بازگشت

اسباب فشل سياسة علي و نجاح السياسة المعادية


أري أن السبب في نجاح سياسة الامويين، لا يرجع الي الاستعداد الخارق و المقدرة الفائقة و اللباقة الممتازة، و فقر السياسة الاخري التي تعمل ضدها من هذه المؤهلات، بل الي أشياء أخري سنجتهد بتمثيلها تحت نظر الدارس.

و الحق انا اذا درسنا سياسة علي (ع) و سياسة معاوية، علي مناهج علوم النفس و السياسة و الاجتماع و القانون، نري عمق سياسة علي و نفوذها و رجاحة خططه و نري أيضا كيف يبني و يهدم تبعا لنظر دقيق و تفكير موفق؛ و انما جاء فشلها من نواح:

(1)ان التربية الدينية لم تشمل العرب علي وجه صحيح، و لم يعن الخلفاء بنشرها علي الطريقة الوجدانية التي اختمرت في نفس ابي ذر (ض) فقام بنشرها مجتهدا؛ و الحق أن العرب تناولوا الاسلام كطقوس يؤدونها و يحاكون في ادائها، و هم لا يبعدون في ممارستها عن ممارسة تقاليدهم الجاهلية. و قد رأينا كيف كان العربي لا يري هذه التقاليد شيئا مذكورا اذا وقفت في سبيل اغراضه. فقد سب امرؤ القيس الهه، و أكل عمر صنم التمر الخ؛ و لم يتناولوا الاسلام كاعتقاد له سيطراته الوجدانية العميقة و تحكماته الضميرية البالغة؛ و لم يؤخذوا برياضة نفسية علي تعاليم


الاسلام المقصودة عليه السلام (رجعنا من الجهاد الاصغر الي الجهاد الاكبر) ليكونوا في النهاية مسلمين بالمعني القرآني الذي عبر عنه أميرالمؤمنين (ع) بقوله (عظم الخالق في أنفسهم فصغر مادونه في أعينهم) و قد عرف بالدعوة اليها أفراد من مثل ابي ذر و معاذ بن جبل و رافع بن خديج.

هذا سبب في ضعف التربية الدينة؛ و سبب آخر هو قيام الاسلام علي أن يأخذ شكلا دوليا الي جانب كونه دين مبادي ء و قوانين. و أعني بها أن الاسلام قام دينا تبشيريا، و انتهي دينا له طابع الدولة؛ و لذا كان السابقون من المسلمين مؤمنين بالمعني الصحيح؛ مؤمنين علي معني وجود الروح الدينية القوية. و أما أولئك الناؤون في أطراف الجزيرة، و الذين ضمهم الاسلام بسلطانه، فقد كانوا مسلمين علي معني الطقوس، و لم يتضلعوا من الايمان. هذا التعبير النبوي البالغ حد الاعجاز؛ و لذا جعل القرآن فرقا بين الايمان و الاسلام. قال تعالي: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الايمان في قلوبكم) و ان ما نقرر من تفاوت الصحابة في أطوار العقيدة، هو ما قرره القرآن بالذات فلا يقع موقعا عجبا، و اتل قوله تعالي: (الأعراب أشد كفرا و نفاقا و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله و الله عليم حكيم. و من الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما و يتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء و الله سميع عليم. و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول الا أنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ان الله غفور رحيم. و السابقون الاولون من المهاجرين و الانصار الذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).

هذه الآيات واضحة فيما نقول، و أوضح ما تكون في أن الصحابة يتفاوتون تفاوتا يشمل أساس الايمان. تأمل جيدا التعبير في جانب الاعراب (و أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله) العلم الفهم و المعرفة. و تأمل جيدا التعبير في جانب الطائفة الاخري من الاعراب (و من الاعراب من يؤمن بالله و اليوم الاخر) أي يقف عند حدود الرسوم؛ وقف طويلا عند قوله في جانب الذين غذوا بروحانية


هذا الدين و هم المهاجرون و الانصار (رضي الله عنهم و رضوا عنه).

و تعليل هذا التفاوت أن الاسلام. كما قلنا، قام دينا تبشيريا نقي التعاليم واضح المبادي ء، و انتهي دينا و دولة؛ و بذلك وجد فيه العرب الناؤون أو الأعراب حكومة ترعي مصالحهم و دينا له أشكاله و طقوسه فاندغموا فيه في حدود شخصيتهم المكونة من عنعنات و عادات و تقاليد سابقة، فلم ينصهروا في بوتقة الاسلام. و يخرجوا سبيكة أخري بل ظلوا علي ما كانوا، بيد انهم خرجوا من حال الي حال. و شاهد هذا حكاية يرويها صاحب الاغاني في ترجمة (عمرو بن سعد يكرب الزبيدي انه قال و هو في محلة زبيد من الكوفة لصديق له في الجاهلية، كان يغتبق معه: هل لك في غبوق؟. فقال: كيف و قد نهي الله عنه، فقال عمرو: و الله لقد قرأت كتاب الله من الجانب الي الجانب فما وجدت فيه تحريما غير قوله بعد أن ذكر أنها رجس من عمل الشيطان، (فهل أنتم منتهون) فقلنا: لا، فسكت و سكتنا!..

هذه القصة تشعرنا بأشياء كثيرة، كالاستخفاف و الفكاهة الساخرة، و قد وصفهم النبي (ص) فأبلغ في صفتهم قال (يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) و هذا هو السر في حض النبي (ص) الأعراب علي الهجرة اليه.

و من ثم اتسعت نفسية العرب للردة، و استعت لأشياء أخري من التحزب و الانشقاق المللي.

و نجد سببا ثالثا كان له أثر في عدم الشعور بروح الاسلام و عدم الشعور بمعني القومية و الامة الواحدة، و هو التعجل بالفتوح الذي نقل العرب قبل اختمار المبادي ء عندهم في أنحاء الأرض غازين، و لكن بعقلياتهم الأولي التي تفهم القبيلة قبل الأمة، و تعرف الفرد قبل الجماعة، و تفقه الاسلام علي أنه أعمال فقط، قبل أن تفقهه علي أنه ضمير و وجدان و روح.

و بهذا نفسر الظاهرة الاجتماعية في كل محيط غلب عليه العنصر العربي،


كالعراق و المغرب و الاندلس؛ هذه الظاهرة التي هي نتيجة للروح القبلية؛ و بعجلة الفتوح لم يترك للاسلام المهلة ليفعل فعله فيها.

فقد كان اذا أخذ علي (ع) لهؤلاء بالسياسة الدينية الصارمة، و هم علي غير استعداد لها وحدها سببا من أسباب الفشل.

(2)سياسة علي (ع) القانونية، فلقد كان يلتمس لكل اجراآته وجوها من القانون أي دينية، و يجتهد بايضاحها قبل أن يقوم بحركة ما. و لا شك في أن طبيعة القانون غير طبيعة الظروف و المفاجآت؛ هذا سبب ثان للفشل. بينما كانت سياسة معاوية لا تتقيد بحدود و لا بأوضاع، و انما تركب كل صعب و ذلول في سبيل أغراضها. و كذلك سياسة مستشاره عمرو.

و خليق بهذه السياسة أن تظفر، لأنها مشتقة من طبيعة الحوادث و من طبيعة الأطماع و من روح الاستمالة. و جدير بهذه الخطة أن تسمي سياسة (خبية) و هي ليست من دين المحافظ؛ و لذا قال عمر بن الخطاب (لست بخب و الخب لا يخدعني)

و شرح هذا بأن نذكر ما جاء في كتاب [1] «تاريخ التمدن الحديث» للدكتور «شارل سنيوبوس» لما تكلم عن القيصر بطرس الاكبر، فقد علل أعماله العظيمة التي قام بها بنشأته الجاهلة العملية، بسبب اهمال أخته له حينما كانت وصية عليه تماس سلطته في الحكم. فلم يتهذب علي ضوء التعاليم الخاصة التي يؤخذ بها عادة أولياء العهد، و لم يؤخذ باحترام ما هو راسخ في البيئة الروسية، و لم يسيطر وجدان عليه من العادات أو القانون. فكانت كل هذه لا قيمة لها في جانب ميوله و أفكاره، و لا قداسة لها الا بمقدار ما تحلو له. فخرج بفكرة هدامة و قام بأعمال جريئة و فاجأ مجتمعه بمفاجآت مثيرة..

و بالجملة فهذا الدور، لا يستطيع أن يقوم به لو نشأ تلك النشأة الخاصة،


التي كانت بدون ريب ستزوده بشعور خفي يعوقه كثيرا عن القيام ببرنامجه. و هذا معقول، فقد كان يقضي عليه أن يلتمس لاعماله شكليات تبرر عمله أمام نفسه قبل كل شي ء، و فرق بين أن يكون مسوقا بشعور نفسي ليبرر عمله علي مقتضي تقاليد الوسط، و بين أن يكون مبرر عمله أنه يريده فقط.

هذا ميزان نستطيع أن نزن به سياسة علي (ع) و معاوية، فقد كان علي محافظا دينيا لا يمكنه أن يسوس الناس الا علي قانونه الخاص الذي يسيطر عليه، و لا يتحلل من أسره. و لذلك هو يلتمس لنفسه دائما شواهد من القانون تبرر عمله، فان لم يجدها أحجم احجام المذعور. و من ثم لا يعطي اذنه لأي ناصح مهما علم صدقه و صدق رأيه، مادام لا يتفق مع الدين أي القانون الذي يحترمه علي (ع) و يعمل به.

بينما كان معاوية متحللا من هذا القيد، فلم تكن سياسته قانونية بل سياسة ظرفية. و من ثم كانت قمينة بالنجاح و جديرة بأن لا تفشل.

(3)روح العراق التي كانت قبلية في ذلك العهد علي شكل و بيل فظيع، اذ كان يجمع أقواما من قبائل شتي، و جهات مختلفة تقوم في مجموعها علي التقليد البدوي القديم الذي لم يؤثر فيه الاسلام شيئا لأنه لم يهاجمه في محل العقيدة و مكان الضمير، و انما هاجمه في الاعمال الظاهرة و الشكل الصوري فقط. و لا يخفي أن البدو يكونون دائما آفة علي النظام، و يوطنون أنفسهم دائما علي الخروج و التمرد و العصيان؛ و بذلك يكونون عامل ضعف لا قوة، و سببا كبيرا من أسباب الفشل في كل حركة.

هذه ملاحظة قيمة أثبتها لورانس في كتابه (الثورة العربية)؛ و بهذا أعلل كل الاضطرابات التي ثارت في محيط العرب، و أبرزها اكراه خليفة كعلي (ع) علي قبول التحكيم و تهديده بأن يفعل به كما فعل بعثمان (ض)، و لقد قال علي كرم الله وجهه في كلمة له (لا رأي لمن لا يطاع) و في كلمة أخري (لا طاعة لمن لا يأتمر).


بينما كانت روح الشام نظامية جدا، فقد فتحت صلحا، و بقي فيها كل الشعب الذي خضع لحكم الغساسنة الذي هو بيزنطي محض؛ فهم كانوا افقه لمعني النظام و تعود الخضوع له، بخلاف شعب العراق الذي كان مؤلفا من قبائل جديدة انحدرت من الجزيرة حاملة لروحها الوبيلة، و لم تتعود الخضوع للنظام أبدا.

(4)من القضايا الثابتة أن البدوي يؤخذ بالاحتكام و الخوف و السيطرة، و بعث الرعب في نفسه و التظاهر عليه بالقوة؛ و الحضرمي يؤخذ بسياسة اللين. و جاءت هذه الحقيقة الثابتة في كل تقريرات قواد الحرب في جبهة الشام و صحراء العرب، و أصحاب الرحلات في المناطق البدوية، و هذا صحيح نظريا أيضا علي ما يقرر النشوئيون و علماء الاجتماع؛ فان البدوي يري في سياسة اللين سياسة ضعف و خور تطمعه و تستخفه بالحكم.

هذه أسباب اجتمعت علي فشل [2] سياسة علي (ع)، ثم كان من تظاهر الأسباب التي قدمنا ذكرها في الكلام علي فترة حكومة عثمان (ض). و أيضا لم تكن لمعاوية ظروف علي (ع) الصعبة، فهو لم يبايع حتي يلزم ببيعته، ثم هو يطالب بباطل يشبه الحق. لأن اقامة الحدود من شأن السلطات لا الأفراد و لا الجماعات، و الا جر ذلك الي فوضي التقاضي، كما أن الشريعة جاءت (علي ما ذكر ابن نجيم في الاشباه) بأن الحكم يضاف الي المباشر لا المسبب (علي فرض أن عليا كان مسببا).

فكان الذي يؤخذ، من الناس، قتلة عثمان الذين باشروا القتل بالنفس و هم


ثلاثة فقط لا أن يؤخذ بدمه أهل المدينة و الكوفة و البصرة و مصر، و بعبارة أخري الأمة بأسرها. و من ثم تظهر مغالطة الذين نادوا بدم عثمان و طالبوا به، و ليست الشريعة جاهلية علي الانتقام و الثأر.

و الحق أن الأشتر النخعي خلق أكبر مشكلة لعلي (ع) ببدئه بالمبايعة قبل أي شخص آخر، و هو من الذين عرفوا بالثورة علي عثمان، و بذلك يكون قد حمل عليا (ع) الحرم كاملا؛ و لقد فهم هذا علي بدليل جوابه له (ليس ذلك اليك انما هو لأهل الشوري و أهل بدر فمن اختاروه فهو الخليفة، فنجتمع و ننظر في هذا الامر).

و سوي هذا فان ما انتهي به الحكيم، كان له أثر كبير في الخطة الحاسمة و المعركة الفاصلة، فقد جمع أهل الشام حول أميرهم، و مكن عندهم وجهة نظرهم، علي ما في طبيعتهم من احترام للسلطة.

و بالعكس من ذلك كله كان الأثر في أهل العراق، فقد تفرقوا و تنازعوا و اختلفوا و خرجت منهم خارجة و بيلة الشأن، علي ما عندهم من استعداد بالفطرة. و هنا ينكشف لنا شي ء آخر في علي (ع) و هي اشخصية النافذة، فقد وقف علي الخوارج و هم في أشد تمردهم، فما أن رأوه في (حروراء) حتي دخلوا الكوفة، و هذا كما أري لمحل الشخصية الفعالة.

و لقد أخطأ من ظن من المستشرقين و سواهم، أن الذي أظفر معاوية بهذه الحكومة هو عمرو بدهائه و غفلة ابي موسي. و الحقيقة أن الذي أظفر معاوية و أكسبه النجاح، هو ابوموسي نفسه الذي لم يكن ما أتاه غفلة وافونا، بل سوء نية و مكر حيث اقترح اقالة علي (ع) و ترشيح عبدالله بن عمر. فقد يحتمل أن يكون غفلة لو كان يعمل لحساب علي كرم الله وجهه، و لكن اما و هو يسعي لتشريح عبدالله بن عمر باستغلال الظرف فمما لا يحتمل أبدا.

علي أنه أسقط في يده، لأن الناس لا يفكرون بترشيح شخص ثالث جديد و هم يسعون الي الصلح. و أري أن عمرا لم يظهر في هذا الموقف أي أثر من الدهاء،


فقد كان كل ما عنده انه ردد كلاما ردده كل الناس، و لم يستطع أن يجي ء بعقدة سياسة أو يخلق مفاجأة. بل الذي أوجد مفاجأة حقيقية هو ابوموسي بالترشيح المباده الذي وقع عند عمرو موقع الدهشة، و الذي جعله يفكر بشي ء آخر، يفكر بأن يعمل لحساب ولده عبدالله، و ابنه هذا له مكانته و دينه و علمه، و الذي يظهرنا علي مبلغ أخذه بهذه المفاجأة و انصراف رأيه تزيينه لابي موسي في ابنه و ثناؤه عليه، و الحق أن عمرا اتتن بهذه الفكرة و داخله الطمع، و أخذ بالفكرة الي مدي بعيد.

و اعتقد لو أن أباموسي كان حسن النية من جانب علي، لما استطاع عمرو أن يكسب شيئا و لا أن يحيك، و هو يعتمد علي كلام مهلهل مله الناس من كثرة ما مضغوه و سمعوه من عائشة و طلحة و الزبير و معاوية و سائر أنصار الاموية و خصوصا اذا علمنا أن حديث الخطب بين ابي موسي و عمرو لم يعتمده كثير من المؤرخين، فأبوموسي ليس مغفلا كما يقولون بل من ذوي الاغراض و الأحابيل.


پاورقي

[1] راجع ص 12 و 13 و 14 و 15.

[2] السدرة السياسية لا تقاس بمقدار النجاح بل بمقدار ما تکون مقدماتها التعليلية صحيحة لان الفشل کثيرا ما يکون نتيجة مفاجأة لم تکن في الحسبان، کما وقع لعلي (ع) بالفعل في حرکة الخوارج و لولاها لکان نجاحه مضمونا او محتوما، و دليل هذا ان السنيور (مازيني) صاحب الکلمة الخالدة (مفاتيح البحر الابيض سقطت في البحر الاحمر فالفوز لمن يظفر بها) و هو صاحب محاولة فتح الحبشة التي انتهت بحادثة (عدوة (الشهيرة اي انتهت بفشله و هو هو صاحب الدماغ السياسي الکبير.