روح الناموس الفطري، فكان هدف القرآن أن يرجع بالناس الي فطرتهم الاولي، حتي ينصاع العرف وفق النواميس، و بذلك يكون قد أقام القواعد علي القواعد و الحدود علي الحدود، و أزال الاشواك العالقة و الأدران المتلبدة التي حجبت نقاء الفطرة و هي صنع الله، بالطبيعة ذات الرعونات و هي صنع الناس بما افتنوا من شرائع حجرتها الاجيال، و واصلتها الوراثة بالمعني العنصري، حتي تشوهت الفطرة الانسانية و لم يعد لها جلاؤها الاول، و أصبح ما ليس من طبيعتها جزءا منها صليبة.

و لذلك أعيا هذا الانسان كل المصلحين علي متطاول التاريخ. و هم علي اختلاف نظرهم في وجهة الاصلاح يجمعهم الاياس، و في العصر الحديث زاد بهم املاء اليأس، حتي ركب (نيتشه) متنا شعريا، و لم ينقل الانسان الي حقيقة الواقع، بل نقله الي خيال الواقع ثم مهد له في حياة افتحارية [5] خالصة.

و كذلك (برناردشو) نفض يديه من الانسان الحالي، و قصد قصده في انسان المستقبل الذي قدره غريبا في بنائه العضوي و خلقه الحيوي، و شمله بتغييرات انشائية تأتي بها طبيعته قابلة للاصلاح و التصحيح.

ولكن جاء القرآن بالمعجزة و الشريعة الوفاق، فلم يحمل الانسان علي أن يطلب الخيال، و لم ينسج له سعادة خيوطها أحلام و أوهام، و لم يأخذه باتهام النقص


و انتظار التكامل، و انما جاء كالواقع حين يقع لا تكون الحقيقة الا في حدوده و أقطاره. و بهذا النداء الرائع أعلن القرآن عن حقيقة ما جاء به: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها).

هذه الكلمة [6] أي (حنيفا) لم تتحققها اللغة أو لم يتحققها الرواة، فهي غامضة كالغموض؛ و ما اغمض منم الشي ء الا نفسه، و ما أوضح من الشي ء الا هو، و لكن جاءت بها الاستعمالات علي أشكال، تأخذها بمعني غير ما تثبت منه اللغة و تترك، و من ثم ظن بعض مؤرخي اللغة بأنها اسلامية لا قبل لوجودها؛ و علي كل فالذي نري فيها، انها كلمة اشراقية تفيد أدق معاني التقديس، و هي تجمع علي معناها الاخلاص و الاستشعار بالخشية و تعلق القلب الدائم بالتنزيه.

و المراد بالوجه [7] ، في الآية، القصد أو الذات و النفس؛ و قد جاءت بكل ذلك اللغة في معاني الوجه (علي ما ذكره السيد المرتضي في اماليه). و الذي نميل اليه من معانيه هنا القصد، و كأن القرآن بعد ذلك يقول: الاسلام فطرة تستدعي قصدا و اخلاصا في القصد، فان القصد بدون اخلاص ساقط المعني ليس منه شي ء في حساب الشعور. و كذلك استنبه القرآن الحاسة في منطقة القلب بكلمة (أقم)،


بأنه لا يقبل الا شعورا صادقا و قصدا ثابتا، اجتمعت فيه أهداف النفس من مناحيها الي نوازع القلب من جهاته، فكان الشعور في حدود النفس و كانت النفس في حدوده، و بذلك يكون هذا الأمر (أقم وجهك) للمسلم كالسلاح الراصد لا تمر به طالعة الا بحساب،و لا تجيش به خالجة الا بتقدير، فهو كالقلعة الحصينة تبدو قوية فيما ظهر منها، لأنها آمنة فيما خفي منها. و في هذا تنبيه علي أن لب الاسلام هو الاحسان بمعني الاتقان (أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك).

و اذا كنت في كل أمرك بين حالتين، ليس أرهب من الأولي الا الثانية، و ليس أرهب من الثانية الا الاولي، فلابد أن تكون كمن يحمل محكمته معه بقانونها و قضاوتها، لا يفرط منه شي ء لأنه لا مناص من أن يدين نفسه و يسلمها بالجرم المشهود؛ و بهذا يكون الاسلام بما سيطر به علي الضمير، قد أقام علي كل مسلم جنديا يكون دائما منه بمرأي و مسمع، فلا الجندي يغفل عنه فيسبح مع هواه، و لا هو يفكر بأن يغفل عن الجندي، فينتهب اللذات المطلقة، و لو في حساب نفسه انه قد غفل عنه.

ثم هذا الدين برسومه و طرائقه، ليس الا الفطرة في أوضاعها و طرائقها، فلم يكن ثقلا من الثقل أو اصرا من الاصر، بل جاء من روح الفطرة لارشادها، و اشتق من الفطرة طبيعتها ليصيب فيها قابلية فتنبت به و تنمو علي نميره، و كان في أعظم ما جاء به الاسلام كلمات ثلاث: الايمان، و الاحسان، و التقوي.

فبالايمان يثبت احساس القلب في القلب، و بالاحسان يحط في المرء خطة الضمير و الوجدان، و بالتقوي يتمم فيه أعمال الفضيلة، حتي يجي ء انسانا مثاليا. فان التقوي ذات متعلقين، احدهما بين العبد و ربه، و الآخر بين العبد و أخيه. فما لم يوضعا معا يرفعا معا؛ و لذلك وصفه الله و أصدق به وصفا بأنه (الدين القيم) و جاءت هذه الصفة في الآية كأنها معللة ب (فطرة الله التي فطر الناس عليها) و من ثم نقف علي سر جديد في الآية و هو أن القرآن يجعل مقياسا لتقويم الشرائع و القوانين و التعاليم، مواقتها للنواميس الطبيعية و حكايتها لها. فاذا جانبتها


أو نبت عنها و لو من بعض الوجوه، فليست بالدين القيم و ليست بالشريعة التامة الموزونة. و هي حقيقة نبيلة جدا بالغ بالجهر بها في العصور الحديثة كل المتشرعين من مثل (بنتام). و أول معلن لها المتشرع النظامي (مونتيسكيو) في كتابه: اصول النواميس و الشرائع، و كان النبي محمد (ص) قد سبقه اليها فيما ابتعث به من الكتاب.

و كان أتم وصف لهذا الدين، أنه القيم من كل وجوهه، فهو قيم بحاجات الفرد و قيم بحاجات الجماعة، و قيم بالصلات الروحية بين السماء و الارض. فقد نظم العلاقات الوجدانية بين الناس، و رتب العلاقات الروحية بين الانسان و ربه في كل الحالات؛ و أعجب ما في الآية وصف الدين بأنه قيم، هذا اللفظ الذي من معناه انه يأخذ ما يأخذ بمقدار، و يترك ما يترك بمقدار، فلا تفريط فيما يجمل، و لا افراط فيما يلزم.

فجاء بهذا كالقانون الذي في جملة مواده ما يجعل عليه قانونا يحكمه بطبيعته القانونية. وب ذلك يثبت ثبوت النظام في الطبيعة العامة القائم علي الجذب و الدفع، فأي شي ء في الطبيعة انما يكون له نظامه و يثبت عليه، بين هذين العاملين المتعاكسين.

فالقانون لا يكون شريعة الا اذا كان فيه ما يحكمه أو كان فيه قانونه، و الا فهو مطية الجور و وسيلة الأثر و الغلبة و الاستمكان. فأظلم العالمين يعمل بقانون، و لكنه قانون من طبيعة نفسه الظالمة، و كان ظالما لأنه يحكمه بنفسه و هو يحكم به الناس، فلم يكن مرجع القانون حكمة القانون و لكن فطرة الشر.

فالاسلام جمع للمسلم قلبه و عقله ليعملا معا، فهما في واجبات لا يختلف اعتبارها، يصدران عنها ليعودا اليها، و لا يفترقان؛ هذا في العاطفة، و هذا في الفكرة، الا ليتمم كل منهما علي الآخر ما لا يتم به وحده. فالمسلم الضعيفهما أو الضعيف أحدهما، كالمريض الذي لا يكون حيا كما تشاء الحياة، و لا ميتا كما يشاء الموت، ففيه من الموت علي مقدار المرض، و فيه من الحياة علي مقدار المقاومة.


فالمريض ميدان لمعركة قوية بين الحياة و الموت، تمتد فيه أسبابهما حتي يتمدد فيه احدهما. و غاية الاسلام أن يجعل المسلم ينبوع نور لا جسما نيرا فقط؛ فاذا كنت مضيئا، و لم يكن لك ما تعكس به ضياء في الآخرين، فأنت مسلم دون سمو الاسلام و دون غايته. و نسبتك اليه كالطفل فيه مقدار من الحياة في مقدار من النفع لا يجاوزه، فاذا استوت فيه الحياة دفعت بالنفع الي الخارج و هو علي استعداد ليزيد، و دفعت بالنفعية الي الداخل و هي علي استعداد لتبيد. فيكون للجميع بعد أن كان لنفسه، و ينظر في ذاته فيري معني جميعا مشتركا، كما ورد في بعض الآثار (انا لله، و الله للجميع).

و في الآية بشري و نبوءة بأن الاسلام سيكون الدين العام للبشرية، علي اختلافها في الجنس و اللغة و الانفطار و الموضع. و ذلك اليوم، في نظر القرآن، يوم يستوي العلم علي أكمل وجوهه، و يقوم علي أسس من عنصرية الصلب و وضوح الحق، لا علي أسس من طبيعة المبالغة و التفاف الباطل.

و بلوغ لعلم هذا المنتهي السامي، و استقراره علي قاعدة ثابتة لم يعد بعيدا، فان الغاية تكاد تتنور من بين سجوف المستقبل القريب. و في اليوم الذي يمحص العلم ما أضيف و حمل عليه، و ثبت ثبوت الحقائق بحكم أن الحقيقة قد تلتبس فتخفي، يؤذن للعالم أن يسمع كلمة الله في الاسلام و أن يري نور الله في القرآن.

و ان التسامي الصحيح لا يكون بالحقائق وحدها، بل لابد من تزاوجها. فان التزاوج يرتفع بها عن دائرة القيود و الحدود، و يدخل عليها معني آخر هو سر سموها. و ذلك اليوم برزخ تلتقي فيه الحقيقة العلمية بالحقيقة الدينية، فيمتزجان متزاج عنصري الماء حتي يقد ما العذب الفرات. و تأمل هذه الاشارة في قول الله تعالي: (و لكن اكثر الناس لا يعلمون).

و هذه الآية تقرر، بالتلميح البياني، أن الاسلام دين العلم؛ فاذا جاء يوم العلم، فذلك يوم الاسلام أيضا. و من طبيعة التكامل الانساني أن يأخذ في ارتقاء، و لا يرتد في اندحار، و ان عراه ما يبطئه أو يوقه أحيانا، فان ذلك من


معاني ارتقائه. و انما يجي ء بطؤه من تبعيد الحوائل، و وقوفه من مقاومتها. و سنته أن يطرد صعدا حتي يبلغ جوز الغاية أو (سدرة المنتهي) التي هي في الاسلام عنوان ارتقاء الانسان، و ان أول انسان بلغها هو آخر انسان يبلغها. و تكون فائدة بلوغ ذلك الانسان وحده، انها خرجت من حيز ما يمتنع و ثبتت في حيز الامكان. ثم يتسامي الناس دونها كأنها الرقم القياسي، لا يستبقون عليه و انما يستبقون أمامه و من بين يديه.

و العلم لابد أنه بالغ هذه النهاية العظمي التي يجد أن الاسلام قد سبقه [8] اليها. و الاسلام استطاع أن يسجل لنفسه رقما فوق القياسي في سرعة الانتشار و (أكثر الناس لا يعلمون)، فاذا جاء اليوم الذي فيه تسقط (لا)، و يقوم الاثبات في مقام النفي، (يأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون). و الخلاصة في كلمات:

الاسلام دين الفطرة، و لا تبديل لخلق الله.

و دين الطبيعة، و لا انفصام في حدود الطبيعة.

و دين الحيقة، و لبس وراء الحقيقة الا الباطل.

المسلم القرآني هو القرآن في انسان، كما قال اميرالمؤمنين علي (ع) (ذاك القران الصامت، و أنا القرآن الناطق)، أو هو الجانب الآخر العملي منه. فكما يكون المثال علي القاعدة كاشفا للغرض في القاعدة أو من تمام معناها، كذلك المسلم القرآني يكشف الغرض في القرآن أو من تمام معناه.

و لقد قدم النبي (ص) في نفسه نموذجا للمسلم الكامل علي التاريخ الاسلام


(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، ثم طبع أصحابه علي غراره، فجاءوا كما لو مروا تحت الطابع [9] الواحد. لا يتفاوتون في أنهم معاني مجسمة له، و فيهم الشاهد منه. و اذا تفاوتوا فبأشياء أخري تمت الي الطبيعة و العنصر، كالكتاب يجي ء في أصناف من الورق و ألوان من الورق و ألوان من الحبر، و لكنه الكتاب نفسه لا اختلاف فيه و لا عليه. و لقد جاء في كلام النبوة (الناس معادن).

و بهذا أنبه النبي (ص) الي أن الاسلام لا يبدل في الطبيعة و لكن يوجهها، و لا يعمل فيها عمل التغيير و انما يعتملها اعتمال الاخراج و التحوير.

و الآن نقدم صورة من المسلم الكامل في شخص الحسين (ع) الذي جاء راموزا صحيحا صادقا عن النبي (ص) فيه من معناه و فيه من طبيعته، و بالثانية فوز علي النظراء و ظل نسيج وحده. اذ تم له أن يكون من رسول الله، كما يكون رسول الله من نفسه، فكان ينبعث من حدود الدين و حدود الطبيعة التي تشعر بالدين و معناه شعوريا ذاتيا كأنه شي ء منها، أو بعض من عناصرها، و لقد اكتست هذه الطبيعة النيرة بهالة جعلت لصاحبها لونا ينفرد، و شكلا لا يشبهه الا الا هو، و لا يجي ء الا فيه، كضوء الشمس لا يأتي الا من الشمس مهما تشكل به الضوء و تصنع عليه.

و حيث كان الدين للحسين (ع) فطرة امتدت بها اسباب الخلق، ثبت علي قاعدته ثبات الصلب في الصلب لا الجدر علي القواعد، فلا تميل عنه الا اذا مال معها؛ و ميله معها استقامته و استقامتها، فان الميل نسبة علي مقدار الانفصال و الابتعاد. و بذلك اجتمعت فيه عوامل ثلاثة كلها تقتضيه أن يشعر بالمثل العليا شعورا واحدا لا يختلف عنده املاؤها. فهو فيما تعاطيه الجبلة في مثل ما تعاطيه البيئة في مثل ما يعاطيه الدين، فكانت مشاعره تجتمع علي شأن و تفترق عن شأن؛ و هي، في حال اجتماعها و افتراقها، كحال افتراقها و اجتماعها، مشاعر متواصلة متواردة، ترتفع جميعا و تقع جميعا. و من ثم كان شعورها بالمعاني السامية شعورا من


ثلاث جهات، يصل حين يصل مكبرا و واضحا، كما لو يكون في سمت العين في أقرب حدود الابصار.

فهو يري الاشياء علي ما هي، كأنها من جوهر نفسه في معرض للحائق، فلا تصل الي قلبه ملبسة أو مزورة و لا مدخولة أو متفاوتة، بل تنثال اليه في أثوابها كما جاء بها الواقع و اقتضاها الطبع، و كذلك هم أصحاب المشاعر المرهفة الذين تستيقظ حواسهم لاهتزاز الحق و الباطل؛ ذلك الاهتزاز الذي يعلن عن الحق أنه حق، و عن الباطل أنه كذلك، فان للحق و للباطل في قلوب المصطفين هزات تعلنها بمعناها، كما يكون للشحنة الكهربائية. فلا يلتبس عليهم و الناس من أمرهم في التباس، و لا يزلون و الناس من حياتهم في زلل، بل يسددون أو يقاربون، كما رجا النبي (ص) للمؤمن أن يكون.

و قد رأينا الحسين (ع) في سنة لم يتحيفها شي ء من زعازع الباطل أو مغريات الدنيا في الجانب اللاهي الفاتن، بل ظل هداه بين مأثره السنة و هدي القرآن، لا يتنكب في ظاهر منه أو باطن، و كان في تقيده و تحرزه كأنما جاء به القرآن شاهدا أو مثالا بريكه علي ما هو و فوق ما هو، من حيث يكون الشاخص أكثر أخذا، و أذهب في أسر النفوس كل مذهب.

و من هنا كانت الشريعة السماوية في حاجة الي الرسول الانساني الذي هو نموذج لها، و بذلك يتم الهدي و البيان بين كلمة الله و راموزها الصالح. فان الحس في حاجة الي الحسن، و الطبيعة في حاجة الي الطبيعة، و السيطرة علي المثل انما تكون بالمثل؛ و التفاعل في حدود المادة لا يتم الا بعناصرها علي مفارقة في الخاصية (و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا).

و النموذج الالهي لا يكون الا واحدا فقط يجي ء مع الشريعة، حتي اذا أعطي أثره وارثه. ترك له نماذج كثيرة في كل وجه و من كل طية، يستوون علي انهم نماذج رسولية لا يتم الأثر الديني الصحيح الا بوجودهم، فهم في حاجة كل عصر لأنهم من تمام صلاحه و هدايته. و علي هذا التصور بني أرباب الاشارات الذين


استعلوا علي الرسوم ملحظهم في الوارث المحمدي، والحاجة اليه في كل جيل.

و أبوعبدالله الحسين (ع) سيد الوارثين، ما في ذلك ريب، فكان في كل عمل من عمل الدنيا و الآخرة مثالة بارعة حتي أجمع الحفاظ و الرواة و الاخباريون علي أنه أعاد سنة المصطفي في كل مظاهره و أشكاله، و ساعد به أنه كان أشبه بجده (ص) في لون الشاكلة و مسحة الخلق، و زادت الأسوة في ابراز الشبه و اظهار التماثل. فكان مجلسه مهوي الافئدة و متراوح الاملاك، يشعر الجالس بين يديه أنه ليس في حضرة طفائح بالسكينة، كأن الملائكة تروح فيها و تغدو، و تطيل بها و تقصر حتي يشيع معناها في الجالسين، فيتصورون [10] كأن في حدودهم حظيرة قدس عليا لبناتها أولئك الجالسون، و سرها الناطق ذلكم الانسان الكامل واسطة العقد.



و هذا المشهد يصنع صنعه في كل قلب، مهما نبا به ميله، و داخلته الدنيا و مرت في مثل تلافيفه و احتشت في تضاعيف مساربه. قال [11] معاوية لرجل من قريش: (اذا دخلت مسجد رسول الله (ص) فرأيت حلقة فيها قوم كأن علي رؤوسهم الطير، فتلك حلقة ابي عبدالله مؤتزرا الي أنصاف ساقيه).

كذلك يظهر المعني الحي في محل القداسة علي المؤمنين الذين ينشرون أشعة من سيمائهم تورث الناظر خشية في اطمئنان، و سكونا في دعة، كأنما هم ينظرون الي الأبدية في حدودهم، و يستشفون اللانهاية كأنما عندهم آفاقها، أو كأنما زوت الي قواعدهم. فما أنت بناظر جماعة في مواضع من المعبد في معالم من الارض، بل يتداركك حين تنظر كأن الملأ الأعلي تجسم و انتشر في أشخاص استعلي بهم أو اعتلوا به فوق دنيا الناس (ما اجتمع قوم علي ذكر الله الا حفت بهم الملائكة


و غشيهم الروح و ذكرهم الله فيمن عنده) و في رواية (في ملأ عنده).

قد تكون كلمة ساذجة طفح بشعورها قلب ساذج، لو من غير معاوية الملك الذي كان يجمع أسباب السيطرة و الرهبة و القنفخرية علي نفسه جميعا ليظهر بكل ذلك غير تارك منها الا ما يزيده في مظهر الجبروت قوة.

و أما هي من معاوية نفسه فانها ذات وجه آخر بمعان أخري، فقد نظر الي الحسين من جانبه الذي انزوت اليه الدنيا بعظائمها، و توافرت لديه أشياؤها حتي بدا كأنما انجمعت الدنيا في ناحية مكانه.

و هذا ما يجعل للكلمة قيمة أخري، فان معاوية لم تحل به أبهات الملك عن أن يري المعني الالهي في الحسين (ع) بما له من رهبات، تزع النفس الانسانية الجامحة و تردها ردا عنيفا الي حدود عبوديتها، حتي تبصر ما تلبس به بطلا من الباطل و آلا من الآل، فتظل مشدوهة مأخوذة كالذي يكون مع خاطرة أو فكرة. ثم تنقلب قوتها التي اشتقت من طبيعة المبالغة، ضعفا فيه طبيعة المبالغة، فكان معاوية ينظر الي نفسه بما أحاطها به من أشياء الدنيا، و الي الحسين (ع) بما أحاطته به الحقيقة العظمي من أشيائها، فيري نسبة كما بين العدم و الوجود، ثم ينظر فيري في الوجهة المقابلة منبعث النور الذي يعشي فيبهر، و في الوجهة الأخري متراكم الظلال و مختلط الأشباح و الأوهام.

و هذه ساعة تستيقظ فيها النفس الي حقيقتها، فتري كل شي ء علي حقيقته، و نعما هي كلمة معاوية في لوة سما بها علي دنياه بما جمعت.

و كان الحسين (ع) اذا برز للناس يتحلقون بين يديه صفا بعد صف حتي يذهب فيهم البصر، و يقعون عليه وقوع الطير في اليوم الحرور علي ثمد يتبرد به و يتصابه. و كأنهم بذلك يهربون و لو ساعة من اسر الشهوات و عبودية أنفسهم، ليقولوا كلمة الايمان خالصة بها قلوبهم، كما كان يعبر الصحابة حينما يعوجون الي النبي (ص) «هيا بنا نؤمن بربنا ساعة». قال ابن كثير [12] ان الحسين خرج و ابن


الزبير من المدينة الي مكة و أقاما بها. عكف الناس علي الحسين يفدون اليه و يقدمون عليه و يجلسون حواليه و يستمعون كلامه و ينتفعون بما يسمع منه و يضبطون ما يروون عنه).

و الذي ينبغي ان لا يفوتنا في هذا الخبر، التعبير بكلمة (عكف) و هي تفيد في كل مشتقاتها معني التعلق و الانقطاع. فما كنت بواجد الا الحسين (ع) رجلا علقه كل الناس عرضا، كأنما هم من ناحية الدنيا يشهدون فيه حقيقة اخري من عالم الابداع الالهي. فهو اذا نطق كأنما انطلق لسان الغيب يعبر عن رموزه و يكشف عن خفاياه، و اذا قسمت كأنما راح الغيب يعبر عن معناه بطريقة اخري بلحن آخر، فان من الحقائق ما لا يعبر عنه الا الصمت العميق، كالنقطة في ثنايا السطور فانها تعطي معني لا يقوم الا بها، و لا يتم الا اذا كانت، و هي بعد اشارة سلبية و لكنها تدل علي غرض ايجابي، أو كقرار النغمة الصامت فانه جزء من تمام اللحن الناطق.

و في الخبر صورة كاملة لمقام الحسين، في زمن لم ينتف من طغيان السلطة و تحامل المتغلب، و لكن أني للقوة أن تحول بين الانسان و قلبه، أو بينه و بين ما هو من ضميره، فان القوة لا تعمل الا في حدودها، و لا تجد مضاءها الا في ملابساتها، و هي كيفما امتدت بأسبابها فانها لا تحيك في مواطن الشعور. و الخبر بعد ذلك يعرفنا بأن الحسين (ع) كان مكثرا من الحديث و الرواية، و لم يكن كما تشاء بعض كتب الأخبار تصويره بأنه كان مقلا نزر الآثار، و من الجدير أن نثبت في حديثنا عن مجلسه طرفا من مروياته. أخرج ابن ماجه و أبويعلي عن الحسين (ع): قال سمعت رسول الله (ص) يقول (ما من مسلم تصيبه مصيبة و ان قدم عهدها فيحدث لها استرجاعا الا أعطاه الله ثواب ذلك).

و روي الامام أحمد في مسنده [13] عن ربيعة بن شيبان، قال: قلت للحسين بن


علي (ض) ما تعقل عن رسول الله (ص)، قال: صعدت غرفة فأخذت ثمرة فلكتها في في، فقال النبي (ص): ألقها فانها لا تحل لنا الصدقة.

و عن فاطمة بنت الحسين عن ابيها قال: قال رسول الله (ص): للسائل حق و ان جاء علي فرس.

و عن شعيب بن خالد عن حسين بن علي قال: قال [14] رسول الله (ص) ان من حسن اسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه. (و في رواية) تركه ما لا يعنيه.

و عن سنان بن ابي سنان الدؤلي عن حسين (ع) عن النبي (ص) قال اختلفتم و أنا بين اظهركم فأنتم بعدي أشد اختلافا.

و من أهم أحاديثه المروية عنه حديثه [15] في صفة النبي (ص) قال الحسين بن علي سألت أبي عن سيرة رسول الله (ص) في جلسائه فقال كان رسول الله (ص) دائم البشر سهل الخلق، لين الجانب ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا عياب و لا مشاح، يتغافل عما لا يشتهي و لا يؤيس منه و لا يخيب فيه، و قد ترك نفسه من ثلاث: المراء و الاكبار و ما لا يعنيه، و ترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا و لا يعيبه و لا يطلب عورته و لا يتكلم الا فيما رجا ثوابه، و اذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما علي رؤوسهم الطير، فاذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث و من تكلم عنده انصتوا له حتي يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، و يتعجب مما يتعجبون، و يصبر علي الغريب علي الجفوة في منطقه و مسألته حتي أن أصحابه ليستجلبونهم، و يقول اذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفدوه، و لا يقبل الثناء الا من مكافي ء، و لا يقطع علي احد حديثه حتي يجرر، فيقطعه بنهي أو قيام.

و نحن فيما اتسق لدينا من الاخبار عن الحسين (ع) و صفته، نري كيف


كان يتحزم علي نفسه بكل مظاهر القدوة الصالحة، بحيث لا يعدو أن يكون مثالا نبويا في حدوده و من شتي أقطاره.

و لقد انصرف بكل نفسه عن الدنيا و ما اليها، قال [16] زين العابدين (ع) لمن قال له: ما كان أقل ولد ابيك!.. العجب كيف ولدت كان لا يفتر عن الصلاة في ليل أو نهار فمتي كان يتفرغ للنساء؟...

فهذا المتحنث المتأله في تأمله و اطراقه، و تحركه و سكونه. هو الذي سنراه مجاهدا مكافحا و مغامرا مستميتا حتي كأنه الاسد لا تنال تلابيبه. فلم يكن يشغله أمر عن أمر، و لا حاجة لله عن حاجة للناس فهو هو الاسد الهصور في فتح [17] افريقية و في غزوة طبرستان [18] و موقعة الجمل و صفين و في فتح [19] القسطنطينية...

دوام الوجود في هذا العالم، ببعض حقائق متلاحقة...

فان النواة حقيقة صغري، تجمع الحقيقة الكبري بكل خصائصها.

فالمسلم القرآني هو الحقيقة الكبري في الاسلام، فهل لنا أن لا تخيس النواة.

في الاسلام انسانية عليا و صوفية اشراقية...

و في الاسلام قوة ماضية، في حدود المبادي ء العادلة...


فيا ايها المسلم انك تحمل لبني الانسان، باليد الواحدة كتابا و باليد الاخري مصباحا، فاعرف كيف تبلغ رسالتك...

وصف النبي نفسه بأنه رحمة مهداة...

و المسلم الكامل مثال نبيل من النبوة الكاملة...

فأنت ايها المسلم رحمة مهداة من السماء الي كل جيل...



پاورقي

[1] لا يذهب بک الانکار کل مذهب فان هذا المعني يمکن ان نستوحيه من الرمز الي العدالة في السلطة القضائية الذي يعطي شکل الميزان، و قديما تعارف الناس علي الکناية بالميزان عن کتب القوانين و الاحکام؛ و قد بسطت الکلام علي هذه في کتاب «مقدمة التفسير» الذي اعني باخراجه.

[2] التربيب بمعني التربية.

[3] کلمة من وضعنا الجديد، ترجمة «کلوب» و الملحظ في الوضع المضي‏ء بنفسه، و له عندنا وضع آخر و هو «نوير» و الملحظ فيه المضي‏ء بالحقن لان فعيل تدل علي قريب منه.

[4] هذا الحديث يراه شراح السنة معضلة، و هم يخبطون في معناه، و الحقيقة انه ملحظ نبوي أبعد ما ما يکون عما فهموا و أدق کثيرا، و قد اشرنا الي معناه اشارة من بعيد.

[5] کلمة من وضعنا الجديد ترجمة «يوطوبيان» اي خيالي مغرق. و لا يعرف الانجليز لها اصلا سوي ان السير مور تخيل جزيرة أطلق عليها هذا الاسم و تخيل ما شاء فيها من نظم اجتماعية نبيلة و عادات و تقاليد فرضها لي اسمي ما يحلم به. فجرت وصفا لکل من يفکر بأفکار من هذا القبيل. و نحن نقدر ان تکون سامية، فان کلمة (طوبي) جاءت بمعني الجنة في العربية و دخلت الاجنبية عن طريق العبرية. و الکلمة الجديدة من قول العرب افتحر القول و الرأي أتي به غريبا جدا و لم يتابعه عليه احد. راجع کتاب مقدمة لدرس لغة العرب ص 131.

[6] اللغويون اکثر ما يکونون اختلافا في هذه المادة و بالأخص منها المشتق (حنيف) و الذي يدل علي عدم استثباتهم منها اختلافهم في معني المادة نفسها، و بالجملة فالحنيف في جملة معانيه المخلص أو الذي أسلم لله فلم يلتو في شي‏ء من الاسلام؛ و هذان المعنيان اجتهاديان بلا ريب، و عندي انها لفظة کهنوتية انتقلت الي الاسلام لافادة نفس المعني الديني فيها بدليل انها في هذه الصيغة فقط تبدو ابعد ما تکون عن معني المادة. و قد احتفظت بصيغتها في کل ما استعملت فيه لافادة المعني الديني. و اذا اريد نقلها الي اسم المعني نسب اليها فقط و لم يعمد الي الاشتقاق؛ و هذه ظاهرة تحققنا من انها تکون في الکلمات التي تشبه مادة و لا ترجع اليها. و لنا علي هذا شواهد لا يتسع بنا التعليق لا ثباتها. و تبسطنا بهذا البحث في کتاب مقدمة التفسير في بحث الالفاظ. و قد اوضحناها في الحلقة الثانية: «تاريخ الحسين: نقد و تحليل».

[7] و ليس کما توهم الزمخشري و امثاله من ان المراد بالوجه الجارحة، فانهم بذلک اضاعوا من لفظ القرآن معناه و من معناه اعجازه.

[8] اول من اعطي هذا المعني بصورة رمزية مثالية الشيخ الاکبر محيي الدين بن العربي في الاسراء و المعراج حين تخيل روحي فيلسوف و صوفي قاما برحلة و مطاف طويل تخلف الفيلسوف في أثنائه و طوي الصوفي اللانهايات وحده بسر المعني، ثم التقيا بعد لأي طويل.

[9] کلمة من وضعنا الحديد بمعني الا کليشة.

[10] اي يتشکلون بصورة، و قد ورد بهذا المعني عند الحطيئة:



رأي شبحا وسط الظلام قراعه

فلما رأي ضيفا تصور و اهتما.

[11] راجع التاريخ الکبير لابن‏عساکر ج 4 ص 322.

[12] راجع البداية و النهاية لابن‏کثير في ترجمة الحسين.

[13] ج 1 ص 201.

[14] رواه الحافظ ابن‏عبدالبر في الاستيعاب ج 1.

[15] رواه الترمذي في کتاب الشمائل النبوية.

[16] راجع ابي‏الفدا ج 1، ص 202 و العقد الفريد ج 2.

[17] راجع تاريخ ابن‏خلدون ج 2، ص 128 و 129 و الحلقة الثانية: «تاريخ الحسين: نقد و تحليل».

[18] راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 57 و 58 و تاريخ ابن‏خلدون ج 2، ص 134 و 135.

[19] راجع البداية و النهاية لابن‏کثير في حوادث سنة 49، و الحلقة الثانية: «تاريخ الحسين: نقد وتحليل».