بازگشت

مقدمة


الحق ان فهم أية شخصية تفصلك عنها مراحل شاسعة من التاريخ السحيق يبدو صعبا جدا، و بالأخص اذا كان درسا يتناولها كأنها حي يعيش في مناسبة عادية.

و هذا الدرس يبدو أكثر صعوبة عند شخص كالحسين (ع)، له ظروفه الغامضة. و قد تداركته انعكاسات شتي من تحتها التيار الصاخب الذي انتظم المحيط الاسلامي في ذلك العهد، منذ تراوحت قضية الحكم بين العصبية و الدين، ثم تطورت علي أشكال مختلفة، و ظهرت في كل يوم باهاب. بدأت كرغبة و مطمح، ثم انثنت كانتصار و انتصاف، ثم انتهت كعقيدة و دين. فلم بعد درس الحسين (ع) درسا لشخص له اشياؤه التي لا تنفصل عنه و لا ينفصل عنها، يمكن أن تحكمه و تشخصه، بل كان درسا لكل عناصر التاريخ الاسلامي التي ائتلف منها.

ففيه ندرس الامامة و شروطها، و فيه ندرس أثر العصبية في جري حوادث التاريخ، و فيه ندرس أثر استخدام الدين للمطامع، و فيه ندرس أثر فقد الروح العسكرية في بناء البيوتات، و هكذا من كل ما يمت الي الدوافع السياسية و الاجتماعية و الدينية في الانقلاب الذي عاش في فترته الحسين. فلاجرم أن


كان بحث كهذا البحث، يتصعب و يتسع حتي يتجاوز حدود الدراسة الشخصية.

و كانت دراسته تستدعي تمهلا و أناة و روية بالغة، و تستدعي شيئا آخر ليس من هذا الذي نذكر و لا اليه، و هو التجرد عن شتي النوازع و السيطرات الوجدانية و الاعتقادية. و الا فأية روية اذا كانت محكومة بنازعة أو مغلوبة بنزعة، تكون مبالة و اغراقا في تقرير الجانب الشخصي فقط. و هذا لا يفيدنا سوي احياء الاختلافات التي كانت مصبوغة بصبة اللاهوت، لتأخذ صبغة جديدة من التاريخ التحليلي النقدي.

ثم هذه الجوانب التي نلمح اليها ليس من السهل استيعابها علي وجه الدقة، الا اذا انتشرنا علي مسائل جوهرية تمت الي أساس البيئة العربية، و التقاليد التي تحكمها، و شخصنا تماما أثر النبوة في العصبية، و تربص العصبية للنبوة علي هيئة المستوفز، و درسنا الحالة النفسية قبل القرآن و مقدار تكييف القرآن لها، ثم درسنا أثر الفتوح المبكرة التي أثارها الخليفة الأول (ص) في الوضع الدولي و النفسية العربية، و درسنا النظام العام و عناصره التي تؤلفه، بما يشمل النظام القضائي و المالي و العسكري و درسنا الاحتكام بالتقليد البدوي و نظام العشيرة، و تجاهل الخلفاء للقضاء علي هذا النظام الذي اجتهد النبي (ص) بالقضاء عليه بصفة حاسمة.

هذه الجوانب من الدراسة و ما اليها، تعتبر واجبة لمن يريد فهم الأسباب الصحيحة التي أدت الي هذا المضطرب الخطير في المحيط الاسلامي الواسع، بحيث عجزت اليد الحاكمة عن ضبطه بالمعني الصحيح، حتي اليد الأموية في أزمان سيطرتها و استقرارها. و لقد يخال الناظر أن استقرار الحكم لم يكن الا في مناطق القصور، و لم تكن هيبة السلطة الا مؤقتة. ثم وضع السلطة المطلقة في يد الأمراء، نقل وضعية الحكومة الي استبدادية محضة تحتكم بالهوي و تسخر من القانون القائم.

و ينبغي أن لا يفوتنا التنبيه، علي أن نظام الحكم في عهد الملوك الأمويين لم يكن الا ما نسميه في لغة العصر بنظام الأحكام العرفية، هذا النظام الذي يهدر الدماء و يرفع التعارف علي المنطق القانوني، و يهدد كل امري ء في وجوده. و في


هذا العصر اذا كان يتخذ في ظروف استثنائية و لحالات خاصة، يراد بها الارهاب و اقرار الأمن، فقد كان في العهد الأموي هو النظام السائد.

و في الحق انه لا يمكننا أن نسم تلك السلطة بالسلطة القضائية بل ننكر بكل القوة أن يكون في العصر الأموي سلطة قضائية بالمعني الصحيح، الافي فترات [1] لا تلبث حتي يكون التيار من ورائها طاغيا. و أكبر الشواهد علي هذا أن الخليفة أو حكومته تأتي ما تهوي بدون أن تتخذ لمآتيها شكليات قانونية علي الأقل، مما يشعر باحترام السلطة للقانون.

علي أن شيئا من هذا البلوغ في الحكم بدأ يظهر في العهود العباسية؛ و ما عليك لتعرف هذا، الا أن تقرأ المرسوم [2] الملكي أو المذكرة الايضاحية الصادرة لبيان الأسباب التي بررت قتل أبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر.

و هذه وجهة نظر خطيرة، من الجدير أن يدرس علي أساسها التاريخ الاموي برمته و أن تقدم في فهم غوامضه، و أسباب النزاع المستمر التي صبغ العهد الاموي. و ان من المهم أن نتحقق من عدم السلطة القضائية في ذلك العهد، و أن نزن الاجرآءات الحكومية جميعها بهذا الميزان الذي يعرفنا أكثر ما نحن في حاجة الي معرفته بين يدي الدراسات الأموية.

و انما اجتهدنا في أن نبين هنا وضعا احتكم في كل التاريخ الاموي و صبغه بصبغة و بيلة، تتنافي مع المبادي ء الدينية، لما أنه ترك آثارا كأسوأ ما تكون، في تهذيب الانفعالات، و تكوين العواطف الوجدانية، و توجيه المشاعر. و من ثم


ندرك تماما لماذا كانت الحالة النفسية متبلبلة علي وجه غير قليل، حتي لم يكن لها وجه ثابت، بل كانت تتلون بألوان شتي، الامر الذي يشعر بعدم احتكام العناصر النفسية بتقليد.

و كذلك يبدو الدرس علي هذا الوجه متصعبا غامضا، حتي نقف من تاريخ الحسين موقف الحيرة المطلقة لشدة خفاء الجانب التعليلي في كل مراحل حياته التي كانت أشبه بالبعثرات و ما هي كذلك، و لكن انما انعكس عليها من بلبلة المحيط الذي كان كالآذي في أشد التفافه و اصطخابه، حين يتحطم الموج علي الموج لا لينتهي الي قرار، و لكن ليعود الي حركة زوبعية جبارة، فلا جرم أن تنفصل حياة الحسين منفعلة بصفة من المحيط، و مصبوغة بلون من الوسط.

و أنا اذا أهملت هذا الجانب من الدرس، فلأنه في أكثر ما يكون شخصي، و لأن ما نجتهد اليه من العظة به و الاعتبار بالتسامي النفسي عنده قد يضيع أو هو ضائع علي وجه محقق. فكان من بينهما ما يخول لي أن أتجاوز هذا الدرس الآن، و هذا التناول المستوعب الذي يجي ء في أدق ما يكون، محلا للنظر و المدافعة، بل ما يستوجب هذا التناول من درس شخصيات العهد الرسولي و ما اليه من التاريخ الاسلامي، فنحن لكي نلم الماما صحيحا يجب علينا أن نتفهم أثر يوم السقيفة و أثر الخليفة الأول و الثاني و الثالث، ثم أثر علي عليه السلام علي وجه الخصوص، و أثر معاوية و مستشاره، و أثر انعزال فئة من الصحابة عن نصرة أحد الخصمين الذي بلبل الفكرة الدينية في المجالدة التي استهدف لها المحيط، و مهد في نظري الي نشوء نظرية الخوارج أو نظرية الخروج، و أيضا أثر النظام المحلي الذي انفعل به معاوية الي أبعد حد، و بذلك يكون معاوية قد انتقل طفرة واحدة الي نظام يبعد كثيرا عن النظام النبوي من كل الأطراف.

فنحن لكي نفهم أحداث معاوية و تاريخه و سياسة بلاطه، يلزمنا قبل كل شي ء أن ندرس النظام البيزنطي و ما ترك في الوسط الغساني، و ما أثر به في سياسة الفاتحين و من بعدهم. هذه الدراسات كما نراها تتناول صدر التاريخي الاسلامي و أحداثه التي تركت مدة تثير علي الدوام آلاما و تنشر طفحا خبيثا سود صفحة


التاريخ الاسلامي الي حد نتمكن معه من القول بأنها حالت دون أزكي ثمار الاسلام، و حالت دون حكومة القرآن، و حرفت تعاليم النبي (ص) و شوهت تقاليد حكومة الخلفاء حتي عز المسلم القرآني علي الوجه الكامل.

فلم يكن بد من أن أتجاوز كل هذا و لكن الي حين، أتجاوزه حتي أقدم الجانب الروحي الحي في حياة الحسين عليه السلام، هذا الجانب المفيد و الجانب الذي ننشده في مرحلة حياتنا اليوم، فنحن أحوج ما نكون الي زعيم كالحسين و مجاهد كالحسين و قدوة كالحسين، نسايره و نوازن بما نجد عنده نزوات نفوسنا و طالعات شهواتنا، فلعله يكون درسا مفيدا أو هو مفيد و لا ريب.

و برغم ما أحاول من الابتعاد بالموضوع الان عن التعرض لأبحاث من هذا اللون لا يسعني الا أن أضع صورة و ان كانت مصغرة، و أثبت شكلا و ان أتي منكمشا، و أعرض مشاهد و ان جاءت عجلي، حتي نتمكن من الرجوع القهقري قرونا مما طوي التاريخ، و خلف الفلك في مداراته الواسعة، و نستجلي حقيقة الواقع أو الواقع في صورته البسيطة التي لا مداورة فيها و لا اصطناع.

و الحق أنا لا نزال من فهم عصر الحسين، و الأحداث التي استطيرت و استشرت فيه علي غموض و خفاء، و ذلك لأن الأقلام التي تناولته منذ أول عهد العرب بكتابة التاريخ لم تكن بريئة علي اطلاق القول، بل دارت علي خدمة أغراض شتي بين النزعة المذهبية و الزلفي من السلطة الغالبة. و جدير أن يتكيف تاريخ الحسين من بين هذه الاقلام بكيفية تجعل له لونا مبهما، و تضفي عليه أستارا صفيقة، تتركنا في حيرة من أن لا نصدق شيئا أو نصدق كل شي ء، و لكن هاتين صفتان من السلب و الايجاب، يمكن من بعدهما أن نقتصد و نتحري في جنب أخبار التاريخ، بحيث نخرج بصفة ثالثة تقوم علي النفي و الاثبات جميعا، و علي الوضع و الرفع معا، مما قد نفضي منه الي ما نطمئن اليه حقيقة، و نشعر معه بشعور الصدق، و نجد عنده برد اليقين.


و لهذا جمعنا العزم علي تقديم صورة صادقة في جزء خاص عن مجتمع الحسين، بما يزدحم فيه من المشاهد و الالوان، و النزعات و الاطماع، و الرغبات و النزوات، و الخلجات و الآمال، و تمنيات الافراد و تطلع الجماعات، الي غير ذلك من صور يجي ء عرضها كما لو كانت تمر في الحياة الشاهدة، حقائق مل ء السمع و البصر، لنتمكن في النهاية من الفراغ الي عقد مقارنات شخصية و عصرية و اجتماعية، و الخروج بموازنات تجمع بين عناصر القوة و الدقة، و بذلك لا تختلف موازيننا الا بمقدار ما يجتمع في الموزون من زيادة حقيقية.

و الآن في هذه الالمامة نتناول علي وجه تقريري مجرد، الاسباب الهامة التي عملت علي بلبلة الروح الاسلامي، و مهدت الي البعثرات المتلاحقة التي لم تهدأ الا باغتيالات كبيرة لأعظم الشخصيات، و أيضا لم تهدأ بالمعني المقصود من هذا اللفظ، بل بقيت تظهر في انبعاثات و انتفاضات من حين لآخر.

و نحن لن نقف الا عند الحوادث البارزة التي تركت في نظرنا تأثيرات انتهت بالمصارع المتناوحة، و كانت بمثابة مقاتلة عنيفة. و قد انتهت علي اما انتهت به من بعد عن معناة الدين و روح الشريعة، و انتقلت مع هذه الغلبة من أن تكون حكومة شوروية ليس الخليفة فيها أكثر من ممثل للسلطة، الي أن يكون الخليفة أو الملك مولي الرعية و مالك الرقاب، بحيث لا يبقي للامة شخصية معنوية مستقلة زائدة عن حدود شخصيته، علي طراز من حكومات القدماء الاتوقراطية.

بينما جاء القرآن بمبدأ الشوري، و أحله احلالا عمليا و رفع بالشعب الي مستوي الملك؛ و هذا المبدأ اجتهد بتطبيقه الخلفاء، و جعلوه طابع حكومتهم. و لهذا كان الصراع بين علي و معاوية ليس شخصيا فقط، بل صراع بين مبدأين في مواقف حاسمة، صراع بين الخلافة التي معناها [3] النيابة عن الامة، و هي


تتضمن معني الرعاية و الحدب و الانتفاء من الاحتكام. و بين الملك الذي معناه [4] الغلبة و السيطرة و جمع الحريات باليد الواحدة و ضغطها الي درجة الانحاء أو الاجهاز...


پاورقي

[1] کفترة حکم عمر بن عبدالعزيز الذي سماه بعض المؤرخين بجدارة (الخليفة الخامس من الراشدين) و الذي نعته الامام جعفر الصادق (ع) بالرجل الصالج.

[2] راجع معجم الادباء ج 1، ص 238 الي 253 و هي مذکرة نادرة المثال و اعلام قضائي خطير من حيث تبرير عمل السلطة و اجراءاتها بما يتضح معه مقدار احترام السلطة للقانون و مقدار نفوذه حتي علي السلطان أو الخيلفة.

[3] الخلافة کلمة من کلمات الاسلام بالغة غاية اللباقة في تحديد مهمة الحکومة و مهمة الحاکم بحيث تضع حاجزا بين عدوان الهيئتين: هيئة السلطة و هيئة الشعب و تحفظ حقوق الطرفين بدون مساس، و هي مبنية علي وجهة متطورة جدا.

[4] و الملک لفظ يرادف تماما کلمة (الحرية المضغوطة) و کم تبدو سمجة في ذوق المدنيين حين يکون من مفاهيمها اللازمة الرق و الاستخذاء، و لذا کانت کلمة مبغضة من صاحب الشريعة صلوات الله عليه، و هذا ما يشعرنا بأن القصد الديني في الحکومة کان نبيلا الي أبعد حد و شعبيا علي اسمي غاية. و تأمل بدقة قوله (ص) (الخلافة بعدي ثلاثون ثم تکون ملکا عضوضا).