بازگشت

غذي النبوة


نحن من الحسين (ع) في دور نشأنه، أمام النبوة في دور كمالها استوائها؛ فقد ولد و النبي صلي الله عليه و سلم تتسامي به منازله و تتعالي به أبراجه. و بعبارة من صور المنظور، كان النبي كالشعاع قبل الشمس يملأ جانبا من الفضاء، ثم يذر قرنها حتي تتكور في عقابيل الأفق، فتنتظم الأفلاك، و تصل ما بين الافاق بخيوط النور.

في هذا التسامي و هذا السطوع تولي النبي (ص) حسينا، و كان في فطرته الغضة كالعدسة اللاقطة، تحيل ما تقع عليه الي حيقته الاخري في وجوده الآخر.

و في دخلته ارتسم النبي في طبيعته، و النبي في معناه؛ حتي ملأت هذه الصورة شعاب نفسه، فكانت له معني، و كانت له ذاتية؛ و بذلك استحياه في وجدانه و ضميره و سائر جوانب روحه. و انما يكون الايمان علي مقدار ما يثبت في النفس من حياة القدوة، فالقدوة لا يموت و انما يستحيل روحانية ندية في ذات المؤمن الذي يكون مظهرا آخر من حياته.

و من ثم يكون القدوة قد عاش في وجودين، مرة في وجوده، مرة في وجوده نفسه حينما دل


علي الفلاح و هدي اليه، و مرة في وجود المؤمن الذي هو نموذج من الهداية و مثال من الرشاد. و بذلك تم للصحابة ما لم يتم لغيرهم حينما كانوا هياكل توزع فيهم ما كان في الذات النبوية مجموعا. و كانوا في أقرب مثل كالمصابيح الكهربائية تتناول مما وراء المنظور معناها المنظور. و كانت النبوة لهم كقوة الكهرباء تمدهم بالنور و تزودهم بالضياء، مادامت خيوط نفوسهم سليمة لم تصب بانقطاع أو وهن. و الي هذا الاشارة في قول النبي الاعظم صلي الله عليه و سلم: (اصحابي كالنجوم)، و في اضافتهم اليه (ص) سر قداستهم، و وجه الشبه في التشبيه.

و الايمان ولادة ثانية للانسان، يبدأ منها انسانيته، كما بدأ بالولادة الاولي حياته. بين أن اندرج في عداد النوع الي أن استعلي عليه زمن، يكون في حساب الطبيعة، مدة من سيطرة المادة و غلبة البهيمية؛ بيد أن الصفوة من الأبشار أو اللباب تزدوج لهم الولادتان كالحسين (ع)، فكان انسانا حين كان حيا، فلم تسيطر عليه الطبيعة بل سيطر و لم ينقد لأسبابها بل انقادت لأسبابه، فكان طبيعيا أن يشكل صنفا آخر أسمي من مستوي النوع.

و لقد كان النبي (ص) يمده من وراء العاطفة كما يمده من وراء النبوة، و يغمره بالحب و يسقيه من نبعة الشعور؛ حتي يجي ء حقا قدسيا لمعني قدسي، يقدم فيه المثالية العظمي التي ينشدها الانسان بالجد، فلا يخوض منها الا في السراب و الآل. و في ما يقص ابوهريرة شكل من أشكال تخليق النبي (ص) للحسين تخليقا مثاليا مدهشا، قال في حديث له [1] : (ابصرت عيناي هاتان و سمعت اذناي رسول الله


(ص). و هو آخذ بكفي حسين. و قداه علي قدم رسول الله، و هو يقول ترق ترق عين بقة، فرقي الغلام حتي وضع قدميه علي صدر رسول الله، ثم قال رسول الله افتح فاك ثم قبله، ثم قال اللهم أحبه فاني أحبه).

فالنبي (ص) ختم في نفس الغلام، علي ما استودع من معاني نفسه الكبيرة بقبلة ناعمة، ثم حين قال يدعو اللهم أحبه فاني أحبه، كأنه قال للناس مشيرا الي غلامه، أنا هنا.

و الحب لا يكون حبا الا اذا صاحبه الاصطفاء و الاستخلاص، و أما اذا جاء دونهما فانما هو شي ء من طفح العاطفة، فلا تبالي أني وقعت. فالنبي (ص) يحب حسينا حقيقة الحب لأنه مضطفاه، و الله يحبه لأن النبوة تركت به شفقا يعترض الأفق في مفترق الغروب. و بالتعبير بصيغة المضارع المؤكدة في معني الحال، كأنما انفصل النبي (ص) بالحاضر ليقوم منه في برزخ بين الزمانين، و يقول كلمته (اني أحبه) منبها الماضي و مسمعا المستقبل. أو كأنما توجه بوجه صوب الابدية في غير اعتبارات الزمن، ليبعث بها كلمة أثيرية أو موجة شعاعية تمر في كل جيل؛ حتي تستقر في أعماق اللانهاية، و يسمعها من كل قبيل من له في شعوره المرهف جهاز لاقط كالروان [2] الدقيق.

و حب النبي (ص) ليس شيئا كالحب، بل هو شي ء كالمغنطة تترك في الشخص الآخر أسمي معانيها و أبرز ظاهراتها. ثم هي لا تتم الا اذا انتقلت بالخاصة في الشي ء، و جعلت منها خاصة في شيئين. و من ثم لا يكون شاهد الحب كلمة الحب، بل وحدة المعني في وحدة الظواهر في وحدة الوجود،


و علي هذه الوحدات الثلاث استوي (حسين [3] مني و انا من حسين). و في هذا الحديث معني لا أدري كيف أحدده؛ و لكن يجمل بي أن أتعني في فهمه بما أمثل معه لحن النبوة في حروفها. هو لون من البيان يقصد به في كلام العرب، افادة الامتزاج و الاتحاد، و كأنما حيي (ص) من الحسين في مظهرين: مظهر الرجل النبي، و مظهر الرجل المسلم. و له في المظهر الأول شكل من جاء من السماء، و في المظهر الثاني شكل من عاد اليها.

و لقد أتي الحسين (ع) بمقتضي هذه النشأة المباركة انسانا أسمي، و جاء في انسانيته علي وضع أكمل، و لا بدع قد تعهدته يد النبوة و رعته عين الله.

روي ابوهريرة [4] : (ان الحسن و الحسين كانا عند رسول الله و قد امسيا، فقال لهما اذهبا الي امكما، قال فهابا ان يذهبا فبرقت برقة فمشيا علي ضوئها حتي اتيا أمهما).

فالحسين (ع) ابن القوات الروحية، فهي تمتد اليه بآثارها فتبدو في ملابسات المادة غريبة شاذة، بيد أنها في المنطقة الأخري: منطقة القوي، لا تعدو أن تكون ظاهرة عادية علي درجة كبري.



پاورقي

[1] ذکر هذا الحديث ابوعمر ابن‏عبدالبر القرطبي في الاستيعاب. و قوله «ترق ترق عين بقة» کلمة کروح الطفولة طراوة و خفة و ملاحة مرحة، و هي کناية عن صغير الجثة کأنه عين البعوضة صغرا. و ساق ابن‏الصباغ في الفصول المهمة ص 177 من طريق البراء بن عازب حديثا بمعناه قال: رأيت رسول الله (ص) حامل الحسين بن علي عاتقه و هو يقول: اللهم اني احبه فأحبه. و روي الترمذي في مناقبهما من سننه، و البغوي في مناقب اهل البيت من مصابيح السنة کلاهما عن اسامة بن زيد قال: طرقت النبي (ص) ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج النبي و هو مشتمل علي شي‏ء لا ادري ما هو، فلما فرغت من حاجتي قلت ما هذا الذي انت مشتمل عليه؟ فکشف فاذا حسن و حسين علي و رکيه فقال هذان ابناي و ابنا ابنتي اللهم اني احبهما فأحبهما و أحب من يحبهما.

[2] کلمة من وضعنا الجديد بمعني «الراديو» و هي من مادة «رون» التي من معانيها الصوت و صيغة فعال بفتح الفاء تدل علي ما يصير بنفسه و عليه فالمفهوم من هذا الوضع المصوت بنفسه و هو وضع موافق و ان کان ليس ترجمة للملحظ في الاسم الاجنبي فان «راديو» ينظر في معناه الي الموجة الشعاعية. و قد ترجمناه بکلمة تعطي هذا المعني و هي «شعاع» بکسر الشين لأن صيغة فعال تفيد الالتقاط.

[3] هذه فقرة من حديث أخرجه ابن‏ماجة في السنن و ابن‏عساکر ي التاريخ و أبوالحسن الاربلي في کشف الغمة. کلهم عن يعلي بن مرة العامري انه خرج مع رسول الله (ص) الي طعام دعوا له فاذا حسين في السکة مع غلمان يلعب فتقدم رسول الله (ص) أمام القوم و بسط يديه فجعل الغلام يفر هاهنا و هاهنا و جعل رسول الله يضاحکه حتي أخذه فوضع احدي يديه تحت قفاه و الأخري تحت ذقنه و قبله و قال حسين مني و أنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط.

[4] ذکر ابن‏عساکر في التاريخ ج 4 ص 316 و 317 رواية هذا الحديث عن البخاري و رواه الدراقطني بلفظ ان الحسين کان عند النبي (ص) و کان يحبه حبا شديدا؛ و رواه البغوي.