بازگشت

الغدر بمسلم بن عقيل


اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء علي الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل علي النظام الاُموي، وسارع للقضاء علي مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسين(عليه السلام) وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً للتجسّس علي تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه [1] فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ علي هانيء بن عروة الذي آوي رسول الحسين(عليه السلام) وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جري بينهما، وألقي بجثمانه من أعلي القصر إلي الجماهير المحتشدةحوله، فاستولي الخوف والتخاذل علي الناس، وذهب كلّ إِنسان إلي بيته وكأنّ الأمر لا يعنيه [2] .

ولمّا علم مسلم بما جري لهانيء ورأي تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادي مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار علي ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب علي المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم [3] .

لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلي حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوي الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّي بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه علي الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضي يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً علي باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلي الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبي أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتي أسرع ولدها إلي القصر وأخبر محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ الي ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده [4] بقيادة ابن الأشعث إلي المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتي أدرك أنّ القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتي أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ الي الأرض فاُخذ أسيراً وحمل علي بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه الي القصر فاُدْخِلَ علي ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجري بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل ـ رضوان الله عليه ـ رابط الجأش منطلقاً في بيانه قويّ الحجّة، حتي أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به الي أعلي القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلي الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلي جانب هانيء بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلي الحسين(عليه السلام) يخبره بما جري في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص اليهم، فوعده ابن الاشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده [5] .


پاورقي

[1] إعلام الوري: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.

[2] الکامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام الوري: 1 / 441.

[3] سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الوري: 1 / 441، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والکامل في التأريخ: 3 / 271.

[4] جاء في «الإرشاد» أنّهم کانوا سبعين رجلا.

[5] يراجع في تفصيلاته الي: اعيان الشيعة: 1/592، إعلام الوري: 1 / 442، والکامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل الطالبيّين: 92.