بازگشت

المعركة الخالدة


حصّن الإمام(عليه السلام) مخيّمه وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.

نظر شمر بن ذي الجوشن إلي النار في الخندق فصاح: «يا حسينُ تعجّلت النار قبل يوم القيامة، فرد عليه أنت أولي بها صِلِيّا» [1] ، وحاول صاحب الحسين(عليه السلام) مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الإمام ومنعه قائلا: «لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم» [2] .

ويقول المؤرخون: إن بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الاُولي، وأنّ الإمام (عليه السلام) أخذ مصحفاً ونشره علي رأسه ووقف بإزاء القوم فخاطبهم للمرة الثانية بقوله: يا قوم! إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله(صلي الله عليه وآله) ثم استشهدهم عن نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبي (صلي الله عليه وآله) ودرعه وعمامته فأجابوه بالتصديق فسألهم عمّا أقدمهم علي قتله، قالوا: طاعةً للأمير عبيدالله ابن زياد، فقال(عليه السلام): «تباً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً أحين استصرختمونا [3] والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها علي عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم إلباً [4] لأعدائكم علي أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ ـ لكم الويلاتُ ـ تركتمونا والسيفُ مشيم والجأش طامن والرأي لمّا يستحصفْ! ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا [5] ، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش، ثم نقضتموها فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأُمّة وشُذّاذَ الأحزابِ و نبذة الكتابِ ومحرّفي الكلِمِ وعصبة الإثمِ ونفثةَ الشيطان ومطفئي السُنَنِ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون؟ أجل! والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه اُصولكم وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شجيً للناظر وأكلةً للغاصب. ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السِّلة والذلة. وهيهات منا الذلة! يأبي اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ واُنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الاُسرة علي قلة العدد وخذلان الناصر. ثم أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي:



فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْمـا

وإن نُهْـزَمْ فغيْرُ مهزَّمينـا



وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكـن

منـايانا ودولـةُ آخـرينا



فَقُلْ للشامتين بنا أفيقـوا

سَيَلْقي الشامتون كما لقينا



إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس

كلاكله أناخ بـآخرينا [6] .



أما والله لا تلبثون بعدها إلاكريثما يُركبُ الفرس، حتي تدور بكم دور الرَّحي، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله(صلي الله عليه وآله) (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون) [7] (إني توكلتُ علي الله ربي وربكم مامن دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها إن ربي علي صراط مستقيم) [8] ثم رفع

يديه نحو السماء وقال: «اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً، فإنهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير» [9] .

كل ذلك وعمر بن سعد مُصرّ علي قتال الحسين(عليه السلام)، والإمام الحسين(عليه السلام) يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولما لم يجد النصح مجدياً قال لا بن سعد: «أيْ عمر أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك علي قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاً بينهم» فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً [10] .

واستحوذَ الشيطان علي ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثم رمي باتجاه معسكر الحسين(عليه السلام) وقال: «إشهدوا أني أولُ مَنْ رمي» ثم ارتمي الناس وتبارزوا [11] .

فخاطب الإمام(عليه السلام) أصحابه قائلا: «قوموا رحمكم الله إلي الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم اليكم» [12] .

فتوجهوا إلي القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت مستبشرين بلقاء الله جل جلاله، وكأنهم رأوا منازلهم مع النبيين والصديقين وعباده الصالحين، وكان لا يقتل منهم أحد حتي يقول: السلام عليك يا أبا عبدالله ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين(عليه السلام) حتي يَقْتل العشرة والعشرين) [13] .

استمرت رحي الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحابُ الحسين(عليه السلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا علي آخِرنا. لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشقهم بالنبال والحجارة. فبدأ الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين(عليه السلام) وأحاطوا بهم من جهات متعددة مستخدمين كل أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتي قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.

وزالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسين(عليه السلام) ينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم يكن في مقدور السيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلي حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.

ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل، حتّي لم يبق مع الحسين (عليه السلام) إِلاّ أهل بيته خاصّةً. فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين (عليه السلام) ـ واُمّه ليلي بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ ـ وكان من أصبح النّاس وجهاً، فشدَّ علي النّاس وهو يقول:

تالله لا يحكم فينا ابن الدَّعي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال: عليَّ آثام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم اثكل أباه ؛ فمرَّ يشدُّ علي النّاس كما مرَّ في الأوّل، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصرع، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم، فجاء الحسين (عليه السلام) حتّي وقف عليه فقال: «قتل الله قوماً قتلوك يا بنيَّ، ما أجرأَهم علي الرّحمن وعلي انتهاك حرمة الرّسول!» وانهملت عيناه بالدُّموع ثمّ قال: «علي الدُّنيا بعدك العفا» وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا أُخيّاه وابن أُخيّاه، وجاءت حتّي أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلي الفسطاط، وأمر فتيانه فقال: «احملوا أخاكم» فحملوه حتّي وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه.

ثمّ رمي رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال له: عمرو بن صبيح عبدالله بن مسلم بن عقيل (رحمه الله) بسهم، فوضع عبدالله يده علي جبهته يتّقيه، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلي جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحي عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.

وحمل عبدالله بن قُطبة الطائي علي عون بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله.

وحمل عامر بن نهشل التّيميّ علي محمّد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله.

وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ علي عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله.

قال حميد بن مسلم: فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله لأشدَّنَّ عليه، فقلت: سبحان الله، وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون علي أحد منهم ؛ فقال: والله لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّي حتّي ضرب رأسه بالسّيف ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه! فجلي [14] الحسين (عليه السلام) كما يجلي الصقر ثمّ شدَّ شدّة ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّي عنه الحسين (عليه السلام). وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّي مات.

وانجلت الغبرة فرأيت الحسين (عليه السلام) قائماً علي رأس الغلام وهو يفحص برجله والحسين يقول: «بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك» ثمّ قال: «عزَّ ـ والله ـ علي عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت ـ والله ـ كثرَ واتروه وقلَّ ناصروه» ثمّ حمله علي صدره، فكأنِّي أنظر إلي رجلي الغلام تخطّان الأرض، فجاء به حتّي ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلي من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام).

ثمّ جلس الحسين (عليه السلام) أمام الفسطاط فاُتي بابنه عبدالله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقّي الحسين (عليه السلام) دمه، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال: «ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين» ثمّ حمله حتّي وضعه مع قتلي أهله.

ورمي عبدالله بن عقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام) فقتله.

فلمّا رأي العبّاس بن عليّ رحمة الله عليه كثرة القتلي في أهله قال لإخوته من اُمِّه ـ وهم عبدالله وجعفر وعثمان ـ يا بني اُمِّي! تقدّموا حتّي أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم. فتقدّم عبدالله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانيء بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانيء لعنه الله. وتقدّم بعده جعفر بن عليّ (عليه السلام) فقتله أيضاً هانيء. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّ (عليه السلام) وقد قام مقام إخوته فرماه بسهم فصرعه، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه.

وحملت الجماعة علي الحسين (عليه السلام) فغلبوه علي عسكره، واشتدَّ به العطش، فركب المسنّاة [15] يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء، فقال الحسين (عليه السلام): «اللّهمّ أظمئه» فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين (عليه السلام) السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم، فرمي به ثمّ قال: «اللّهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيِّك» ثمّ رجع إلي مكانه وقد اشتدَّ به العطش.


پاورقي

[1] مقتل الحسين، للمقرم: 277.

[2] مقتل الحسين، للمقرم: 277، تاريخ الطبري: 3 / 318.

[3] استصرختمونا: طلبتم نجدتنا.

[4] إلباً: مجتمعين متضامنين ضدنا.

[5] الدَّبا: الجراد الصغير.

[6] تاريخ ابن عساکر: 69/265، اللهوف في قتلي الطفوف، ابن طاووس: 59 و 124.

[7] يونس (10): 71 و هود (11): 56.

[8] يونس (10): 71 و هود (11): 56.

[9] مقتل الحسين، للمقرم: ص289 ـ 286، مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 6، تاريخ ابن عساکر، ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام): 216، راجع إعلام الوري: 1 / 458.

[10] مقتل الحسين للمقرم: 289.

[11] الإرشاد: 2 / 101، اللهوف: 100، إعلام الوري: 1 / 461.

[12] مقتل الحسين للمقرم: 292.

[13] سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 76.

[14] جلّي ببصره: إذا رمي به کما ينظر الصقر الي الصيد. «الصحاح ـ جلا ـ 6: 2305».

[15] المسناة: تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. «تاج العروس ـ سني ـ 10: 185».