بازگشت

من يزيد؟


لنفهم مصرع الحسين (ع) يلزمنا أن نعرف من يزيد؟.

و ان أهم ما يلزمنا أن نعرف هنا من أمر يزيد ناحيتان: نشأته المسيحية أو بالاحري التي كانت أقرب الي المسيحية، و عقليته التي كانت في نظري غيبية جدا، و تبعد كثيرا عن العقلية الواقعية العملية التي امتاز بها ابوه.

(1)يبدو مستغربا، بادي ء ذي بدء، أن نعرف ان يزيد نشأ نشأة مسيحية تبعد كثيرا عن عرف الاسلام، و تزيد بالقاري ء الدهشة الي حد الانكار. و لكن لا يبقي في الامر ما يدعو الي الدهشة اذا علمنا أن يزيد يرجع بالامومة الي بني كلب، هذه القبيلة التي كانت تدين بالمسيحية قبل الاسلام، و من بديهيات علم الاجتماع أن انسلاخ شعب كبير من عقائده يستغرق زمنا طويلا، بين معاودات نفسية و رجعات ضمير و ذكريات وجدانية؛ و بالاخص اذا كانت عقيدة سيطرت علي الافكار و العادات و العرف العام.


و التاريخ يحدثنا أن يزيد نشأ فيها الي طور الشباب أو حتي جاوز طور الطفولة. و معني هذا أنه أمضي الدور الذي هو محط أنظار المربين و عنايتهم، و بذلك ثبت علي لون من التربية النابية تمازجها خشونة البادية و جفاء الطبع. علي أن طائفة من المؤرخين [1] ترجح و لا يبعد أن يكون صحيحا، أن من أساتذة يزيد بعض نساطرة الشام من مشارقة النصاري، و ربما شهد لهذا التقدير ما جاء تاريخ الشام لابن عساكر (من أن يزيد كان يعرف طرفا من الهندسة) هذا الفن الذي كان مجهولا من العرب. مما يضعنا أمام الأمر الواقع الذي يتسق تفسيره في علي هذا الوجه. و لا يخفي ما يكون لهذه التربية من أثر سي ء فيمن سيكون ولي أمر المسلمين.

و هذه التربية تصحح الرواية الادبية القائلة بأن يزيد أراد كعب بن جعيل علي هجاء الانصار. فاستأبي عليه تأثما لمقامهم الديني ودله علي الاخطل التغلبي الشاعر النصراني، و من ثم اطردت الصداقة بينهما. و نحن نشك في صحة هذه الرواية و نعزو الاتصال بينهما الي مكان التربية عند يزيد، فقد كان يتزيد في تقريب المسيحيين و يستكثر منهم في بطانته الخاصة، لما انه يقع بينهم علي من يمتزج به و ينسجم معه (علي ما يقولون). و لقد اطمأن اليهم حتي عهد بتربية ابنه الي مسيحي علي ما لا اختلاف فيه بين المؤرخين. و لا يمكن أن نعلل هذه الصلة الوثيقة و التعلق الشديد بالأخطل و غيره الا الي مكان التربية ذات الصغة الخاصة و اللون النابي.

اذا كان يقينا أو يشبه اليقين، أن تربية يزيد لم تكن اسلامية خالصة أو بعبارة أخري كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزا مستهترا مستخفا بما عليه الجماعة الاسلامية، لا يحسب لتقاليدها و اعتقاداتها أي حساب و لا يقيم لها وزنا، بل الذي يستغرب أن يكون علي غير ذلك.

لذلك أعتمد رواية اليعقوبي المحققة (من أن يزيد أمر ابن زياد بقتل الحسين (ع)، و أشك في غيرها، و أميل الي أنها تنصل من يزيد لما رأي عظم ما جنت يداه،


و انما اعتمدها [2] المؤرخون المعتدلون تخفيفا لحمي المأساة. و اعتمد ما رواه جماعة من المؤرخين أيضا من أن يزيد أمر القوة العتربية بمغادرة البلاد الرونانية كقبرص. في مقابل مبالغ من المال. و في هذا تآمر بالحكومة و الامة و الدين، يفسر لنا السر في التألب علي يزيد دائما.

(2)من الجدير أن نصرف أن يزيد يتجه في استعداده العقلي وجهة غيبية، و يبعد كثيرا عن العقلية الواقعية التي تقيس الحقائق بما يلابسها، و لا تنتقي من علائق الواقع و حدود الراهن. و الذي يدلنا علي محل هذا الاستعداد عنده واقعة ذكرها المؤرخون، و هي فيما اثبتوا.

ان معاوية قال يوما لجلسائه: ما أعجب الأشياء؟

فقال يزيد: أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء و الارض لا يدعمه شي ء من تحته و لا هو منوط بشي ء من فوقه.

و قال آخر: حظ يناله جاهل، و حرمان يناله عاقل.

و قال ثالث: أعجب الأشياء ما لم ير مثله.

و قال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء أن يغالب المبطل المحق (يعرض بعلي و غلبة معاوية).

فقال معاوية: بل أعجب الاشياء أن يعطي الانسان ما لا يستحق اذا كان لا يخاف (يعرض بمصر التي أخذها عمرو دون ما عناء و لا تعب).

نري في جوابه لونا من الانصراف الي القضايا الفلسفية، و تعلقا بالتأمل التجريدي شأن العقلية الاسيوية التي تمتاز بهذه الظاهرة و لها بروز و تسيطر شديدان. و لا عجب اذا اتخذنا هذه الواقعة دليلا علي محل هذا الاستعداد عند يزيد، فانها بادرة و خاطرة و دائما تكون البادرات معبرة عن اتجاه التفكير و سير التعقل.


و انما نري هذه الظاهرة جديرة بالتحري و مهمة في نوع ما نأخذ به، من حيث انها تعلل لنا امرين:

(1)استهتار يزيد و اسرافه في الاستهتار، و امعانه في الفحشاء، رغم صبغة الوسط الدينية التي كانت جديرة أن تضع له حدا لمباذله و استهتاره؛ و لكن مما لا يحتاج الي اثبات أن من مستتبعات العقلية الغيبية الاغراق في أي اتجاه انصرفت اليه. و هذه ظاهرة في حياة العرب أو الاسيويين عموما، فهم اذا صلحوا أغرقوا، و اذا تبذلوا تناهوا.

(2)الخطأ و التصلب له، فان في حياة يزيد سلسلة من الأخطاء؛ و انما تعلل بمكان هذه العقلية. فان من صفاتها الاعتماد علي الاستنتاج دون الاستقراء، لذلك يكون صاحبها عرضة للخطأ المستمر و التعلق بالخواطر و امعانا في امضائها.

فقد كان من الاخطاء الجسيمة اذا أن يرشحه معاوية لولاية العهد من بعده؛ و هو يعرف من تناقض حاله مع حالة الوسط؛ و مهما حسنا النية بمحاولته هذه، فاننا لا نستطيع الا أن نأخذ بخطئه الذي أتاه عن عمد و قصد و هو يعلم نتائجه. و لعل هذه اكبر أخطاء معاوية.

و من حق التاريخ علينا أن نسجل علي معاوية خطأين كبيرين:

(1)امعانه بمغالبة علي (ع) حتي ارتكب ما لا يغتفره الاسلام من دفع الجزية الي ملك الروم، و لو كان حقيقة يطلب دم عثمان، و هي حادثة قضائية بحتة، لما سخر نفسه رغم هذا، لا دامة الصراع.

(2)عهده بالامر من بعده الي يزيد، و هو ينكر منه أكثر مما يعرف.

و نحن في هذه العجالة لا نعني بأن نعطي رأيا في معاوية، فقد كفانا و كفي كل دارس حفيده معاوية، مؤونة الرأي و قطع الحكم.



پاورقي

[1] منهم الاب لامنس في کتاب (معاوية) و کتاب يزيد.

[2] راجع تاريخ الامم و الملوک لابن‏جرير و الکامل لابن‏الاثير فقد ذکر ان يزيد سر بقتل الحسين (ع)، و وصل ابن‏زياد، ثم لم يلبث الا يسيرا حتي بلغه بغض الناس له و لعنهم؛ فندم.