بازگشت

في سورية و لبنان


اما في سورية و لبنان و توابعهما، فان النياحة علي الامام الحسين الشهيد كانت في مد و جزر، منذ أن وطئت أقدام السبايا الشام سنة 61 ه و مثولها بين يدي يزيد، كما مر تفصيل ذلك في فصل سابق. و قد أخذت الأوساط الشامية و غيرها من المدن السورية و اللبنانية منذ ذلك التاريخ تقيم المآتم و المناحات علي فاجعة كربلاء في الدور و أماكن العبادة المخصصة لها بصورة علنية أو سرية حسب الظروف التي تفرضها السلطة القائمة و الحكومة المسيطرة علي الحكم من اطلاق الحرية للجاليات الشيعية أو الضغط عليها.

و من الملوك الذين تنفس الشيعة الصعداء علي عهدهم في هذا البلاد الملوك الحمدانيون الذين كانوا علي مذهب الشيعة، و الذي لهم مواقف مشهودة في خدمة


هذا المذهب، و خاصة علي عهد الملك عبدالله بن حمدان، الذي كان له السهم الأوفر في اقامة معالم هذا المذهب في المناطق التي كان يملكها أولئك الملوك الشيعة.

و مما ساعد علي انتشار مذهب الشيعة في هذه البلدان، و خاصة في القرون التي أعقبت القرن الثالث الهجري، قيام الحكم البويهي في العراق و ايران، و الحكم الفاطمي في مصر، و الحكومات التي أعقبت الحكم الحمداني في سورية و لبنان و ما جاورهما، كبني مروان و غيرهم من الأمراء، و حتي حلول الحكم العثماني، و كلما اشتد ساعد الشيعة في هذه البلاد كلما انتشرت شعائر اقامة العزاء الحسيني و النياحات عليه، خاصة في بيورت، و دمشق، و حلب و صور، و صيدا، و طرابلس، و بعلبك، و النبطية، و بنت جبيل و غيرها من القري و الدساكر.

أما علي العهد العثماني فقد أخذ ضغط السلطات العثمانية يشتد علي الشيعة في مدن سوريه و لبنان الكبري، مما اضطر أفراد هذه الجالية الي الانسحاب منها و الهجرة الي الأقطار المجاورة أو الي القري النائية في منطقة جبل عامل التي أصبحت بصورة تدريجية مقرا رئيسيا للشيعة في البلاد السورية و اللبنانية، و صاروا يقيمون فيها مراسيم العزاء الحسيني و مواكب النياحية في شهري محرم و صفر و سائر أيام السنة.

و فيما يلي نبذ مما عثرت عليه في بطون الكتب عن هذه النياحات علي عهد عزة الشيعة في تلك الديار:

1- جاء في الصفحة «69» من كتاب «خطط جبل عامل» للعلامة الفقيد السيد محسن الأمين، ما عبارته:

«و يوجد في حلب مشهد ينسب الي الحسين عليه السلام و له أوقاف جمة يصرف ريعها علي الاطعام يوم عاشوراء، و هي باقية الي الآن، لكن أهل حلب يصرفونه علي الاطعام في ذلك اليوم بعنوان أنه يوم عيد لا يوم حزن. و الظاهر أن هذه الأوقاف من الشيعة الذين كانوا بحلب، أما المشهد فلا نعلم أصله، و ربما كان من


زمن سيف الدولة».

2- و جاء في الصفحة «149» من الكتاب نفسه، ما لفظه:

«حسينيات جبل عامل - جمع حسينية - و هي: بمثابة تكية منسوبة الي الامام السحين السبط الشهيد، لأنها تبني لاقامة عزائها فيها. و أصل الحسينيات من الايرانيين و الهنود، بنوها في بلادهم، و بنوها في العراق أيضا، و وقفوا لها الأوقاف، و جعلوا لكل منها ناظرا و قواما. و هي: عبارة عن دار ذات حجر و صحن فيها منبر يأوي اليها الغريب، و تقام فيها الجماعة، و ينزلها الفقراء، و يقام فيها عزاء سيد الشهداء في كل أسبوع في يوم مخصوص و في عشرة المحرم، و تختلف حالتها في الكبر و الصغر، و الاتقان و كثرة الريع، باختلاف أحوال منشئيها. و هذه لم تكن معروفة قبل عصرنا في جبل عامل...» الخ.

و يستطرد الكتاب فيقول:

و أول حسينية أنشئت في جبل عامل، هي «حسينية النباطية التحتا» ثم أنشئت عدة حسينيات في صور، و النباطية الفوقا، و كفررمان، و بنت جبيل، و حاروف، و الخيام، و الطيبة، و كفر صبر، و غيرها..» الخ.

و تجمع الشيعة في حبل عامل و قراه ساعد كثيرا بمرور الأيام علي انتشار مجالس العزاء الحسيني و اقامة النياحات فيها، احياء هذه الذكري المؤلمة علي طول السنة، و خاصةء في شهري محرم و صفر، و بالأخص العشرة الأولي من المحرم.

3- جاء في الصفحة «215» من الجزء الأول، من كتاب «هكذا عرفتهم» لمؤلفة جعفر الخليلي، عند تعرفه علي العلامة السيد محسن الأمين، و وصف موافقه الاصلاحية في الشؤون الدينية، و خاصة في موضوع العزاء الحسيني عليه السلام ثم زيارته له في مدينة دمشق في احدي زياراته لسورية قائلا:

«و دعاني السيد محسن في تلك الزيارة لحضور مجلس من مجالس المآتم الحسينية تقام في تلك الليلة بدمشق فقلت له:


انني أشكوا التخمة، لكثرة ما حضرت هذه المجالس و ما سمعت من أحاديثها قال: و لكنك ستسمع في هذا المجلس ما لم يكن قد سمعت... و ستري خطباء جددا أعددتهم لمثل هذا، و أنا أسعي لاعداد المزيد منهم. ثم قال: و اني ألزمك بالحضور في هذه الليلة، فاياك أن تتخلف، و لكني خرجت و لم أعد.

و بعد يومين أو ثلاثة زرته في بيته المذكور فلامني علي عدم حضوري المجلس في تلك الليلة...» الخ.

4- و لا زالت شعائر احياء هذه الذكريات الحزينة تقام في كثير من الأنحاء و المدن في سوريا و لبنان، و خاصة الأخيرة منها، و بالأخص المناطق التي تقيم فيها الجاليات الشيعية، كجبل لبنان، و بيروت، و دمشق، و تقام هذه المآتم عادة في العشرة الأولي من محرم، و تتجلي بأسمي مظاهرها يوم عاشراء، الذي تقام فيها الاحتفالات الحزينية الشاملة و خاصة الحفلة التي تقيمها الجمعية الخيرية الاسلامية العاملية التي يحضرها كبار الشخصيات الرسمية و الأهلية في لبنان، و تلقي فيها الخطب التي يستعرض فيها الخطباء الحادث المؤلم في كربلاء و ملابساته، و ما جري فيه من ظلم و عسف علي آل بيت المصطفي صلي الله عليه و آله و.

و في سنة 1393 ه - 1973 م، قررت الحكومة اللبنانية جعل يوم عاشوراء - أي العاشر من محرم كل سنة- عطله رسمية في جميع أنحاء لبنان، تعطل فيها جميع الدوائر الرسمية، و المؤسسات الأهلية، و الأسواق و الأعمال. و هذه هي المرة الأولي في تاريخ لبنان تقدم فيه حكومة لبنان علي جعل يوم عاشوراء الحسين يوم عطلة رسمية.. كما أفادت الأنباء أن سكان مدينة (النبطية) في لبنان التي يقيم الشيعة بصورة خاصة في محرم كل سنة فيها ذكري مهيبة لمصرع الامام الحسين قد طبروا رؤوسهم هذه السنة يوم عاشوراء، و ذلك ضمن شعائر الحزن الذي أقاموه، و المواكب العزائية التي سيروها في ذلك اليوم الحزين، و قدر عدد المطبرين (400) رجل.


5- جاء في الصفحة «25» في كتاب «السيد محسن الامين،سيرته» السالف الذكر عنه وصفه لدراسته الأولية في بنت جبيل سنة 1301 ه و وصول الشيخ موسي شرارة اليها من النجف في تلك السنة قوله:

«و أحيا- أي الشيخ موسي - اقامة العزاء لسيد الشهداء و رتب لذلك مجالس علي طريقة العراق».

ثم يستطرد السيد الأمين في الصفحة «26» من الكتاب و اصفا المجالس العزائية التي تقام ليلا في هذه المدينة اللبنانية لاحياء ذكري استشهاد الحسين و ذلك في الشعرة الأولي من محرم كل سنة و يقول:

«و في اليوم العاشر منه تعطل الأعمال الي ما بعد الظهر و يقرأ مقتل أبي مخنف ثم تزار زيارة عاشوراء ثم يؤتي بالطعام الي المساجد، و في الغالب يكون من الهريسة، فيأتي كل انسان بقدر استطاعته، فيأكل منه الفقراء، و يأكل منه قليلا الأغنياء للبركة، و يفرق منه علي البيوت. كل ذلك تقربا الي الله تعالي عن روح الشهيد أبي عبدالله السحين عليه السلام. اما القري التي ليس فيها نسخة المجالس فيقتصر علي قراءة المقتل يوم العاشر و يقرأ منه في ليلتين أو ثلاث قبل ليلة العاشر، كل ليلة شيئا - حتي يكون الباقي الي يوم العاشر خاصة بالمقتل وحده. و كانت المجلس التي أنشها الشيخ موسي علي ما فيها من عيوب أصلح بكثير مما تقدمها. و كانت مبدأ الاصلاح لمجالس العزاء الحسيني...» الخ.

و جاء في الصفحة «73» من الكتاب نفسه عند بحث الأمين موضع عودته من النجف الي دمشق في شعبان سنة 1319 ه احساسه بلزوم قيامه بالاصلاحات الدينية و الاجتماعية فيها قوله:

«3- مجالس العزاء - أي العزاء الحسيني - و ما يتلي فيها من أحاديث غير صحيحة و ما يصنع في المشهد المنسوب الي زينب الصغري المكناة بأم كلثوم في قرية راوية من ضرب الرؤوس بالسيوف و القامات و بعض الأفعال المستنكرة،


و قد صار ذلك كالعادة التي يعسر استئصالها، لا سيما انها ملبسة بلباس الدين».

و يستطرد في كلامه و يقول في الصفحة «75» منه: «أما الأمر الثالث و هو اصلاح اقامة العزاء لسيد الشهداء عليه السلام فكان فيه خلل من عدة جهات».

و بعد أن يفصل الكلام عن أسلوب اصلاح هذا الخلل يقول في الصفحة «77» من الكتاب:

«و كانت هذه الأعمال تعمل في المشهد المنسوب الي السيدة زينب بقرب دمشق..» الخ.

لقد نقلت هذه النبذ عن الامام الثقة السيد محسن الأمين لتأكيد الدلالة علي أن اقامة المأتم الحسيني و مراسمه و النياحة علي الامام الحسين عليه السلام كانت مستمرة في دمشق و لم تنقطع منذ سنة «60 ه» التي اتي بالسبايا اليها بعد قتل السحين عليه السلام في كربلاء كما مر في صدر هذا البحث.