بازگشت

علي في الخلافة


علي بن ابي طالب مظهر فذ من مظاهر التكامل الانساني، و نموذج بارع من نماذج التفوق البشري، و مثال لبلوغ الاستعداد الكامن في النسم. و قد اجتمعت اليه أسباب عديدة من الطبيعة أو الفطرة، و الوارثة و البيئة و التربية، حتي قدمت فيه تلك الشخصية الكبيرة. و التقت عنده الطبيعة القابلة، بالتربية النبوية الفاضلة، و الوارثة العريقة بالبيئة السامية. و كانت حقيقته من وراء ذلك تمده بما يتناهي به، حيث تقصر الاخيلة و تنحسر التصورات:

و في أخصر عبارة، كان انسانا ذا أنحاء، تلتم حلقتا بطانه علي العالم و الحكيم، و العبقري المتحرر و المفكر الجري ء، و المتشرع و الخطيب، و المغامر و المجاهد. هذه أمة من الابطال، تجي ء في بطل من الامة، فلا عجب أن عددناه


عنوان الكفاءة و البطولة العربية في كل التاريخ. و ان من شاء أن يعرف مبلغ ذهنيته الفذة كرم الله وجهه. فما عليه الا أن يقف عند عهده الي الاشتر النخعي. هذا العهد الذي يكشف عن تمام فكرته الاصلاحية و مراميه الانشائية. في نواحي الدولة عموما.

و كان يسعي عليه السلام أن يضع تشريعات مفصلة، تتناول الجهات كافة في الحياة المدنية و الدينية و العسكرية. و الذي لاينكر أن عقله الضخم كرم الله وجهه يميل الي الاتجاه العلمي أكثر من أي اتجاه آخر، حتي يبدو عقلا انسايكلوبيديا خالصا.

و لذا كان المجتمع الاسلامي بعد توسعه الخطير. أكثر ما يكون حاجة الي عقل كهذا العقل يعمل علي النهوض به و الارتفاق بمصالحه، و يضع له قاعدة النظام التي منها يبدأ دور الاستقرار، و يقوم عليها بناء الحكم النموذجي الثابت.

و لولا أن الاستطراد يخرج بالموضوع عن منهجه، لوضعت هذا العهد [1] .


العظيم موضع التحليل، و دللت علي مناحيه العامة فيما يختص بالتنظيم العام. و لكن لا يسعني و أنا أضع صورة عجلي من الانبعاثات في أسبابها المتلاحقة، الا أن أتجاوز كل ما لا يمت اليها بسبب قريب أو منها في مكان الجزء.

ذكرت في الحديث عن الاحزاب التي وجدت في عهد عثمان (ض) انها كانت تجتمع علي خصومة حزب علي (ع)، و قلت هناك ان هذه ملاحظة لها أهميتها في فهم نكوص طلحة و الزبير و خروج عائشة.

و أما الاسباب التي جعلت هذه الاحزاب تميل ميلا ضده، و تعمل مجتمعة علي ابعاد هذا الامر عنه، رغم ما هو منفرد به من مؤهلات دينية و عقلية، و مجتمع له من سابقات نادرة النظير في حقل هذا الدين. فانه خفية الي درجة الغموض، و لكن نستطيع أن نقول قولا يعلل الموضوع في جملته. و هو ما لمسوه من هوي الناس و تعلقهم ببيت علي (ع)، و معني هذا أن الخلافة اذا وصلت اليه لن تخرج عنه أبدا. و بذلك يكونون قد أخذوا الفرصة علي أنفسهم.


هذا أقرب ما يمكن ظنه في هذا المجال الذي يجمع النقيضين علي أنهما شي ء واحد؛ فقد ظهر لنا مما مر أن طلحة و الزبير كانت لهما سياسة مناوئة جدا لسياسة عثمان، و مازالا يعملان حتي انتهي الظرف بمصرع عثمان الشهيد؛ و كانت كلمة طلحة التأبينية (لو دفع مروان ما قتل) التي معناها كما هو واضح أن القتل وقع موقعه، و جاء في محله، و ما جاوز موضعه، و ما عدا أن يكون قانونيا. و سمعنا كيف يحدثنا اليعقوبي عن موقف عائشة حياله، و ما كان من قولها فيه، و زاد بأنها كانت تهيج عليه فقد ذكر اليعقوبي (ان عثمان أغضب عائشة ام المؤمنين، و انه نقص ما كان يعطيها عمر بن الخطاب فتربصت بعثمان، حتي رأته يخطب الناس فدلت قميص رسول الله (ص) و نادت يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله لم يبل و قد أبلي عثمان سنته).

هذا موقف يقضي علي هؤلاء جميعا بأن يبتهجوا بما انتهت به الحوادث، و يطمئنوا الي مجري الامور التي تأخذا سيرا طبيعيا وفق ما مهدوا الي ذلك من أسباب؛ و بالفعل لم يستاؤوا مبدئيا، و لكن ما عتم الامر حتي انقلبوا أشخاصا آخرين علي النقيض مما عرفنا. هذا ما يجعلنا لا نتردد في انهم كانوا يحاربون السلطة في شخص علي (ع) مما يصدق معه ظننا السابق من رسوخ هذا الامر في أهل البيت بمجرد استحواذهم عليه.

هذا متجه في خروج طلحة و الزبير، و أما خروج عائشة فهو يعود في في أكبر ظني الي اغراء الزبير، و لا ننس انه زوج اختها اسماء، و أيضا لا ننس دالة عبدالله بن الزبير الذي كنيت به لفرط حبها له. و قد وافق عندها ميلا خفيا و هوي كامنا، عبرت عنه فيما بعد بقولها، (ما كان بيني و بين ابن ابي طالب الا كما يكون بين المرأة و ابن زوجها) و لهذا أيضا أسباب فيزيولوجية و نفسية عند السيدة عائشة (ض)، فاننا اذا علمنا أن حديث الافك جري و هي في اخريات دور المراهقة، و علمنا ان هذا الدور خطير الاثر (كما يقرر الاطباء) أو له كل التأثير علي البناء العضوي، و هو أيضا شديد الحساسية، بحيث يتكيف مستقبل الحياة بما يصادفه هذا الدور، و علمنا ان هذا الحديث كان بمثابة مفاجأة


ليست بقليلة، و هي غضة الاهاب، لينة العود: لم يمننا من أن نحكم بأنها كانت عصبية المزاج. هذا السبب الفيزيولوجي، و السبب الآخر النفسي، هو أن السيدة (ض) لم تمر في الادوار الطبيعية تامة، و لم تستوف مراحل النشأة كاملة. فلم تخل من طفرة في قط هذه المراحل، حيث لم تخرج عن دور الطولة الي الشباب الذي هو دور الزوجية، بل طفرت الي الزوجية و هي في دور الطفولة، و كان زواجها من النبي (ص) الذي هو، في ذلك الحين، الزعيم المطلق ذو الأعباء و التبعات. و هذا بلا ريب يترك آثارا نفسية من جملتها الاعتداد بالرأي و الاستهانة بما يجي ء به الآخرون، و عدم المبالاة؛ و سيطرة الطفولة [2] في أبرز مناحي التفكير، ضرورة عدم التحرر من أسرها تحررا طبيعيا.

و لقد نلمس النضج التفكيري عند السيدة [3] أم سلمة (ض) حينما دافعتها عن أن تقوم بهذا الدور، و حذرتها منه و برهنت علي نظريتها بتعليلات لا تدحض؛ و لا يتسع المقام لا يراد شي ء من كتابها الحكيم.

و الان نعود بالنظر الي الحزب الأموي بعد الكارثة، و كيف أخذ يعمل في معالجة الحال.

أولي البوادر أتي بها المغيرة، حينما جاء الي علي (ع) يستكشفه رأيه و يستطلع طلع ضميره في الامويين و معاوية علي وجه الخصوص، لما شعر العثمانيون بحرج مكانهم و ضعفهم الشديد حتي اضطر اكثرهم للمبايعة (علي ما اثبت المسعودي). جاء المغيرة في ثوب الناصح الامين و المشير المشفق. و يحسن أن نثبت خبره كما جاءت به الروايات (جاء الي علي رضي الله عنه بعد مقتل عثمان بيومين، فقال


أخلني! ففعل؛ فقال المغيرة: ان النصح رخيص و أنت بقية الناس و أنا لك ناصح و أنا أشير عليك أن لا ترد عمال عثمان عامك هذا، فاكتب اليهم باثباتهم علي أعمالهم. فاذا بايعوا لك و اطمأن أمرك، عزلت من أحببت و أقررت من أحببت؛ فقال علي: و الله لا اداهن في ديني و لا اعطي الرياء في أمري. قال فان كنت قد أبيت فانزع من شئت و اترك معاوية، فان له جراءة هو في أهل الشام مسموع منه، و لك حجة في اثباته فقد كان عمر ولاه الشام كلها، فقال له لا و الله لا أستعمل معاوية يومين أبدا).

اعتقد أن المغيرة لم يبايع حتي الآن، لأنه كان مع الجماعة العثمانية. لم يكن الا دسيسة [4] من قبل الامويين، تستطلعه رأيه فيهم بطريقة لبقة، و قد فهم كل ما يود أن يفهم، و بالاخص فيما يتعلق بمعاوية. و ربما شهد لهذا أن كلامه عن معاوية في شقه الاخير لا يشبه توجيه النظر بل الدفاع، و تأمل هذه العبارة منه (و لك في اثباته حجة فقد كان عمر ولاه الشام كلها) و هل الخليفة في حاجة الي حجة من عمل غيره في تثبيت رجل أو عزله، مما يعطي انه بالدفاع أشبه أو هو الدفاع بعينه.

و لما أيقن معاوية بأنه لابد من عزله و ان لا رجاء و لا حيلة علي ما أنمي اليه المغيرة من الحديث. ابتدأ الصراع ففكر بالمطالبة بدم عثمان (ض) باشارة عمرو ابن العاص (علي ما ذكره المسعودي) و لم تكن فكرة شخصية لمعاوية. و من أجل هذه الغاية اجتهد بالاستيلاء علي قميص عثمان مخضبا بدمائه للتهييج و الاثارة، و قد كان للسيدة أم حبيبة (ض) اخت معاوية و للنعمان بن بشير في الاستحواذ عليه و ايصاله الي يد معاوية أثر كبير.

و الذي يؤيد هذا التقدير ان فكرة الذهاب بالقميص الي معاوية جاءت


متأخرة جدا ممنا يجعلنا لا نشك بأنها نتيجة فكرة مختمرة بدأت تجمع الخيوط لتحرك الدمي علي حسب الأدوار.

و قد ساعدت الامويين الظروف، بأن هيأت في موقعة الجمل فرصة مكنتهم من أخذ الاهبة و الاحتياط لأنفسهم و الاستفادة من ضعف الجانب الذي سيستقبلونه بالكفاح. و الحقيقة انهم استفادوا من وقعة الجمل كثيرا حتي خدعة رفع المصاحف التي أشار بها عمرو بن العاص في صفين. قد ذكر المسعودي (ان عليا (ع) بعث رجلا من أصحابه يقال له مسلم معه مصحف يدعو الي الله فرموه بسهم فقتلوه).


پاورقي

[1] نقتط منه بعض نظرياته التشريعية:

(نظريته في النظام الطبقي) قال (ع): و اعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض و لا غني ببعضها عن بعض، فمنها الجنود و منها کتاب العامة و العامة و منها قضاة العدل و منها عمال الانصاف و الرفق و منها اهل الخراج. ثم يذهب في شرح کل طبقة و مميزاتها بحيث نراه يميل الي مذهب التخصص علي مراتب الکفاءآت. و هذا اول بارقة من النظام في المحيط الاسلامي الذي کان لا يبني التعيين و العزل علي الکفاءة و التخصص.

(نظريته في الموظف الحکومي) قال (ع): فول أنصحهم في نفسک لله و لرسوله و لامامک و انقاهم جيبا و افضلهم حلما ممن يبطي‏ء عن الغضب، ثم الصق بذوي الاحساب و اهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة فانهم جماع من الکرم و شعب من العرف.

(نظريته في الموظف المالي) قال (ع): استعملهم اختبارا و لا تولهم محاباة و أثرة، فانهم جماع من شعب الجور و الخيانة و توخ منهم اهل التجربة و الحياء من اهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام فانهم اکرم اخلاقا و اصح اعراضا و اقل في المطامع اشرافا و ابلغ في عواقب الامور نظرا.

(نظريته في رواتب الموظفين) قال (ع): و اسبغ عليهم الارزاق فان ذلک قوة لهم علي استصلاح انفسهم و غني لهم عن تناول ما تحت ايديهم و استمالة الغير لهم و حجة عليهم ان خالفوا امرک او ثلموا امانتک. و هذه نظرية من اهم النظريات في التعييات و التشکيلات، حتي اثني کل رجال الادارة علي رجاحة النظرية الانجليزية في تضخيم رواتب رجال العدل حرصا علي ان لا يؤخذوا بالرشوة.

(نظريته في وجوب التفتيش علي اعمال الموظفين) قال (ع): ثم تفقد أعمالهم و ابعث العيون من اهل الصدق و الوفاء عليهم فان تعاهدک في السر لأمورهم حدوة لهم علي استعمال الامانة و الرفق بالرعية فان احد منهم بسط يده الي خيانة اجتمعت بها عليه عندک اخبار عيونک اکتفيت بذلک شاهدا فبسطت عليه العقوبة.

(نظريته في التجارة و التجار) قال (ع): ثم استوص بالتجار و اوص بهم خيرا المقيم منهم و المضطرب، و اعلم مع ذلک ان في کثير منهم ضيقا فاحشا و شحا قبيحا، و احتکارا للمنافع و تحکما في البياعات، و ذلک باب مضرة للعامة و عيب علي الولاة فامنع من الاحتکار و ليکن البيع سمحا بموازين عدل و استعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع فمن قارف حکرة بعد نهيک اياه فنکل به و عاقبه في غير اسراف. هذه نظرية في اصول التشريع التجاري خطيرة؛ و الحقوقيون علي اختلاف في نفع و ضرر تدخل الحکومة في (التحکم في البياعات).

(نظريته في وجوب اعتماد الحکومة علي الاصلاح و العمران في مقابل الضريبة) قال (ع): و ليکن نظرک في عمارة الارض ابلغ من نظرک في استجلاب الخراج لأن ذلک لا ينال الا بالعمارة و من طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد و اهلک العباد. و ان العمران محتمل ما حملته و انما يؤتي خراب الارض من اعواز اهلها و انما يعوز اهلها اشراف انفس الولاة علي الجمع و سوء ظنهم بالبقاء.

[2] هذا من الوجهة النفسية صحيح جدا و من اراد تزيد الشواهد علي هذا فعليه بالرجوع الي کتاب لسان الدين الخطيب الموسوم (بالاعلام بمن ولي الحکم قبل الاحتلام) فان هذه الظاهرة کانت کثيرة البروز في مناسبات احکامهم؛ و هذا من اخطاء ممارسة الاحکام و الشعور بعبئها قبل الالوان. و ربما اوضح هذا متناقضات الحاکم بامره الفاطمي.

[3] اثبتنا هذا الموقف الحکيم الرائع لام المؤمنين (ض) في کتاب (ام‏سلمة) و عسي ان نخرجه عما قريب، فانه يضع سيرة ام‏سلمة و يعرضها عرضا واضحا.

[4] راجع المسعودي في المروج ج2 ص256 فقد اثبت ان معاوية بعث الي المغيرة بن شعبة الثقفي بکتاب يقول فيه قد ظهر من رأي ابن‏ابي‏طالب ما کان يقدم في وعده لک في طلحة و الزبير فما الذي بقي من رأيه فينا.